ترجمة: مهند نجار. مراجعة: ريوف خالد.
موجز المترجم
يناقش الفيلسوف الأمريكي ليو شتراوس (1899 – 1973) في مقالته «الاضطهاد وفن الكتابة» ما يصفه بأنه دائماً ما يُتداول بصفته تعبيراً مجازياً، وأن التطرُّق إليه بلغة غير مجازية سيقودنا إلى اكتشاف منطقة مجهولة وحقلٌ لم تُكتشَف ملامحه بعد، يعني بذلك: الكتابة بين السطور. ذلك أن الكاتِب الذي يحمل رُؤى تعدُّها السًّلطة مجدِّفة وتعرِّض الكاتب للعقوبة، يلجأ إلى تطوير آلية مميزة في الكتابة هي ما تخطر في بالنا عندما نسمع هذا التعبير: الكتابة بين السطور. ويعني هذا تطوير نوع مميّز من الأدب. لكن كيف بإمكاننا قراءة ما بين السُّطور في أعمال كُتّاب العصور السابقة؟ يناقش هنا الاختلاف بين التقليديّين والنقّاد التاريخيين، في أسباب تقبّلهم أو رفضهم لقراءة ما بين السطور، والمبادئ التي تخضع لها هذه القراءة.
الإحالة إلى المقالة الأصلية
Strauss, Leo, Persecution and the Art of Writing , Social Research, 8:1/4 (1941) p.488.
تلك الرذيلة التي لطالما أثبتت أنها مُحرِّرة للعقل، هي من أكثر الأمور إذلالَا، لكنها وفي الوقت نفسه، من أكثر الحقائق التاريخية التي لا تقبل المساءلة .
– ويليام إدوارد ليكي
في عددٍ لا يُستهان به من الدول، والتي تمتّعت لمئات السنين عملياً بحرية كاملة في النقاش العام، تلك الحرية المقموعة والمُستبدلَة الآن بالإكراه على نسج الخطاب الذي يتوافق مع الرُؤى التي تعتقد الحكومة أنها مُناسبة أو أنها خالية تماماً من أي مخاطر. يجدر بنا أن ننظر بإيجاز إلى تأثير هذا القمع أو الاضطهاد على الأفكار والأفعال أيضاً.
شريحة كبيرة من الشعب، وربما الغالبية العظمى من الجيل الناشئ، يتقبَّل الرؤى المدعومة من الحكومة على أنها حقيقة، إن لم يكُن في بادئ الأمر فمع مرور الوقت. كيف أُقنعوا؟ وكيف كان لعامل الوقت دورٌ في ذلك؟ لم يُقنعوا بالإكراه، لأنَّ الإكراه لا يُولِّد قناعةً، الإكراه بالكاد يُمهِّد الطريق للقناعة عبر إخراس الاعتراضات.
ما تُسمَّى حرية الفكر ترجع في حالات كثيرة إلى – بل وتتألف في الحقيقة من – القدرة على الاختيار بين وجهتَي نظر أو أكثر قدّمتها أقليّة من الخطباء أو الكُتَّاب من الشعب. إذا لم يتوفَّر هذا الاختيار، فإن الطريقة الوحيدة للاستقلال الفكري التي يمكن للشعب أن يحظى بها تكون قد دُمِّرَت، وهذه هي حريّة الفكر الوحيدة المهمّة سياسياً. فالاضطهاد إذن، هو الشرط الذي لا غنى عنه لفعاليّة نموذج ما يسمى: منطق الفرس logica equina. بحسب (عربة الحصان) لبارمنيدس، أو خيل هويهنهنم الذكية التي كتب عنها غوليفر؛ لا يستطيع المرء أن يقول أو بالأحرى أن يُبرِّر قوله: “الأمر بخلاف حقيقته”، بحسبهم فإن الأكاذيب لا تُصدّق. هذا المنطق ليس خاصاً بالخيل ولا بفلاسفة عربة الحصان، بل هو – بطريقةٍ ما مختلفة – يحدِّد فكر الكثير من الناس العاديّين أيضاً، سيقرُّون بالتأكيد أن الإنسان يستطيع الكذب بل و يكذب، لكنهم سيكملون هذه العبارة قائلين أن الأكاذيب لا تحيا إلا لمدّة قصيرة، وأنها لا تنجح في اختبار تكرارها، فضلاً عن الاستمرار في تكرارها، و بناءً على هذا بالنسبة لهم، فالتصريح الذي يُردَّد باستمرار ولا يُعترَض عليه لابد من أنه الحقيقة.
ولنفس الفكرة طريقة أخرى للمحاججة تنص على أن ما يُصرّح به الشخص العادي قد يكون كذبًا، لكنَّ مصداقية تصريح شخص مسؤول ومحترم، وبالأخص إذا كان مسؤول رفيع أو من أصحاب المناصب العليا، ضرورة أخلاقيّة.
كلتا هاتين الأطروحتين تنتهي إلى أن كلام كبار مسؤولي الحكومة والذين لا يتم الاعتراض عليهم ويُعاد سماعه باستمرار، هو على الأقل في حكم الحقيقة.
