ترجمة: أحمد العوفي. مراجعة: لجين اليماني.
موجز المترجم
يجادل الكاتب أن العنف والسعي لاحتكاره هو ما يفسر ظهور الدولة الحديثة في أوروبا وليس المبادئ الفلسفية المثالية أو التعاقد الحر ، الأمر الذي يجعل عملية نشأة الدولة لا تختلف عن طريقة عمل عصابات الجريمة المنظمة. إنه يبين عبر أمثلة تاريخية من التجربة الأوروبية أن الدولة الحديثة هي نتيجة غير مقصودة لسعي بناة الدول لتأمين مصالحهم عبر أربعة أنشطة تتمثل في: صناعة الحرب واستخراج الموارد من المناطق المحكومة وبناء أجهزة الحكم وتقديم الحماية للطبقات الحليفة. التفاوت في نصيب كل من هذه الأنشطة المتداخلة يفسر التنوعات في أشكال الدول في أوروبا. انتهى المطاف بالتجربة الأوروبية، حسب رؤية الكاتب ، إلى تقييد صلاحيات الحكام الذين كانوا في حاجة للموارد من المحكومين من أجل تمويل حروبهم عبر الضرائب والديون. مع الاستعمار وتمدد نظام الدولة الأروربي، حصل الحكام في باقي أنحاء العالم على آلة الحرب من أوروبا دون الحاجة إلى الإعتماد على الموارد من المحكومين الأمر الذي منح من يمتلك زمام الأجهزة العسكرية القوة الاستثنائية للدولة الحديثة لكن من دون صلاحيات مقيدة.
الإحالة إلى المقالة الأصلية
Tilly, Charles. 1985. “War Making and State Making as Organized Crime.” In Bringing the State Back in. edited by P. Evans, D. Rueschemeyer and T Skocpol. Cambridge, UK: Cambridge University Press.
تحذير
إذا كان جني الاتاوات بالبلطجة (protection rackets) يعد أنعم أشكال الجريمة المنظمة فإن صناعة الحروب وبناء الدول -والتي تقوم بنفس النشاط متحصنة بمزية الشرعية- يجوز اعتبارهما أهم الأمثلة على الجريمة المنظمة. ومن دون التوسع في وصف الجنرالات ورجال الدولة كقتلة أو لصوص، سأسعى إلى تبيين فائدة هذا التشبيه على الأقل في التجربة الأوروبية خلال القرون القليلة الماضية. إن اعتبار صانعي الحرب وبناة الدول كمقاولين للقوة الجبرية يسعون لمصالح ذاتية لهو اعتبار مقارب للحقيقة أكثر من التصورات البديلة: كفكرة العقد الإجتماعي، أو فكرة السوق المفتوح الذي يقدم فيه قادة الجيوش والدول خدمات لزبائن راغبين طوعياً أو فكرة المجتمع الذي يتشارك معايير وتطلعات تستدعي هذا النوع من الحكومات.
إن ما سأقوم به فيما يلي من تأملات هو محاولة توضيح هذا التماثل بين صناعة الحروب وبناء الدول من جهة وبين الجريمة المنظمة من جهة أخرى كما تجلّى في القرون القليلة المنصرمة من التجربة الأوروبية وأن أقدم محاججة مبدئية حول مبادئ التغير والتنوع التي تحكم هذه التجربة. إن تأملاتي هذه نابعة من اشكاليات معاصرة: القلق من تضحم القوة التدميرية للحرب، و توسع القوى العظمى في امداد الدول الفقيرة بالسلاح والتنظيمات العسكرية، وتزايد الأهمية التي يحظى بها الحكم العسكري في هذه الدول. إن أملي من كتابة هذه التأملات هو أن يساعدنا الفهم الجيد للتجربة الأوروبية على أن نفهم ما يحدث اليوم بل ربما أن نفعل شيئًا حياله.
إن العالم الثالث في القرن العشرين ليس شديد الشبه بأوروبا في القرن السادس عشر أو السابع عشر. فمن غير الممكن أن نقرأ ببساطة مستقبل دول العالم الثالث من خلال ماضي الدول الأوروبية. لكن الدراسة العميقة للتجربة الأوروبية ستخدمنا كثيراً وتكشف لنا كيف أن الإستغلال القسري لعب دوراً كبيرا في بناء الدولة الأوروبية. إنها سترينا أيضا كيف أن المقاومة الشعبية للإستغلال القسري أجبرت من سيكون في السلطة على التنازل عبر تقديم الحماية للناس و تقييد صلاحيات السلطة. وهذا بدوره يعني أنها ستساعدنا على التخلص من المقارنات الضمنية الخاطئة بين العالم الثالث اليوم وأوروبا بالأمس، التوضيح الذي سيسهل علينا أن نفهم على وجه التحديد كيف أن عالم اليوم مختلف وسيرشدنا بالتالي إلى ما ينبغي علينا تفسيره. بل ربما تساعدنا الدراسة العميقة للتجربة الأوروبية على تفسير الحضور المتضخم للتنظيمات والعمليات العسكرية حول العالم. ورغم أنني سأكون مسرورًا إذا تحقق هذا الفهم، إلا أنني لا أعد بإضافة ضخمة.
وإذن فهذا المقال معنيّ بدور وسائل العنف المنظمة في ظهور وتحول تلك الأشكال المميزة من الحكم والتي نطلق عليها الدولة-الأمة ذات التنظيمات المركزية نسبيًا والمعقدة والتي يدّعي مسؤولوها بقدر متفاوت من النجاح التحكم في وسائل العنف المتركزة ضمن تجمع بشري يقطن منطقة جغرافية شاسعة ومتصلة. هذه الحجة هي نتاج دراسة تاريخية لتشكل الدولة-الأمة في أوروبا الغربية وبالأخص نمو الدولة الفرنسية من العام ١٦٠٠ فصاعداً. لكن الوصول إلى هذه الحجة تطلب قفزات مقصودة من ذلك العمل للتمعن فيه من مسافة نظرية بعيدة. فالحجة تستند على عدد من الأمثلة دون أن ترقى لأن تكون أدلة بما تعنيه الكلمة من معنى.
تماما كما يعيد المرء حزم حقيبة ظهره التي كان قد ملأها على عجل، متخلصًا بعد مضي أيام من المشي مما لا يحتاجه و مرتبًا الأغراض حسب الأهمية ليخفف الحمل، فقد أعدت ترتيب حقيبتي النظرية متأهبا للتسلق القادم،و سيكون ما تبقى من الطريق هو الاختبار الحقيقي لجودة الترتيب الجديد. إن الحجة الجديدة المشذبة تشدد على الاعتماد المتبادل بين بناء الدولة وصناعة الحرب والتماثل بين هاتين العمليتين وبين ما نسميه – حينما يكون أصغر وأقل نجاحا- جريمة منظمة. فيما يلي سأحاجج أن الحرب تصنع الدول كما سأؤكد أن قطع الطرق والقرصنة و تناحر العصابات و عسعسة الشرطة وصناعة الحرب كلها تنتمي إلى ذات السلسلة المتصلة (continuum) ، وأخيرًا سأؤكد أن الرأسمالية التجارية وبناء الدولة عززا بعضهما خلال الفترة التاريخية المحدودة التي أصبحت فيها الدولة-الأمة التنظيم المهيمن في الدول الغربية.
الحماية ثنائية الحد
إن كلمة “حماية” (Protection) تحمل إيحائين متعاكسين في المعجم الأمريكي المعاصر إحداهما جالب للارتياح والآخر مشؤوم. الايحاء الأول يستدعي صورة الوقاية من الخطر يقوم بها صديق قوي أو بوليصة تأمين أو سقف بيت. أما الأخر فيستدعي للأذهان الإتاوة التي يفرضها بلطجيّ على تجار كي يأمنوا الضرر – الضرر الذي يهدد به ذات الرجل الذي يقوم بحمايتهم. الفرق بين الإثنين هو فرق في الدرجة: فرجل الدين الذي يتوعد بالنار والهلاك من المرجح أنه سيتكمن من جمع التبرعات من أتباعه بقدر إيمانهم بتنبؤاته بعذاب النار لمن يكفر بذلك. قد يكون البلطجي في حيّنا كما يدّعي بالفعل؛ أفضل من يضمن لدار الدعارة نشاطًا خاليًا من تدخلات الشرطة.
إن استحضار الذهن لأحد الصورتين لمعنى كلمة “حماية” يعتمد بشكل أساسي على تقييمنا لأي مدى نعتبر هذا التهديد حقيقيًا وخارجيًا. الشخص الذي يكون مصدرا لكل من الخطر و الوقاية منه -بمقابل- هو البلطجي جاني الاتاوة (racketeer)، أما الشخص الذي يقدم الوقاية التي تستدعيها الحاجة دون أن يكون له تحكم يذكر في ظهور الخطر، يكون أهلا لأن يوصف كحامٍ شرعي خاصة إذا كانت تكلفة حمايته ليست أعلى من تكاليف الحماية التي يعرضها منافسيه. والشخص الذي يوفر وقاية منخفضة التكاليف ضد كل من البلطجيين المحليين والناهبين الخارجيين يقدم أفضل العروض.
من الشائع أن يقوم المدافعون عن حكومات معينة أو عن فكرة الحكومة بالعموم بالمحاججة بشكل محدد أن هذه الحكومات توفر أفضل عرض حماية من العنف المحلي والخارجي، وأن يزعموا أن ثمن هذه الحماية بالكاد يغطي تكاليفها ويطلقوا على من يتشكى من ثمن هذه الحماية “أناركيين” أو “مخربين” أو الاثنين معا. لكن لنضع في عين الاعتبار أن تعريف البلطجي جاني الاتاوة هو الشخص الذي يخلق التهديد ثم يجعلك تدفع من أجل تقليص هذا التهديد. الحماية التي توفرها الحكومات غالبا ما تكون -وفق هذا المعيار- مؤهلة لأن يطلق عليها بلطجة. فطالما أن المخاطر التي تحمي منها الحكومات مواطنيها هي مخاطر متخلية أو أنها نتيجة لنشاط الحكومة ذاتها، فإن هذه الحكومة تنظم جني اتاوات بالبلطجة. ما دامت الحكومات تحفّز تهديد الحرب الخارجية أو تختلقه ومادامت النشاطات القمعية والاستخراجية التي تقوم بها الحكومات تمثل عادة التهديد الأكبر على حياة ورزق مواطنيها ، فإن الكثير من الحكومات إذن تُدار تماما بطريقة البلطجي جاني الاتاوة. هنالك فرق بالطبع: فالبلطجي يعمل، بالتعريف الدارج، من دون القداسة التي تتمتع بها الحكومات.
كيف تحصل الحكومات البلطجية على السلطة؟ سواء بوصفه سؤال حقائق أو سؤالًا أخلاقيًا، يعد هذا السؤال أحد أقدم ألغاز التحليل السياسي. لكن بالعودة إلى ميكافيلي وهوبز أدرك المراقبون السياسيون أن الحكومات، و بغض النظر عن الأمور الاخرى التي تقوم بها، تنظم وتحتكر العنف أينما استطاعت. لا يهم كثيراً إذا ما كنا سنعرّف العنف بالمعنى الضيق كإلحاقٍ للضرر بالأشخاص أو الأشياء أو بالمعنى الواسع كتعدٍ على رغبات الناس ومصالحهم، فبأي تعريف منهما ستتميز الحكومات عن غيرها من المنظمات بنزعتها لاحتكار وسائل العنف المتركزة. إن التمييز بين القوة “الشرعية” و”غير الشرعية” لا يصنع أي فرق في الحقيقة، فإذا كانت الشرعية تعتمد على الامتثال لمبادئ مجردة أو على قبول المحكومين بها (أو الاثنتين في وقت واحد) فإن هذه الاشتراطات تأتي لتبرر بل و ربما لتشرح النزعة لاحتكار القوة لكنها لا تتعارض معها.
علي أي حال فإن تحليل أرثر ستنشكوم (Arthur Stinchcombe) المتشائم للشرعية يخدم أغراض التحليل السياسي بكفاءة عالية ، فالشرعية وفقا لستنشكوم لا تكاد تعتمد على مبدأ مجرد أو على قبول المحكومين: “الشخص الذي تتم ممارسة السلطة عليه عادة ليس بأهمية الآخر صاحب السلطة” (١). إن الشرعية هي احتمالية أن تقوم السلطات الأخرى بتأكيد قرارات سلطة معطاة. أود أن أضيف أن السلطات الأخرى غالبا ما تؤكد قرارات السلطة مهزوزة الشرعية التي تمتلك قوة متينة ، وهذه قاعدة عامة لا تنتجها الرهبة من الانتقام وحسب بل و الرغبة في استمرارية بيئة مستقرة. هذه القاعدة تؤكد أهمية احتكار السلطة للقوة. إن النزعة لاحتكار العنف تجعل دعوى الحكومة لتقديم الحماية سواء بالمعنى المريح أو المشؤوم للكلمة أكثر مصداقية وأكثر صعوبةً أن يقاوم.
إن الاعتراف الصريح بمركزية القوة في الأنشطة الحكومية لا يتطلب منا الايمان بأن السلطة الحكومية تستند “فقط” و”بشكل نهائي” على التهديد بالعنف كما أنه لا يستلزم افتراض أن الحكومة لا تقدم إلا خدمات الحماية. حتى عندما تفرض الحكومة حمايتها مقابل ثمن باهظ يقرر البعض أن خدمات الحكومة الأخرى ترجح على تكلفة القبول باحتكارها للسلطة. إن إدراك مركزية القوة يفتح الطريق أمام فهم النمو والتغير في الأنماط الحكومية.
هنا استعراض لأكثر الحجج عمومية: سعي أصحاب السلطة للحرب يورطهم شاءوا أم أبو في استخراج الموارد ممن هم تحت حكمهم من السكان من أجل صناعة الحرب، كما يورطهم في تشجيع مراكمة المال عبر أولئك الذين يساعدونهم في الاقتراض والشراء. لقد تفاعلت صناعة الحرب و الاستخراج و مراكمة رأس المال معًا في صناعة ملامح الدولة الأوروبية.لم يقم أصحاب السلطة بهذه الأنشطة الثلاثة الجسيمة من أجل بناء دول وطنية -الدولة التي تتميز بالمركزية والتعقيد والإستقلال الذاتي والتنظيمات السياسية الموسعة- كما أنهم لم يتنبؤوا بأن صناعة الحرب و الاستخراج و مراكمة رأس المال ستنتج تلك الدول القومية.
عوضا عن ذلك فإن أولئك الذين حكموا الدول الأوروبية والدول وهي في طور التشكل خاضوا الحرب من أجل ردع منافسيهم أو التغلب عليهم وبالتالي من أجل التمتع بمميزات السلطة في رقعة جغرافية مأمنّه أو متمددة. ولجعل الحرب أكثر فاعلية، فإنهم حاولوا توفير المزيد من رأس المال من خلال الإحتلال أو بيع الأصول أو من خلال قسر ومصادرة أموال المراكمين لرأس المال على المدى القصير. أما على المدى البعيد فإن السعي للحرب دفعهم إلى إرساء قناة اتصال متاحة دائما مع أصحاب رؤوس الأموال لتأمين وتنظيم الائتمان و فرض ضرائب منتظمة بشكل أو بآخر على الناس والأنشطة في اطار النطاقات الخاضعة لحكمهم.
ومع استمرار هذه العملية، طوّر بناة الدول مصلحة مستدامة في تحفيز تراكم رأس المال، الأمر الذي اتخذ أحيانا شكل الدخل المباشر لمشاريعهم الخاصة. إن التباينات في صعوبة جمع الضرائب، و في تكاليف تبني نوع معين من القوة المسلحة وفي مقدار صناعة الحرب اللازمة لصد المنافسين هي المسؤولة عن التباينات الرئسية في أشكال الدول الأوروبية. كل ذلك يبدأ من محاولة احتكار وسائل العنف في نطاق إقليم محدد مجاور لمركز صاحب السلطة.
العنف والحكومة
ما الذي يميز العنف الذي تنتجه الدولة عن العنف الذي يقوم به أي شخص آخر؟ ماهو هذا التمييز الكفيل بجعل تقسيم “القوة الشرعية” و ” القوة غير الشرعية” على المدى البعيد تقسيمًا ذا مصداقية؟ إن الفرق في نهاية المطاف هو أن موظفي الدولة قادرون على توفير العنف على نطاق أوسع بشكل أكثر كفاءة وفعالية و قبول عريض من السكان الخاضعين لهم وجاهزية أكثر للتعاون من قبل السلطات الجارة أكثر من طاقم أي منظمة أخرى. لكن هذه التمايزات احتاجت مدة طويلة لكي تتأسس. في المراحل الأولى من تأسيس الدولة تشاركت العديد من الأطراف في الحق في استخدام العنف أو في استخدامه بشكل روتيني لتحقيق غاياتهم أو الإثنين في آن واحد. السلسلة المتصلة تبدأ من قاطع الطريق أو القراصنة وصولًا إلى الملوك مرورًا بجابي الضرائب وأصحاب السلطة الإقليميين و الجنود المحترفين.
إن الفاصل المرن وغير المحدد بين العنف “الشرعي” و “غير الشرعي” يظهر في الروافد الأولى لتكون السلطة. في بواكير عملية بناء الدولة، تشارك العديد من الأطراف الحق في استخدام العنف أو الاستخدام الفعلي له أو الإثنين معا. إن علاقة الحب والكره الطويلة بين صناع الدول الطامحين وبين قطاع الطرق أو القراصنة يوضح الانقسام. “خلف كل قرصان في البحار مدن أو دول-مدن” كما قال فيرناند برادل (Fernand Braudel) في القرن السادس عشر. “خلف كل قاطع طريق، كل قرصان بري، دعم غير منقطع من إقطاعي” (٢). بالفعل، كان من المعتاد في أوقات الحرب أن يقوم مدراء الدول المكتملة بالاستعانة بقراصنة وباستئجار قطاع طرق لغزو أعدائهم وبتشجيع قواتهم النظامية على أخذ الغنائم ، بل و كان من المتوقع عادة من الجنود و البحارة الذين يعملون في الخدمة الملكية أن يعيلوا أنفسهم عبر الانقضاض على المدنيين : بالاستيلاء على الممتلكات و الاغتصاب والنهب و أخذ الغنائم. و كان من المعتاد أيضًا أن يواصلوا ذات الممارسات بعد تسريحهم من الخدمة ، لكن هذه المرة دون الحماية الملكية: السفن المسرحة تصبح سفن قراصنة والكتائب المسرحة تصبح فرق قطاع طرق.
من الممكن أيضا أن نراها بشكل آخر: عالم الخارجين عن القانون كان في بعض الأحيان أفضل مصدر يحصل من خلاله الملك على أنصار مسلحين. ربما يكون تحول روبن هود إلى أحد رماة الملك أسطورة لكنها اسطورة تسجل لنا ممارسة. التمييز بين الممارسين “الشرعيين” و”غير الشرعيين” يتضح ببطء شديد في العملية التي تصبح خلالها القوات المسلحة للدولة موحدة نسبيًا ودائمة.
حتى هذه النقطة، كانت المدن الساحلية و إقطاعيو الداخل، كما قال برادل، يمنحون الحماية على نحو شائع لقطاع الطرق أو حتى ينعمون عليهم الرعاية. العديد من الزعماء الذين لا يدعون أنفسهم ملوكاً ادّعوا بشكل ناجح الحق في تجنيد كتائب و المحافظة على حماية مسلحة. من دون استنفار هؤلاء الزعماء ليعيروا جنودهم لم يكن لملكٍ القدرة على أن يخوض حربًا. لكن الزعماء المسلحين ذاتهم كان يشكلون خصوما للملك ومعارضين له أو حلفاء محتملين لأعدائه. لهذا السبب كانت مجالس الوصاية على الملوك القصّر قبل القرن السابع عشر سببًا في إنتاج الحروب الأهلية باستمرار ، ولذات السبب فإن نزع السلاح من الأقوياء يتصدر أجندة أي صانع دولة محتمل.
على سبيل المثال، نجحت أسرة تيودور (Tudors) في تحقيق هذه الأجندة في معظم أنحاء انجلترا. لقد كان “أعظم نصر لأسرة تيودور” كما يقول لورانس ستون (Lawrence Stone) “هو التأكيد الناجح على الاحتكار الملكي للعنف في المجالاين الخاص والعام، وهو انجاز لم يغيّر طبيعة السياسة بشكل عميق فحسب بل ونوعية الحياة اليومية. العادات الانجليزية تغيرت بشكل لا يمكن مقارنته إلا بالخطوة الأبعد التي حصلت في القرن التاسع عشر عندما عزز نمو قوات الشرطة هذا الاحتكار وجعله أكثر فاعلية في أكبر المدن وأصغر القرى” (٣).
إن نزع السلاح من الزعماء الكبار الذي قامت به أسرة تيودور تبعته أربع حملات تكميلية: التخلص من حامياتهم الشخصية المسلحة وهدم حصونهم وترويض ميلهم لتسوية النزاعات عن طريق العنف، وتثبيط التعاون بينهم وبين أتباعهم والمستفيدين منهم. إلا أن المهمة كانت أكثر حساسية أو دقة في تخوم انجلترا وسكوتلاندا؛ فهناك، حافظت كل من أسرتي بيرسي و داكر (Percys and Dacres) على جيوشها و قلاعها على امتداد الحدود مهددين بذلك العرش الانجليزي لكنهم في ذات الوقت شكلوا حاجزا ضد الغزو الاستكلندي، إلا أنهم في نهاية المطاف خضعوا لذات المصير.
أما في فرنسا ، فقد بدأ ريشيليو (Richelieu) النزع العظيم للسلاح في عشرينيات القرن السابع عشر. إذ شرع لويس الثالث عشر، آخذا بنصيحة ريشيليو، بتدمير قلاع الزعماء الكبار المتمردين، البروتستانتيين منهم والكاثوليكيين على حد سواء، الذين ظلت قواته تحاربهم بلا انقطاع، وبدأ بتجريم المبارزات وحمل الأسلحة القاتلة والإبقاء على الجيوش الخاصة. ومع حلول أواخر العشرينات من ذلك القرن، كان ريشيليو يعلن الاحتكار الملكي للقوة كعقيدة. أخذت هذه العقيدة نصف قرن حتى تصبح فعالة:
“مرة أخرى شهدت نزاعات الفروند (The Fronde) حشدًا للجيوش من خلال “الكبار”. باستثناء البقية، كانت آخر الوصايات على العرش، تلك التي حدثت بعد موت لويس الرابع عشر هي الوحيدة التي لم تقد إلى انتفاضات مسلحة. أي بحلول الوقت الذي أصبحت فيه مبادئ ريشيليو واقعاً. وكما حدث في الامبراطورية بعد حرب الثلاثين عاما، كان لأمراء المقاطعات وحدهم الحق في حشد الكتائب و الابقاء على الحصون … عدا ذلك في كل مكان: فإن هدم القلاع، و التكاليف العالية لسلاح المدفعية، و جاذبية حياة البلاط، وما تلاهم من ترويض للنبلاء، كل ذلك لعب دوره في هذا التطور (٤).”
وبحلول القرن الثامن عشر في أغلب مناطق أوروبا سيطر الملوك على قوات عسكرية محترفة ودائمة نافست تلك التي يمتلكها جيرانهم من الملوك وتفوقت بفارق كبير على أي قوة مسلحة منظمة في مقاطعاتهم. احتكار الدولة للعنف واسع النطاق انتقل من النظرية إلى الواقع.
لكن القضاء على المنافسين المحليين تسبب في مشكلة جدية. فيما عدا الدول-المدن (city-states) ذات النطاق المحدود، لم يتمكن أي ملك من حكم السكان من خلال القوة المسلحة وحدها كما لم يتمكن أي ملك من بناء طاقم كبير وقوي من الموظفين المحترفين بما يكفي لربط المواطن العادي به. إلى وقت قريب جدًا ، لم تبلغ أي دولة أوروبية درجة اكتمال ربط مفاصلها من الأعلى للأسفل التي بلغتها الامبراطورية الصينية. حتى الامبراطورية الرومانية لم تكون قريبة من ذلك. بشكل أو بآخر، اعتمدت كل دولة أوروبية قبل الثورة الفرنسية على الحكم غير المباشر عبر أقطاب محليين يعاونون الحكومة دون أن يكونوا مسؤولين رسميين بما تعنيه الكلمة من معنى. لقد تمتع هؤلاء الأقطاب بسبل القوة المدعومة حكوميًا كما مارسوا حرية تصرف واسعة في الحكم داخل مقاطعاتهم. هؤلاء هم النبلاء، قضاة السلام و الاقطاعيين (junkers). لكن أقطاب الحاكم أنفسهم شكّلوا خصومًا محتملين وحلفاء محتملين للثوار.
في نهاية المطاف خفضت الحكومات الأوروبية اعتمادها على الحكم غير المباشر من خلال استراتيجيتين مكلفتين لكن فعالتان: (أ) توسيع المجال الرسمي (officialdom) ليصل إلى المجتمعات المحلية، (ب) تشجيع استحداث قوات شرطة خاضعة لسلطة الحكومة بدلاً من أفراد، و متمايزة عن قوات الحروب، مما يقلل بالتالي قدرة الأقطاب المنشقين على الاستعانة بهذه القوات. لكن بين الحالتين لعب بناة القوة الوطنية استراتيجية مختلطة: فأخذوا يزيلون و يخضعون و يفرقون و يغزون و يداهنون ويشترون حسب ما تستدعي الظروف. أما الشراء فقد تبدّى في شكل اعفاءات ضريبية، و خلق مناصب شرفية، و ترسية مخصصات من الخزينة الوطنية، و وسائل متعددة أخرى جعلت رفاهية الأقطاب تعتمد على المحافظة على بنية القوة القائمة. و قد انتهى المطاف بكل هذا على المدى الطويل إلى فرض ساحق للسلام واحتكار وسائل القسر.
الحماية كمشروع تجاري
بالنظر للوراء، فإن إشاعة السلام، و الاحتواء، و التخلص من الخصوم المشاكسين لصاحب السيادة يبدو مشروعًا رائعًا و نبيلاً و ذو بصيرة يجلب السلم للشعب، لكنه ينبع بشكل حتمي من منطق قوة توسّعي. فإذا كان صاحب السلطة يريد الانتفاع من تقديم خدمات الحماية، فليس لمنافسيه إذن سوى أن يفسحوا له الطريق. وكما قال المؤرخ الاقتصادي فريدريك لين (Frederic Lane) قبل خمس وعشرين سنة أن الحكومات منخرطة في مشروع تجاري لبيع الحماية … سواء أرادها الناس أم لا. إذ أنه يجادل أن نشاط انتاج العنف والتحكم به في حد ذاته يدفع للإحتكار لأن المنافسة في هذا المجال ترفع التكاليف بدلا من خفضها. يقترح لين أن انتاج العنف يتمتع بشكل كبير بمزايا اقتصاد وفرات الحجم (economies of scale) [الذي تنخفض فيه التكلفة كلما زادت ضخامة الانتاج].
بناء على ذلك يميز لين بين (أ) أرباح الاحتكار أو الإتاوات التي يجنيها الملاك لوسائل انتاج العنف كنتيجة للفرق بين تكاليف الحماية والثمن الذي يُقبض من “الزبون” وبين (ب) ريع الحماية الذي يجنيه الزبائن- التجار على سبيل المثال- الذين يتلقون حماية فعالة ضد منافسيهم الخارجيين. لين، وهو المؤرخ الحذق في تاريخ البندقية، يتيح لنا بشكل خاص فهم حالة حكومة تنتج ريع حماية لتجارها من خلال مهاجمتها بشكل مقصود لمنافسيهم. في تبنيهم لتفريعات لين قام ادوارد أيمز وريتشارد راب (Edward Ames and Richard Rapp) باستبدال مفردة “اتاوة” (Tribute) بـ”ابتزاز” (Extortion) ، ففي هذا النموذج ينتمي النهب، و القسر، و القرصنة، و قطع الطريق، و جني الاتاواة بالبلطجة إلى ذات العائلة التي ينتمي لها أبناء عمومتهم الصالحين في أنشطة الحكومة المسؤولة.
هكذا يعمل نموذج لين: إذا استطاع أمير ما تكوين قوة مسلحة كافية لردع أعدائه الخارجيين وأعداء رعيته و لتطويع رعيته بتكلفة تبلغ ٥٠ جنيه لكنه قادر على استخراج ٧٥ جنيه كضرائب من هؤلاء الرعايا لذلك الغرض فإنه يحصل على اتاوة قدرها (٧٥-٥٠=) ٢٥ جنيه. إذا كان هناك حصة مقدارها ١٠ جنيهات من هذه الضرائب قد دفعها أحد رعايا الأمير من التجار مقابل أن يوفر له الأمير مسارًا آمناً للسوق العالمية ، أي أقل من ١٥ جنيها التي يدفعها تجار أجانب منافسين لأمراءهم ، فقد حصل التاجر الأول على ريع حماية يقدر بـ(١٥-١٠= ) ٥ جنيهات بفضل كفاءة أميره التي تفوق كفاءة أمراءهم. هذا المنطق يختلف فقط في الدرجة وفي المدى عن منطق المجرمين المستخدمين للعنف وزبائنهم. ابتزاز العمال (على سبيل المثال مالك السفينة الذي يتجنب المشاكل التي قد يسببها له عمال الشحن والتفريغ من خلال الدفع دون تأخير لرئيس اتحاد العمال المحلي) يعمل بنفس المبدأ: يستلم رئيس الاتحاد الاتاوة مقابل أن يضغط على عماله بعدم الإضراب وبذلك يتجنب مالك السفينة الإضرابات والابطاء الذي يُلحقه عمال الشحن والتفريغ بمنافسيه.
يشير لين إلى السلوك المختلف الذي نتوقعه من مدراء حكومة تقوم على توفير الحماية إذا كانت مملوكة:
١- للمواطنين بالعموم
٢- لملك فرد متمركز حول منفعته الذاتية
٣- للمداراء أنفسهم
إذا كان المواطنون بالعموم يمارسون ملكية فعلية للحكومة – و ما أبعده من مثال!- سنتوقع أن يخفض المدراء تكاليف الحماية والإتاوة إلى أقل قدر ممكن وبالتالي زيادة ريع الحماية. في المقابل، سيعظم الملك المفرد المتمركز حول منفعته الذاتية الاتاوة دون اعارة أي اهتمام لمستوى ريع الحماية. أما أذا كان المدراء أنفسهم يملكون الحكومة فإنهم سيميلون إلى ابقاء تكلفة الحماية عالية من خلال تعظيم أجورهم إلى الحد الأعلى، كما سيميلون فضلا عن رفع تلك التكاليف إلى تعظيم الأتاوة عبر تحصيل ثمن أعلى من هذه التكاليف من رعاياهم ، وتمامًا كما في حالة الملك، سيكونون غير مهتمين بريع الحماية. النموذج الأول يمثل ديموقراطية جيفرسونية، أما الثاني فاستبداد طفيف بينما يمثل الأخير طغمة عسكرية.
إلا أن لين قد فاته التطرق إلى الصنف الرابع شديد الوضوح من الملاك: الطبقة المهيمنة. لو أن لين تطرق لهذا النوع الرابع في تحليله لتمكن من الخروج بمعايير إمبيريقية مثيرة للاهتمام لتقييم الدعاوى الخاصة بدرجة استقلال حكومة ما نسبيًا أو خضوعها لمصالح الطبقة المهيمنة. من المفترض منطقيًا أن تميل الحكومة الخاضعة لمصالح الطبقة المهيمنة إلى تعظيم أرباح الاحتكار – وهي عوائد للطبقة المهيمنة ناتجة من الفرق بين تكاليف الحماية والثمن الذي تستلمه كمقابل لها- بالاضافة إلى التأكد من تناغم ريع الحماية مع المصالح الاقتصادية للطبقة المهيمنة بشكل جيد. في المقابل، ستميل الحكومة المستقلة إلى تعظيم حجمها وأجور مدرائها دون أن تعير ريع الحماية أي اهتمام. إن تحليل لين يتيح لنا بشكل مباشر الخروج بافتراضات جديدة وبطرق لاختبارها.
لين أيضا يقدم افتراض أن منطق الحالة أنتج أربعة مراحل متعاقبة في التاريخ العام للرأسمالية:
١- فترة الأناركية والنهب.
٢- المرحلة التي يجذب فيها آخذو الاتاوات زبائناً ويؤسسون لاحتكارات من خلال سعيهم لخلق دول كبيرة وحصرية.
٣- المرحلة التي يبدأ فيها التجار والاقطاعيون بجني الربح من ريع الحماية أكثر مما يجنيه الحكام من الإتاوة.
٤- الفترة (الحديثة إلى حد بعيد) التي تتعدى فيها التغيرات التكنولوجية ريع الحماية كمصدر للربح لرواد الأعمال.
في تاريخهم الإقتصادي الجديد للعالم الغربي جعل كل من دوغلاس نورث وروبرت باول توماس (Douglass North and Robert Paul Thomas) المرحلتين الثانية والثالثة – التي يرسي فيها صناع الدول احتكارهم للقوة ويؤسسون لحقوق الملكية التي تسمح للأفراد بتحصيل الكثير من العوائد من ابتكاراتهم المولدة للنمو- اللحظة المحورية للنمو الاقتصادي المستديم. في هذه النقطة تطغى الحماية على الضريبة. إذا أدركنا أن حقوق الملكية المحمية كانت بشكل أساسي حقوقًا لرأس المال ، وأن تطور الرأسمالية أيضا سهل تراكم الموارد المالية لتشغيل الدول الضخمة، فإن افتراضاتنا المبنية على تحليل لين تقدم لنا اضاءات مهمة حول تزامن صناعة الحرب وصناعة الدولة ومراكمة رأس المال.
لم يقم لين للأسف باستثمار اضاءاته هذه أتم الاستثمار ، حيث حصر تحليله بعناية في إطار النظرية الكلاسيكية الجديدة للتنظيم الصناعي، الأمر الذي أدى إلى تقييد تناوله للحماية: إذ يتعامل مع كل دافعي الضرائب كـ”زبائن” لـ”خدمات” تقدمها الدول المصنّعة للحماية ضاربًا عرض الحائط بالاعتراضات الموجهة لفكرة البيع الجبري من خلال إصراره على أن “الزبون” لديه دائما الخيار في أن لا يدفع ويتحمل عواقب عدم دفعه ، مقللاً بذلك من شأن مشاكل القابلية للقسمة التي تخلقها صفة الصالح العام التي تتصف بها الحماية، كما يهمل بشكل متعمد التمييز بين تكاليف انتاج وسائل العنف بالعموم وتكاليف منح “الزبائن” الحماية بواسطة هذه الوسائل. أفكار لين تختنق داخل صندوق النظرية الكلاسيكية الجديدة وتتنفس بطلاقة خارجه. لكن سواء كانت داخله أو خارجه فإنها تعيد التحليل الاقتصادي للحكومة كما ينبغي إلى قائمة النشاطات الرئيسية التي مارستها الحكومات الحقيقية تاريخيًا: الحرب، و القمع، و الحماية و اصدار الأحكام.
في عمل أحدث، طبق ريتشارد بين (Richard Bean) منطقًا مشابهًا على الدول الأوروبية القومية بين ١٤٠٠م و ١٦٠٠م احتكم فيه إلى وفرات الحجم (economies of scale) في انتاج قوة عسكرية ذات فاعلية في مقابل تبذيرات الحجم (diseconomies of scale) للقيادة والتحكم. يدّعي ريتشارد بناء على ذلك أن تطور سلاح المدفعية في القرن الخامس عشر (المدفع جعل قلاع العصور الوسطى الصغيرة مهددة بشكل أكبر بكثير في مواجهة القوة المنظمة) عطف منحنى الوفرات والتبذيرات ليجعل الجيوش الأكبر و الجيوش النظامية والحكومات المركزية تمنح ميزة الأفضلية لأربابها. لذلك يرى بين أن الابتكار العسكري شجع على بناء دول وطنية كبيرة، مكلفة وجيدة التسليح.
التاريخ يتكلم
إن ملخص بين لا يصمد أمام التحرّي التاريخي. التحول إلى استخدام سلاح مدفعية يشغله المشاه في حصار المدن المحصنة لم يحدث إلا خلال القرن السادس عشر والسابع عشر. بالفعل، تطور سلاح المدفعية خلال القرن الخامس عشر لكن ابتكار نوع جديد من التحصين، خاصة حصن النجمة (trace italienne)، سرعان ما وازن ميزات المدفعية. وصول مدفعية فعالة أتى متأخرًا جداً ليُحدث زيادة في الحجم الممكن للدول. (لكن زيادة تكاليف التحصينات للدفاع ضد المدفعية أعطى بالفعل ميزة للدول كي تتمتع بقاعدة مالية أكبر).
إنه ليس من الواضح كذلك ما إذا كان للتغيرات في الحرب البرية ذلك التأثير الجارف الذي عزاه بين إليها. الزيادة في الأهمية الحاسمة للحرب البحرية والتي حدثت في ذات الفترة الزمنية ربما أفضت إلى تحول في التفوق العسكري إلى قوى بحرية صغيرة مثل جمهورية هولنده. علاوة على ذلك، بالرغم من أن العديد من دول-المدن و الكيانات الدقيقة الأخرى ذابت في وحدات سياسية أكبر قبل ١٦٠٠م ، فإن أحداثًا مثل تفتت امبراطورية هابزبورغ (Habsburg Empire) وبقاء كيانات كبيرة لكن منسوجه على نحو فضفاض كبولنده وروسيا ، يجعل ادعاء الزيادة الضخمة في المساحة الجغرافية دعوى ملتبسة. باختصار، إن كلاً من تفسير بين المقترح ومقولته حول ما يجب أن يفسَّر تستدعي شكوكاً تاريخية.
لكن إذا انتزعنا من منطق بين حتميته التكنولوجية، فإنه مفيد كمكمل لمنطق لين ، فللتشكيلات العسكرية المختلفة تكاليف انتاج تختلف بشكل كبير، كما تختلف بشكل كبير في قدرتها على التحكم بالخصوم المحليين والخارجيين. إن سعي الأوروبيين بعد ١٤٠٠م إلى الحصول على تشكيلات تنظيم عسكري أكبر ، أكثر ديمومة وتكلفة، قاد في الحقيقة إلى ارتفاع مذهل في الميزانيات الأميرية والضرائب وفي أعداد الموظفين. بعد العام ١٥٠٠ تقريبًا ، تمكن الأمراء الذين نجحوا في بناء تشكيلات التنظيم العسكري الباهظة هذه من احتلال مساحات جديدة من الأراضي بالفعل.
ينبغي هنا ألا تضللنا كلمة “أرض” (territory)، فحتى القرن الثامن عشر كانت القوى العظمى دولًا بحرية كما بقيت الحروب البحرية مهمة لتأمين المكانة العالمية لهذه القوى. لنستدعي تعداد فريناد برادل للقوى المهيمنة المتعاقبة ضمن العالم الرأسمالي: البندقية وامبراطوريتها، جنوة وامبراطوريتها، أنتوريب في اسبانيا، أمستردام في هولنده، لندن في انجلترا ونيويورك في الولايات المتحدة. وبالرغم من أن براندنبيرغ في بروسيا تمثل استثناءا جزئيًا، فإن الدول المرتهنة بالأرض بشكل جوهري كروسيا والصين لم تحظى بموقع مهيمن في النظام العالمي للدول إلا في وقتنا المعاصر. الحروب البحرية لم تكن إطلاقًا هي السبب الوحيد لهذا الانحياز للبحر ، فقبل القرن التاسع عشر كان النقل البري باهظ التكاليف في كل مكان في أوروبا بحيث لم تتمكن دولة من تزويد جيش كبير أو مدينة كبيرة بالحبوب و غيرها من البضائع الثقيلة دون أن يتوفر لديها نظام نقل مائي ذو كفاءة. فالحكام كانوا يوفرون الغذاء للمراكز الداخلية الرئيسية كمدريد و برلين بمجهود عظيم وبتكلفة عالية تتكبدها المناطق المحيطة بها. الكفاءة الاستثنائية لطرق المياه في هولنده منحت الهولنديين دون شك أفضلية عظيمة في السلم والحرب.
إن وجود منفذ للمياه مهم لسبب آخر هو أن المدن في قائمة برادل كانت جميعها موانئ رئيسية و مراكز تجارية عظيمة وأماكن متفوقة في حشد رأس المال ، فلقد خدم كل من التجارة ورأس المال أغراض الحكام الطامحين. في مسار دائري تأخذنا هذه الملاحظة مرة أخرى إلى محاججات لين وبين ، فبالتأمل في ما كتباه كمؤرخين اقتصاديين فإن نفطة الضعف الأعظم في تحليلاتهما تأتي كمفاجأة: كلاهما قلل من شأن أهمية تراكم رأس المال في التوسع العسكري. كما قال يان دي فريش (Jan De Vries) عن مرحلة ما بعد ١٦٠٠م :
“بالنظر إلى الوراء، لا يتسنى للمرء أن لا يذهل مما يبدو كعلاقة تكافلية بين الدولة والقوة العسكرية وكفاءة الإقتصاد الخاص في عهد الحكم المطلق. خلف كل سلالة ناجحة تقف تشكيلة وفيرة من العوائل البنكية. القناة المفتوحة لمثل هذه الموارد البرجوازية أثبتت أهميتها الحاسمة للأمراء في بناءهم للدول وفي سياسات المركزة. الأمراء احتاجوا أيضا نافذة مباشرة للموارد الزراعية والتي يمكن تحصيلها فقط عندما تنمو الانتاجية الزراعية وتوجد قوة ادراية وعسكرية فعالة لفرض دعاوي الأمير. لكن الخط السببي أيضا يسير في الاتجاه المعاكس فنشاطات بناء الدولة وبناء الامبراطورية الناجحة بالإضافة إلى النزعة المصاحبة تجاه تركيز السكان في الحواضر والانفاق الحكومي يتيحان للإقتصاد الخاص فرصًا فريدة و لا تقدر بثمن لتحصيل وفرات الحجم. وفرات الحجم هذه تترك أثرا في بعض الأحيان على الانتاج الصناعي لكن أهميتها الأساسية تأتي في تصور التجارة والإدارة المالية. بالإضافة إلى ذلك ، فإن محض الضغط الذي تحدثه الضريبة الحكومية المركزية يعمل كأي قوة اقتصادية أخرى على دفع انتاج الفلاحين إلى السوق وبالتالي زيادة فرص خلق التجارة والتخصص الاقتصادي” (٥).
لم تكن “العلاقة التكافيلة” منطبقة على ما بعد ١٦٠٠م فحسب. إن كل ما نحتاج إليه في حالة فرنسا مبكرة النضج هو النظر إلى الزيادة في الانفاقات والإيرادات الملكية من ١٥١٥ إلى ١٧٨٥م. صحيح أن معدل النمو تسارع بعد ١٦٠٠ م إلا أنه ارتفع بشكل كبير خلال القرن السادس عشر. بعد ١٥٥٠م كبحت “حروب الدين” (Wars of Religion) الداخلية جماح التوسع العالمي الذي كان قد ابتدأه فرانسيس الأول (Francis I) قبل ذلك في ذات القرن. لكن من عشرنيات القرن السابع عشر وما تلاه ، استأنف كل من لويس الثالث عشر ولويس الرابع عشر (بمعاونة وتحريض ريشيليو ومازران وكولبرت وغيرهم من كهنة صناعة الدول) المهمة بنكهة ثأر. “كعادتها دائما” يقول في جي كيرنان “للحرب كل مباركة سياسية وكل عقبة مالية” (٦).
الإقتراض ومن ثم سداد الدين مع الفوائد مسؤول عن الكثير من التناقضات بين المنحنيين. الرأسماليون الكبار لعبوا أدوارا في غاية الأهمية على جانبي الصفقة: كمصدر رئيسي للدين الملكي، خصوصا على المدى القصير، وكأهم المتعاقدين في نشاط جمع الضرائب الملكية، النشاط المربح جدا والذي يتضمن قدرًا عال من المخاطرة. لهذا السبب من المهم أن نلاحظ أنه:
“لأغراض عملية بدأ الدَّين القومي في عهد فرانسيس الأول. بعد خسارته لمدينة ميلان، البوابة لشمال ايطاليا في الخامس عشر من سبتمبر ١٥٢٢، استدان فرانسيس الأول ٢٠٠٠٠٠ فرنك بفائدة بلغت ١٢.٥% من تجار باريس ليشعل الحرب ضد تشارلز الخامس (Charles V). الدين الذي تولت إدارته حكومة المدينة صدر في سلسة من السندات الشهيرة على إيرادات من رأس المال عرفت بـ(Rentes sur L’Hotel de Ville)” (٧).
(فشل الدولة في دفع هذه الديون ساعد مصادفة في صفّ البرجوازية الباريسية ضد العرش خلال حروب الفروند بعد اثني عشر عقد) ولم تحل سنة ١٥٩٥ إلا وارتفع الدين العام إلى ٣٠٠ مليون فرنك برغم إشهارات الإفلاس الحكومية و التلاعب بالعملة والارتفاع الهائل في الضرائب. مع وفاة لويس الرابع عشر في ١٧١٥ بلغت الديون الناجمة عن الحرب ثلاثة مليار فرنك أو ما يعادل ثمان عشرة سنة من الإيرادات الملكية (٨). كانت الحرب، و أجهزة الدولة، و الضرائب والاستدانة تتقدم مع بعضها البعض في تناغم وثيق.
بالرغم من أن فرنسا كانت حالة مبكرة فإنها لم تكن بأي حال من الأحوال فريدة. “بل وبشكل أكبر من ذلك الذي تمثله الحالة الفرنسية” ينقل إيرل هاملتون (Earl Hamilton) وهو المفيد دومًا: ” بدأ الدين القومي في إنجلترا و نمى في أوقات الحروب الرئيسية. باستثناء الديون الضئيلة المتبقية من عهد سلالة ستيورت (the Stuarts)، فإن الدين ابتدأ في ١٦٨٩م مع عهد ويليام وماري (William and Mary). بكلمات آدم سميث: “كانت الحرب التي بدأت في ١٦٨٨م وانتهت بمعاهدة ريسويك (Ryswick) في ١٦٩٧ م قد أرست الأساس للدين الحالي الهائل لبريطانيا العظمى” (٩).
صحيح أن هاملتون قام باقتباس المركنتيلي (mercantilist) تشارلز ديفينانت (Charles Davenant) الذي اشتكى في ١٦٩٨ من أن معدلات الفائدة العالية الناتجة من اقتراض الحكومة كان يعيق التجارة الانجليزية. لكن شكوى ديفينانت توحي أن انجلترا كانت قد دخلت مرحلة فريدريك لين الثالثة في علاقات الدولة ورأس المال، والتي يحظى فيها التجار وملاك الأراضي بفوائض أعلى من مزودي الحماية.
حتى القرن السادس عشر كان الانجليز يتوقعون من ملوكهم أن يعتاشوا على إيرادات أملاكهم الملكية وأن يجنوا الضرائب للحروب فقط. جي أر إلتون (G. R. Elton) أشار إلى الابتكار العظيم في صياغة توماس كرومويل (Thomas Cromwell) لقانون الدعم الخاص بهنري الثامن عامي ١٥٣٤ و١٥٤٠م: “لقد كان قانون ١٥٤٠م متنبهًا لمواصلة الإبتكار العظيم الذي جاء به قانون ١٥٣٤م ألا وهو أن المساهمات الاستثنائية من الممكن أن تفرض لأسباب غير الحروب” (١٠). لكن بعد هذه النقطة تماما كما في السابق ظلت الحرب المحفز الأساسي لارتفاع مستوى الضرائب ومستوى الديون. كما كان من النادر أن ينخفض مستوى أي من الديون والضرائب. لقد حدث ما يدعوه أيه تي بيكاك وجاي وايزمان (A. T. Peacock and J. Wiseman) “أثر الإحلال” بالفعل: عندما ترتفع المصروفات والايرادات العمومية فجأة في أوقات الحرب فإنها تشكل أرضية جديدة أعلى لا تنخفض دونها المصروفات والايرادات في أوقات السلم. خلال الحروب النابلبونية ارتفعت الضرائب البريطانية من ١٥ إلى ٢٤ في المائة من الدخل القومي و إلى حوالي ثلاثة أضعاف مستوى الضرائب الفرنسي (١١).
صحيح أن بريطانيا تتمتع بالميزة المزدوجة في أن اعتمادها على قوة برية ممتدة أقل من خصومها القاريين وفي أنها تحصل على كثير من إيراداتها الضريبية من الرسوم والجمارك -وهي ضرائب برغم إمكانية التهرب منها إلا أنها أقل تكلفة بشكل كبير من ضرائب الأرض وضرائب الممتلكات والضرائب على الرؤوس. لكن في بريطانيا كما في أي مكان آخر ارتفع كل من الدين والضرائب بشكل هائل ابتداءًا من القرن السابع عشر فصاعداً وذلك بشكل أساسي بسبب الارتفاع في تكلفة صناعة الحرب.
ماذا تفعل الدول؟
من المفترض أنه قد اتضح لنا الآن أن تحليل لين للحماية فشل في التمييز بين أنواع مختلفة من استخدامات العنف الذي تتحكم به الدولة. تحت العنوان العريض للعنف المنظم فإن وكلاء الدول يقومون بأربعة أنواع مختلفة من النشاطات:
١- صناعة الحرب: تحييد أو القضاء على الخصوم من خارج المناطق التي يتمتعون فيها بأولوية واضحة وغير منقطعة كممارسين للعنف.
٢- صناعة الدولة: تحييد أو القضاء على الخصوم من داخل تلك المناطق.
٣- الحماية: تحييد أو القضاء على أعداء زبائنهم.
٤- الاستخراج: الاستحواذ على الأدوات التي تمكنهم من القيام بالأنشطة الثلاثة السابقة: صناعة الحرب، صناعة الدولة والحماية.
تتطابق النقطة الثالثة مع معنى الحماية كما حلله لين لكن الثلاثة الباقية تتطلب استخدام القوة. هذه الأنشطة تتقاطع جزئياً بدرجات متفاوتة ، فشن الحرب ضد خصوم البرجوازية المحلية التجاريين ، على سبيل المثال ، يوفر حماية لهذه البرجوازية. وفي حين نجد السكان منقسمين إلى طبقات متعادية بحيث تقوم الدولة بمحاباة إحدى هذه الطبقات دون الأخرى، فإن بناء الدولة يتضمن انخفاض مستوى الحماية المقدمة لبعض هذه الطبقات.
تأخذ كل من صناعة الحرب، و بناء الدولة، و الحماية والاستخراج عددًا من الأشكال. فالاستخراج على سبيل المثال يتفاوت من النهب الصريح إلى الإتاوة المنتظمة إلى الضرائب المنظمة بيروقراطيا. لكن كل العمليات الأربعة تعتمد على نزعة الدولة إلى احتكار وسائل القسر المتركزة. من منظور أؤلئك الذين يهيمنون على الدولة، هذه الأنشطة الأربعة -إذا تم القيام بها بشكل فعال- فإنها بالعموم تعزز بعضها البعض ، لذلك فالدولة التي تنجح في اجتثاث خصومها الداخليين فإنها تعزز قدرتها على استخراج الموارد وشن الحرب وحماية أنصارها الرئيسيين. في بواكير التجربة الأوروبية فإن هؤلاء الأنصار كانوا بشكل عام الاقطاعيين، ووكلاء الملك المسلحين ورجال الكنيسة.
كل نوع رئيسي من أنواع استخدام العنف أنتج أشكال تنظيم ذات خصائص متميزة. فصناعة الحرب خلقت الجيوش و الأساطيل البحرية العسكرية والخدمات المساندة لها ، و بناء الدولة أنتج أجهزة مستدامة للمراقبة والتحكم داخل إقليمها ، أما الحماية فاعتمدت على تنظيم صناعة الحرب وبناء الدولة لكنها أضافت أجهزة تتمكن من خلاله الفئات التي تتمتع بالحماية من استدعاء هذه الحماية كحق لهم، تتمثل هذه الأجهزة بشكل بارز في المحاكم والمجالس التمثيلية ،و أما الاستخراج فقد دفع لظهور هياكل المالية والمحاسبة. إن تنظيم واستخدام العنف بحد ذاته مسؤول عن كثير من خصائص بنية الدول الأوروبية.
يبدو أن القاعدة العامة لعملية تشكل الدولة هذه تسير كما يلي: كلما ارتفعت تكلفة النشاط، كلما خلف المزيد من التنظيمات. كلما استثمرت حكومة ما على سبيل المثال في بناء جيوش نظامية – وهي وسيلة مكلفة لصناعة الحرب وإن كانت فعالة- كلما زاد احتمال تضخم البيروقراطية التي وجدت لخدمة هذا الجيش. علاوة على ذلك، نجد أن الحكومة التي تبني جيشًا نظاميًا في حين تحكم أعدادًا قليلة من السكان ستتكبد تكاليفًا أعلى لبناء ذلك الجيش ونجدها بالتالي تتمتع ببنية بيروقراطية أكثر متانة من تلك الحكومات ذات التعداد السكاني الأعلى. براندنبيرغ في بروسيا مثال كلاسيكي على التكلفة العالية للموارد المتاحة، فالمجهودات البروسية لبناء جيش نظامي يكافئ جيرانها القاريين الكبار خلقت بنية هائلة للدولة إذ عسكرت كثيرًا من جوانب الحياة الإجتماعية الألمانية وجعلتها أكثر بيروقراطية.
في حالة الاستخراج، كلما كان المجموع الذي تُستخرج منه الموارد أصغر وكلما قل تمتع الاقتصاد بالصبغة التجارية، كلما كان استخراج الموارد لتغذية الحرب ونشاطات الحكومية الأخرى أصعب -هذا في حال تساوت العوامل الأخرى- وبالتالي كلما كان الجهاز المالي أكثر توسعاً. إن حالة إنجلترا بما تتمتع به من مجموع موارد كبير نسبيًا و ذو صبغة تجارية توضح متانة هذا الافتراض ، إذ لم تحتج إلا إلى جهاز مالي صغير نسبياً. كما يحاجج جبرائيل ارنت (Gabriel Ardant) فإن اختيار الاستراتيجية المالية ربما قاد إلى تغير إضافي. و بالعموم فإن جمع الضرائب على الأرض أكثر تكلفة من جمع الضرائب على التجارة خاصة وأن التدفق الكبير لهذه التجارة يمكن التحكم به من خلال نقاط تفتيش. موقع الدنمارك على مدخل بحر البلطيق منحها فرصة استثنائية للإثراء من إيرادات الجمارك.
أما فيما يتعلق ببناء الدولة (في معناه الضيق كتحييدٍ أو قضاءٍ على الخصوم المحليين لأولئك الذين يحكمون الدولة)، فإن المنطقة المأهولة باقطاعيين عظام أو جماعات دينية متمايزة تكلّب المحتلّ تكلفة أعلى من منطقة تكون فيها القوة متفتتة أو تتسم ثقافتها بالتجانس. السويد المتجانسة والمفككة وذات العدد السكاني الصغير والتي امتازت بأجهزة حكم فعالة تعطينا مثالًا لهذه الحالة.
أخيراً فإن تكلفة الحماية (بمعناها كتحييد أو قضاء على أعداء زبائن بناة الدول) تزيد مع توسع مدى الحماية. جهود البرتغال لمنع منافسي تجارها في مجال التوابل من الإبحار في البحر المتوسط تقدم لنا مثالا كلاسيكيا على فشل جهود الحماية إذا لم تؤسس لبنية ضخمة.
بناء على ذلك، فإن حجم الحكومة بحد ذاته قد تناسب طرديا وبشكل مباشر مع جهود الاستخراج، وبناء الدولة، والحماية وبشكل خاص صناعة الحرب، و عكسياً مع مدى تحول الاقتصاد إلى النشاط التجاري ومدى اتساع قاعدة الموارد. بل و الأكثر من ذلك، فإن التضخم النسبي في ملامح الحكومة المختلفة تناسب مع معدلات التكلفة/المورد في الاستخراج، وبناء الدولة، والحماية وصناعة الحرب. ففي حالة اسبانيا نرى كيف أن التضخم في الديوان والمحاكم جاء نتيجة لمجهودات قرون في اخضاع الأعداء بينما تدهشنا حالة هولنده في كيفية نمو جهازها المالي الصغير عبر الضرائب العالية في اقتصاد غني وتجاري.
من الواضح أن صناعة الحرب، و الاستخراج، و صناعة الدولة والحماية جميعها متبادلة الاعتماد على بعضها البعض. ويمكن القول بشكل عام جداً أن التجربة الكلاسيكية لبناء الدولة الأوروبية قد تبعت النموذج السببي التالي:
في تسلسل مثالي، كان الزعيم العظيم يقوم بشن الحرب بشكل فعال ما جعله مهيمناً على مساحة كبيرة من الأرض ، غير أن صناعة الحرب هذه قادت إلى تعاظم الاستخراج لوسائل الحرب -الرجال، الأسلحة، الغذاء، الإيواء، النقل، الامدادات أو/و المال لتوفير كل ما سبق- من السكان على هذه الأرض. بناء القدرة على شن الحرب زاد من القدرة على الاستخراج ، فنشاط الاستخراج ذاته، في حال نجاحه، تضمّن القضاء على الخصوم المحليين لهذا الزعيم العظيم أو تحييدهم أو التعاون معهم، الأمر الذي قاد إلى بناء الدولة. كنتيجة ثانوية استحدث نشاط الاستخراج تنظيمات على شكل وكالات جمع ضرائب، و قوات شرطة، و محاكم، و خزينة دولة، و مدققي حسابات، وبالتالي قاد مرة أخرى إلى بناء الدولة. و بدرجة أقل، فإن صناعة الحرب أيضاً قادت إلى بناء الدولة عبر توسع التنظيم العسكري نفسه حيث نمى الجيش النظامي، والصناعات الحربية، والتنظيمات البيروقراطية المساندة، و (فيما بعد) المدارس داخل جهاز الدولة. كل هذه البنى كبحت جماح أي خصوم أو معارضين محتملين. وفي خضم صناعة الحرب، و استخراج الموارد وبناء أجهزة الدولة، قام الذين يديرون هذه الدول بتشكيل تحالفات مع طبقات اجتماعية معينة ، إذ أن أعضاء هذه الطبقات كانوا قد أقرضوا موارد، و وفروا خدمات تقنية أو ساعدوا في ضمان طاعة بقية السكان، وقاموا بكل ذلك مقابل أن توفر لهم الدولة الحماية ضد خصومهم وأعدائهم. كنتيجة لهذه الخيارات الاستراتيجية المتعددة، ظهرت أجهزة دولة متمايزة ضمن كل قطاع أساسي في القارة الأوروبية.
كيف تتشكل الدول
إذا صح هذا التحليل فسيكون لدينا نتيجتين ضمنيتين مهمتين فيما يتعلق بتطور الدول القومية. الأول، أن المقاومة الشعبية لصناعة الحرب وبناء الدولة صنعت فرقًا. عندما كان الناس العاديون يقاومون بشراسة فإن السلطات كانت تقدم التنازلات: ضمانات للحقوق، و مؤسسات تمثيل ومحاكم استئناف. هذه التنازلات بدورها قيدت المسارات اللاحقة لبناء الدولة وصناعة الحرب. لكن من المهم أن نؤكد أن التحالفات مع فئات من الطبقة الحاكمة كانت تزيد بشكل كبير من تأثير الفعل الشعبي ، قالتعبئة العريضة للنبلاء ضد تشارلز الأول (Charles I) ساعدت في إعطاء الثورة الانجليزية عام ١٦٤٠م تأثيرًا عظيمًا على المؤسسات السياسية يفوق تأثير حالات التمرد العديدة التي حدثت في عهد عائلة تيودور.
الاستنتاج الثاني هو أن التوازن النسبي بين صناعة الحرب، والحماية، والاستخراج وصناعة الدولة أثّر بشكل كبير في تنظيم الدولة التي تولّد من هذه الأنشطة الأربعة. إذا استمرت صناعة الحرب ولم يرافقها إلا القليل -نسبيا- من الاستخراج والحماية وبناء الدولة، فإن القوات العسكرية سينتهي بها الأمر للعب الدور الأكبر والأكثر استقلالاً في السياسة القومية، وهو ما قد تعطينا أسبانيا أفضل مثال أوروبي عليه. أما إذا طغت الحماية على صناعة الحرب والاستخراج وصناعة الدولة، كما في حالتي البندقية وهولنده، فإن أوليغارشية الطبقات المحمية ستهيمن في الأغلب على السياسة القومية. وإذا هيمنت عملية بناء الدولة نسبيًا ظهر لدينا تعقيد غير متسق في السياسات والرقابة والذي تمثل الدول البابوية حالته المتطرفة. قبل القرن العشرين كان نطاق انعدام التوازن القابل للعيش محدودًا إلى حد كبير ، فأي دولة تفشل في تخصيص مجهود كبير لصناعة الحرب غالبا ما كانت تتلاشي. إلا أنه مع حلول القرن العشرين أصبح من الشائع بشكل متزايد أن تمنح دولة ما وسائل صناعة الحرب أو تبيعها إلى أخرى، في هذه الحالات يمكن للدولة المتلقية أن تخصص جهودًا غير متكافئة في الاستخراج أو الحماية أو صناعة الدولة ومع ذلك تبقى على قيد الحياة. في وقتنا هذا، تقدم الدول التابعة للولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي أمثلة كثيرة.
لكن هذا النموذج المبسط يهمل العلاقات الخارجية التي صاغت الدولة القومية. في بدايات عملية ظهور الدولة، ظل التمييز بين “داخلي” و”خارجي” غير واضح تماما كعدم وضوح التمييز بين قوة الدولة وقوة الزعماء المتحالفين معها. لاحقا، قامت ثلاثة تأثيرات متداخلة بربط أي دولة قومية بالشبكة الأوروبية للدول. أولاً، تدفق الموارد على شكل ديون و إمدادات، خاصة الديون و الإمدادات المخصصة لصناعة الحرب. ثانياً، التنافس بين الدول للهيمنة على المناطق المتنازع عليها والذي حفز صناعة الحرب ومحى بشكل مؤقت التمييز بين بناء الدولة وصناعة الحرب والاستخراج. وثالثاً، التحالفات المتقطعة التي تشكلت بين الدول التي كانت توحد جهودها بشكل مؤقت لتفرض على دولة ما شكلاً و موقعاً معينين داخل الشبكة العالمية من الدول. إن تحالف صناعة الحرب ليس إلا مثالًا واحد فهناك تحالفات صناعة السلم و التي لعبت دورًا أكثر أهمية: فمنذ عام ١٦٤٨م ، إن لم يكن قبل ذلك، جنحت مؤقتاً كل الدول الأوروبية الفعالة في نهاية الحروب إلى التفاوض على الحدود وعلى الألوية التي قاتلت مؤخراً. من تلك النقطة فصاعداً، تدفقت وبشكل مفاجئ فترات من إعادة الترتيب الشامل لنظام الدولة الأوروبية عند تسوية الحروب واسعة الانتشار. بعد كل حرب كبيرة، في الغالب، كان يخرج عدد أقل من الدول القومية التي دخلتها.
الحرب كعلاقات دولية
في هذه الظروف تصبح الحرب هي الشرط الاعتيادي للنظام العالمي للدول ، والوسيلة الاعتيادية لأن تحسّن دولة ما موقعها أو أن تدافع عنه في هذا النظام. لماذا الحرب؟ ليست لدينا إجابة سهلة لأن الحرب كوسيلة قوية تخدم أكثر من غرض واحد. لكن بالتأكيد جزء من الإجابة يعود بنا إلى الآليات المركزية لبناء الدولة: إن المنطق الذي يقوم من خلاله زعيم ما بتوسيع المحيط الذي يحتكر العنف داخله أو الدفاع عنه ، مضاعفًا بذلك مدخوله من الاتاوات، يتداخل على مدى أوسع مع منطق الحرب. في الفترات المبكرة من عملية بناء الدولة كان الخصوم الداخليون والخارجيون يتداخلون إلى حد كبير. الخط الفاصل بين الداخلي والخارجي أصبح حادا وواضحا فقط بعد التأسيس لمحيطات سيطرة واسعة يقوم الزعماء الكبار بتقييد خصومهم داخلها. جورج مودليسكي (George Modelski) يلخص هذا المنطق التنافسي بشكل مقنع:
“القوة العالمية … تعزز من قوة تلك الدول التي تحوز عليها في مقابل كل التنظيمات السياسية وغير السياسية. الأكثر من ذلك، أن الدول الأخرى التي تنافس في لعبة القوة العالمية تطور أشكالًا تنظيمية مشابهة وصلابة مشابهة: هم ايضاً يتحولون إلى دول-أمة – إما في صورة ردة فعل دفاعية حين يُجبرَون على الاختلاف مع قوة عالمية أو مواجهتها كما واجهت فرنسا اسبانيا ولاحقا بريطانيا، أو في صورة محاكاة لنجاح القوة العالمية الواضح وفعاليتها. كما تبعت ألمانيا نموذج بريطانيا كقوة عالمية (Weltmacht) أو كما قام بيتر العظيم (Peter the Great) قبل ذلك بإعادة بناء روسيا على المفاهيم والنماذج الهولندية. لذلك لم تكن البرتغال و هولنده و بريطانيا و الولايات المتحدة هي الوحيدة التي أصبحت دول-أمة بل إسبانيا و فرنسا و ألمانيا و روسيا واليابان كذلك. لماذا نجحت هذه الدول بينما ’فشلت معظم الجهود الأوروبية في بناء دول؟‘ الجواب القصير، والشحيح جداً، هو أن هذه الدول إما كانت قوى عالمية أو أنها حاربت بشكل ناجح مع أو ضد قوى عظمى” (١٢).
إن منطق البناء العالمي للدولة يترجِم على نطاق أكبر منطق البناء المحلي. فالخارجي يكمل الداخلي.
إذا تبعنا التمييز الهش بين عمليات بناء الدولة “الخارجية” و”الداخلية” سيمكننا ربما رسم تصور للتاريخ الأوروبي لبناء الدولة في ثلاثة مراحل: (أ) النجاح المتفاوت لبعض أصحاب السلطة في صراعاتهم “الخارجية” يؤسس لفرق بين حيز “خارجي” و آخر “داخلي” لنشر القوات العسكرية ، (ب) التنافس “الخارجي” يولد بناء دولة “داخلي” ، (ج) الاصطفاف “الخارجي” بين الدول يترك أثراً أقوى على شكل وموقع دول معينة. من هذا المنظور، فإن المنظمات المانحة لتراخيص الدول كالأمم المتحدة وعصبة الأمم تمدد ببساطة عملية بناء الدولة المتمركزة في أوروبا إلى العالم كله. لقد أكمل إنهاء الاستعمار ببساطة هذه العملية التي من خلالها تجتمع الدول الموجودة لخلق دول جديدة سواء تم ذلك بالإجبار أو بشكل طوعي، و سواء تم ذلك بالسلم أو بالدم.
لكن تمدد عملية بناء الدولة وفقًا للنموذج الأوروبي إلى بقية العالم لم ينتج عنه خلق دول على الصورة الأوروبية بشكل دقيق. بشكل عام، أنتجت الصراعات الداخلية كتقييد زعماء المناطق الكبار وفرض الضرائب على فلاحي القرى سمات تنظيمية مهمة للدول الأوروبية: خضوع القوة العسكري النسبي للحكم المدني، البيروقراطية الموسعة للرقابة المالية، وتمثيل المصالح المظلومة من خلال العرائض والبرلمان. أما الدولة في باقي العالم فقد تطورت إجمالا بشكل مختلف. أبرز سمة يظهر فيها الفرق هي التنظيم العسكري. فالدول الأوروبية بنت أجهزتها العسكرية عبر صراعات مستدامة مع السكان التابعين لها و عبر توفير الحماية انتقائيًا لطبقات مختلفة ضمن هؤلاء السكان. اتفاقيات الحماية قيدت الحكام أنفسهم وجعلتهم معرضين للمحاكم والمجالس التمثيلية وسحب الثقة والخدمات والخبرات.
إلى حد بعيد، فإن الدول التي ولدت حديثًا عبر التحرر من الاستعمار أو عبر إعادة تقسيم الدول المهيمنة لأراضيها حصلت على التنظيم العسكري من الخارج، من غير صياغات شبيهة من التقييد المتبادل بين الحكام والمحكومين. ومع استمرار الدول الخارجية في تزويدها بالبضائع والخبرات العسكرية مقابل سلع أو تحالف عسكري أو الإثنين معاً، فإن الدول الجديدة تتمتع بتنظيمات قوية وغير مقيدة تطغى بسهولة على كل التنظيمات الأخرى داخل أراضيها. ومادامت الدول الخارجية تضمن لهم حدودهم ، فإن مدراء هذه التنظيمات العسكرية يمارسون سلطة استثنائية داخل هذه الحدود. إن تفوق القوة العسكرية أصبح هائلا، وحوافز توظيف هذا التفوق للاستيلاء بالقوة على الدولة ككل أصبحت قوية جدًا. بالرغم من مركزية صناعة الحرب في بناء الدول الأوروبية ، إلا أن الدولة القومية القديمة في أوروبا لم تواجه هذا التفاوت العظيم بين التنظيم العسكري وبين أشكال التنظيم الأخرى، الأمر الذي يبدو أنه مصير الدول التابعة في جميع أنحاء العالم المعاصر. قبل قرن من الزمان، ربما كان بوسع الأوروبيون أن يهنئوا أنفسهم على انتشار الحكومات المدنية في أرجاء العالم، أما في وقتنا هذا، فإن تشبيه صناعة الحرب وبناء الدولة بالجريمة المنظمة يصبح ملائمًا بشكل مأساوي.
(١). Arthur L. Stinchcombe, Constructing Social Theories (New York: Harcourt, Brace & World, 1968), p. 150; italics in the original.
(٢). Fernand Braudel, La Mediterranee et le monde mkditerranken a l’epoque de Philippe II (Paris: Armand Colin, 1966), vol. 2, pp. 88-89.
(٣). Lawrence Stone, The Crisis of the Aristocracy (Oxford: Clarendon Press, 1965), p. 200.
(٤). Dietrich Gerhard, Old Europe: A Study of Continuity, 1000-1800 (New York: Academic Press, 1981), pp. 124-25.
(٥). Jan de Vries, The Economy of Europe in an Age of Crisis, 1600-1750 (Cambridge: Cambridge University Press, 1976).
(٦). V. G. Kiernan, State and Society in Europe, 1550-1650 (Oxford: Blackwell, 1980), p. 104. For French finances, see Alain Guery, “Les Finances de la Monarchie Francaise sous l’Ancien Regime,” Annales Economies, Societes, Civilisations 33 (1978), p. 227.
(٧). Earl J. Hamilton, “Origin and Growth of the National Debt in France and England,” in Studi in onore di Gino Luzzatto (Milan: Giuffre, 1950), vol. 2, p. 254.
(٨). المرجع السابق، صفحة 247 و 249
(٩). المرجع السابق، صفحة 254
(١٠). G. R. Elton, “Taxation for War and Peace in Early-Tudor England,” in War and Economic – Development: Essays in Memory of David Joslin, ed. J. M. Winter (Cambridge: cambridge university Press, 1975), p. 42
(١١). Peter Mathias, The Transformation of England: Essays in the Economic and Social History of England in the Eighteenth Century (New York: Oxford University Press, 1979), p. 122.
(١٢). George Modelski, “The Long Cycle of Global Politics and the Nation State,” Comparative Studies in Society and History 20 (1978): 231.
قائمة المراجع
Ames, Edward, and Richard T. Rapp. “The Birth and Death of Taxes: A Hypothesis.” Journal of Economic History 37 (1977): 161-78.
Ardant, Gabriel. “Financial Policy and Economic Infrastructure of Modern States and Nations.” In The Formation of National States in Western Europe, edited by Charles Tilly. Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1975.
Badie, Bertrand. Le developpement politique. 2nd ed. Paris: Economica, 1980.
Badie, Bertrand, and Pierre Birnbaum. Sociologie de L’Etat. Paris: Bernard Grasset, 1979.
Bayard, Francoise. “Fermes et traites en France dans la premiere moitie du XVIIe siecle (premiere esquisse 1631-1653).” Bulletin du Centre d’Histoire, Economique Sociale de la Region Lyonnaise, no. 1 (1976): 45-80.
Bean, Richard. “War and the Birth of the ati ion State.” Journal of Economic History 33 (1973): 203-21.
Blockmans, W. P. “A Typology of Representative Institutions in Late Medieval Europe.” Journal of Medieval History 4 (1978): 189-215.
Blok, Anton. The Mafia of a Sicilian Village, 1860-1960: A Study of Violent Peasant Entrepreneurs. Oxford: Blackwell, 1974.
Bonney, Richard. Political Change under Richelieu and Mazarin, 1624-1661. Oxford: Oxford University Press, 1978.
Braudel, Fernand. La Mediterranee et le monde mediterraneen a l’epoque de Philippe II. 2d ed. 2 vols. Paris: Armand Colin, 1966.
Civilisation materielle, economie, et capitalisme, XVe-XViiie siecle. 3 vols. Paris: Armand Colin, 1979.
Braun, Rudolf. “Taxation, Sociopolitical Structure, and State-Building: Great Britain and Brandenburg-Prussia.” In The Formation of National States in Western~Europe, edited by Charles Tilly. Princeton, N. J.: Princeton University Press, 3975. “Steuern und Staats Finanzierung als Modernisierung Faktoren: Fin deutsch-I englischen Vergleich.” In Studien zum Beginn der modernen Welt, edited by Reinhard Koselleck. Stuttgart: Klett-Cotta, 1977.
Carneiro, Robert. “Political Expansion as an Expression of the Principle of Com-
petitive exclusion. In Origins of the State, edited by Ronald Cohen and Elman R. Service. Philadelphia: Institute for the Study of Human Issues 1978.
Carsten, F. L. The Origins of Prussia. Oxford: Clarendon Press, 1954.
Chapman, Brian. Police State. London: Pall Mall, 1970.
Cipolla, Carlo M. Guns, Sails, and Empires: Technological Innovation and the Early Phases of European Expansion 1400-1700. New York: Pantheon Press, 1965.
Clark, Sir George. “The Social Foundations of States.” In The Nao Cambridge Modern History, vol. 5, The Ascendancy of France, 1648-88, edited by F. L. Carsten. Cam-
bridge: Cambridge University Press, 1969.
Cooper, J. P. “Differences between English and Continental Governments in the Early Seventeenth Century.” In Britain and the Netherlands, edited by J. S. Bromley and E. H. Kossmann, London, Chatto & Windus, 1960.”General Introduction.” In The New Cambridge Modern History, vol. 4, The Decline of Spain and Thirty Years War, 1609-58159, edited by J. P. Cooper. Cam- John, A. H. “Wars and the British Economy, 1700-1763.” Economic History Review, bridge: Cambridge University Press, 1970. 2d ser., 7 (1955): 329-44.
Davis, Lance E. “It’s a Long, Long Road to Tipperary, or Reflections on Organized Violence, Protection Rates, and Related Topics: The New Political History.” Journal of Economic History 40 (1980): 1-16.
Dent, Julian. Crisis in Finance: Crown, Financiers, and Society in Seventeenth-Century France. Newton Abbot, United Kingdom: David & Charles, 1973.
Dickson, P. G. M. The Financial Revolution in England: A Study in the Public Credit, 1688-1756. London: St. Martin’s Press, 1967.
Elton, G. R. “Taxation for War and Peace in Early-Tudor England.” In War and Economic Development: Essays in Memory of David Joslin, edited by J. M. Winter. Cambridge: Cambridge University Press, 1975.
Finer, Samuel E. “State-building, State Boundaries, and Border Control.” Social Science Information 13 (1974): 79-126.”State- and Nation-Building in Europe: The Role of the Military.” In The Formation of National States in Western Europe, edited by Charles Tilly. Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1975.
Fueter, Edward. Geschichte des europaischen Staaten Systems von 1492-1559. Munich: Oldenbourg, 1919.
Gerhard, Dietrich. Old Europe: A Study of Continuity, 1000-1800. New York: Academic Press, 1981. Press, 1966; originally 1942.
Gooch, John, Armies in Europe. London: Routledge & Kegan Paul, 1980.
Guenee, Bernard. “Y a-t-il un Etat des XIVe et XVe siecles?’Annales Economies, Societes, Civilisations 36 (1981): 399-406.
Guery, Alain. “Les finances de la monarchie francaise sous l’Ancien Regime, Annales Economies, Societes, Civilisations 33 (1978), 216-39.
Hale, J. R. “Armies, Navies, and the Art of War.” In The New Cambridge Modern History, vol. 2, The Reformation 1520-1559, edited by G. R. Elton. Cambridge: Cambridge University Press, 1968.
“Armies, Navies, and the Art of War” (sic). In The New Cambridge Modern History, vol. 3, The Counter-Reformation and Price Revolution, 1559-1610, edited by caise de Sociologie 2 (1961): 66-74. Cambridge: Cambridge University Press, 1968.
Hamilton, Earl J. “Origin and Growth of the National Debt in France and England.” In Studi in onore di Gino Luzzatto, vol. 2. Milan: Giuffre, 1950.
Harding, Robert R. Anatomy of a Power Elite: The Provincial Governors of Early Modern France. New Haven, Conn.: Yale University Press, 1978.
Hechter, Michael, and William Brustein. “Regional Modes of Production and Patterns of State Formation in Western Europe.” American Journal of Sociology 85 (1980): 1061-94.
Hintze, Otto. Staat and Verfassung: Gesammelte Abhandlungen zur allgemeinen Verfassungsgeschichte. Edited by Gerhard Oestreich. Gottingen:Vandenhoeck & Ruprecht, 1962; originally 1910.
Howard, Michael. War in European History. Oxford: Oxford University Press, 1976.
James, M. E. Change and Continuity in the Tudor North: The Rise of Thomas First Lord Wharton. Borthwick Papers no. 27. York: St. Anthony’s Press, 1965.
“The First Earl of Cumberland (1493-1542) and the Decline of Northern Feudalism.” Northern History 1 (1966): 43-69.
“The Concept of Order and the Northern Rising, 1569.” Past and Present 60 (1973): 49-83.
John, A. H. “Wars and the British Economy, 1700-1763.” Economic History Review 2d ser., 7 (1955): 329-44.
Kiernan, V. G. “Conscription and Society in Europe before the War of 1914-18.” In War and Society: Historical Essays in Honour and Memory of J. R. Western, 1928- 1971, edited by M. R. D. Foot. London: Elek Books, 1973.
van Klaveren, Jacob. “Die historische Erscheinung der Korruption.” Vierteljahrsschrift fur Sozial- und Wirtschaftsgeschichte 44 (1957): 289-324.
“Fiskalismus – Merkantilismus – Korruption: Drei Aspekte der Finanz- und Wirtschaftspolitik wahrend des Ancien Regime.” Vierteljahrsschrift fir Sozial- und Wirtschaftsgeschichte 47 (1960): 333-53.
Ladero Quesada, Miguel Angel. “Les finances royales de Castille a la veille des temps modernes. ” Annales Economies, Societes, Civilisations 25 (1970): 775-88.
Lane, Frederic C. “Force and Enterprise in the Creation of Oceanic Commerce.” In The Tasks of Economic History (Supplemental issue of the Journal of Economic History 10 [1950]), pp. 19-31.
“Economic Consequences of Organized Violence.” Journal of Economic History 18 (1958): 401-17.
“The Economic Meaning of War and Protection.” In Venice and History: The Collected Papers of Frederic C. Lane. Baltimore, Md.: Johns Hopkins University demic Press, 1981. Press, 1966; originally 1942.
“The Role of Government in Economic Growth in Early Modem Times.” Journal of Economic History 35 (1975): 8-17; with comment by Douglass C. North and Robert Paul Thomas, pp. 18-19.
Levi, Margaret. “The Predatory Theory of Rule.” In The Microfoundations of Macrosociology, edited by Michael Hechter. Philadelphia: Temple University Press, 1983
Ludtke, Alf. “Genesis und Durchsetzung des modernen Staates: Zur Analyse von Herrschaft und Verwaltung.” Archiv fur Sozialgeschichte 20 (1980): 470-91.
Lyons, G. M. “Exigences militaires et budgets militaires aux U.S.A.” Revue Francaise de Sociologie 2 (1961): 66-74.
Mathias, Peter. “Taxation and Industrialization in Britain, 1700-1870.” In The Transformation of England: Essays in the Economic and Social History of England in the Eighteenth Century, edited by Peter Mathias. New York: Oxford University Press, 1979.
Michaud, Claude. “Finance et guerres de religion en France.” Revue d’Histoire Moderne et Contemporaine 28 (1981): 572-96.
Modelski, George. “The Long Cycle of Global Politics and the Nation-State.” Comparative Studies in Society and History 20 (1978): 214-35.
Nef, John U. War and Human Progress: An Essay on the Rise of Industrial Civilization. Cambridge: Harvard University Press, 1952. precht, 1962; originally 1910.
Industry and Government in France and England, 1540-1640. Ithaca, N.Y.: Cornell Press, 1965.
North, Douglass C., and Robert Paul Thomas, The Rise of the Western World: A New
North, Douglass C., and Robert Paul Thomas, The Rise of the Western World: A New Economic History. Cambridge: Cambridge University Press, 1973.
O’Donnell, Guillermo. “Comparative historical Formations of the State Apparatus and Socio-economic Change in the Third World.” International Social Science Journal 32 (1980): 717-29.
Parker, Geoffrey. The Army of Flanders and the Spanish Road 1567-1659. Cambridge:
Cambridge University Press, 1972.
Peacock, Alan T., and Jack Wiseman. The Growth of Public Expenditure in the United Kingdom. Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1961.
Poggi, Gianfranco. The Development of the Modern State: A Sociological Introduction. Stanford, Calif.: Stanford University Press, 1978.
Polisensky, Josef V. War and Society in Europe, 161 8-1 648. Cambridge: Cambridge University Press, 1978.
Pounds, Norman J. G., and Sue Simons Ball. “Core-Areas and the Development of the European States System.” Annals of the Association of American Geographers 54 (1964): 24-40.
Ramsay, G. D. The City of London in International Politics at the Accession of Elizabeth Tudor. Manchester: Manchester University Press, 1975.
Redlich, Fritz. The German Military Enterpriser and His Work Force. 2 vols. Wiesbaden: Steiner, 1964-65. Vierteljahr Schrift fur Sozial- und Wirtschaftsgeschichte, Beiheften 47, 48.
Riemersma, Jelle C. “Government Influence on Company Organization in Holland and England (1550-1650).” The Tasks of Economic History (Supplemental issue of the Journal of Economic History 10 [1950]), pp. 31-39.
Romano, Salvatore Francesco. Storia della mafia. Milan: Sugar, 1963.
Rosenberg, Hans. Bureaucracy, Aristocracy and Autocracy: The Prussian Experience, 1660- 1815. Cambridge: Harvard University Press, 1958.
Russett, Bruce M. What Price Vigilance? The Burdens of National Defense. New Haven, Conn.: Yale University Press, 1970.
Schelling, Thomas C. “Economics and Criminal Enterprise.” The Public Interest 7” (1967): 61-78.
Steensgaard, Niels. The Asian Trade Revolution of the Seventeenth Century: The East lndia Companies and the Decline of the Caravan Trades. Chicago: University of Chi-
cago Press, 1974.
Stein, Arthur A., and Bruce M. Russett. “Evaluating War: Outcomes and Consequences.” In Handbook of Political Conflict: Theory and Research, edited by Ted Robert Gurr. New York: Free Press, 1980.
Stinchcombe, Arthur L. Constructing Social Theories. New York: Harcourt, Brace & World, 1968.
Stone, Lawrence. “State Control in Sixteenth-Century England.” Economic History Review 17 (1947): 103-20.
The Crisis of the Aristocracy, 1558-1641. Oxford: Clarendon Press, 1965.
Tenenti, Alberto. Piracy and the Decline of Venice, 1580-1615. Berkeley: University of California Press, 1967.
Torsvik, Per, ed. Mobilization, Center-Periphery Structures and Nation-Building: A Volume in Commemoration of Stein Rokkan. Bergen: Universitetsforlaget, 1981.
de Vries, Jan. “On the Modernity of the Dutch Republic.” Journal of Economic History 33 (1973): 191-202.
The Economy of Europe in an Age of Crisis, 1600-1750. Cambridge: Cambridge
University Press, 1976.
“Barges and Capitalism: Passenger Transportation in the Dutch Economy, 1632- 1839,” A. A.G. Bijdragen 21 (1978): 33-398.
Wijn, J. W. “Military Forces and Warfare 1610-48.” In The New Cambridge Modern History, vol. 4, The Decline of Spain and the Thirty Years War 1609-58159, edited by J. P. Cooper. Cambridge: Cambridge University Press, 1970.
Williams, Penry. “Rebellion and Revolution in Early Modern England.” In War and Society: Historical Essays in Honour and Memory of J. R. Western, 1928-1971, ed-
ited by M. R. D. Foot. London: Elek Books, 1973.
Wolfe, Martin. The Fiscal System of Renaissance France. New Haven, Conn.: Yale University Press, 1972.
Zolberg, Aristide R. “Strategic Interactions and the Formation of Modern States: France and England.” International Social Science Journal 32 (1980): 687-716.
مقال رائع