يقتضي هذا أنه لا يمكن دفع هؤلاء الذين لا يتبع تفكيرهم نموذج (منطق الفرس)، أو بمعنى آخر، كل هؤلاء الذين يحظونَ باستقلال فكري حقيقي، لا يمكن دفعهم لقبول الرؤى المدعومة من الحكومة. هؤلاء الأشخاص ربما يُطلَق عليهم – وفي غياب مصطلح أفضل – : الأقلية المثقفة، تمييزاً لهم عن مجموعات أخرى مثل: الإنتلجنسيا.
الاضطهاد، إذن، لا يمكنه منع الاستقلال الفكري، ولا حتى منع التعبير عنه، المخاطرةُ الآمنة في أن يُخبر المرءُ معارفه ومن يثق فيهم – أو بشكلٍ أدق: أصدقائه العقلاء – بالحقيقة التي يُدركها، حقيقيّة الآن كما كانت حقيقيةً كذلك قبل ألفي سنة.
لا يستطيع الاضطهاد أن يمنع الحقيقة “المجدِّفة” من التعبير علناً، فبالنسبة لصاحب الاستقلال الفكري، بإمكانه أن يعبِّر علناً عن آرائه ويبقى سالماً، شريطة أن يتحرَّك بحذر، بل ويستطيع أن يدوِّنها في مطبوعات منشورة دون أن يتعرَّض لأي خطر، شريطة أن يكون قادراً على الكتابة بين السطور.
يشير هذا التعبير “الكتابة بين السطور” إلى موضوع هذه المقالة، فتأثير الاضطهاد على الأدب بالتحديد أنه يُلجِئ جميع الكُتَّاب الذين يحملون رؤى مُجدِّفة، إلى تطوير آلية مميّزة في الكتابة، هي تلك الآلية التي تخطر في بالنا عند الحديث عن الكتابة بين السطور.
من الواضح أن هذا التعبير مجازي، وأي محاولة للتعبير عن معناه بلغة غير مجازية ستقودنا إلى اكتشاف منطقة مجهولة، حقل لم تُكتشَف ملامحه بعد، ويُعطي مجالاً واسعاً لتحقيقات آسرة ومهمة. ربما يقول المرء – بلا خوف من أن يُتَّهَم بالمبالغة الجسيمة – أن الأعمال الممهِّدة للراغبين في اكتشاف هذا الحقل، تكاد تكون مدفونة في أعمال خطباء العصور ما قبل الوسطى.
عوداً إلى موضوعنا، دعونا ننظر إلى مثال بسيط حيث – وأنا أملك أسباباً لأعتقد أنه ليس بعيداً عن الواقع كما قد يبدو للوهلة الأولى – بإمكاننا ببساطة أن نتخيّل مؤرِّخاً يعيش في دولة شمولية، عضو محترم وغير مشتبه به ينتمي إلى الحزب الوحيد في الوجود [الحزب الحاكم]، قادته تحقيقاته إلى الشك في متانة التأويل الذي تدعمه الحكومة بالنسبة لتاريخ الدين.
لن يمنعه أحدٌ من نشر هجوم متحمس على ما قد يُسمِّيه الرؤية الليبرالية، بالتأكيد سيكون بحاجة إلى عرض الرؤية الليبرالية قبل مهاجمتها، سيقوم بعرضها على نحو يظهرها بشكل ممل، عادي وضعيف، مما يبدو على أنه لا شيء إلا طبيعتها. وسيستخدم مصطلحات فنية ومتخصصة، ويأتي بعدد من الاقتباسات ويُلحِق المهم ببعض التفاصيل الدقيقة غير المهمة. وسيبدو أنه – كمؤرِّخ – غافل عن الحروب المقدسة للبشريَّة في مقابل المشاحنات الصغيرة بين الأدعياء. وعندما يصل إلى جوهر المحاججة التي سيقدِّمها، يكتب ثلاثة أو أربعة جمل بذلك الأسلوب المقتضب والجذّاب، والذي يكون عُرضةً لأسر اهتمام القارئ الشاب الذي يحب أن يفكِّر. تلك الجُمَل العابرة، ستصف حالة الخصوم بشكل أكثر وضوحاً وإقناعاً وخُلوًّا من الرحمة مما وُصِفَت به الليبرالية في عنفوان شبابها، سيتجاهل بصمت كل التفاصيل الزائدة في ما بعد للعقيدة الليبرالية والتي سُمِحَ لها بالنمو في وقت نجحت فيه الليبرالية، ولذا سيتغافل عنها.
قارئه الشاب المفكِّر، ربما للمرة الأولى سيُلقي نظرة على التفّاحة المحرَّمة، غالبية العمل [الذي سيقرأه الشاب]، والهجوم الذي يتضمَّنه، سيتألف من التوسّع الشَّرِس في التأويل الحرفي للكلام الأكثر خبثاً في الكتاب أو الكتب المقدسة للحزب الحاكم.
الشاب الذكي الذي لكونه شاباً، كان حتى ذلك الحين وإلى حدٍّ ما مجذوباً إلى هذا الكلام المتطرِّف، سيتقزّز الآن، بل وحتى سيمل منه. وبعد أن تذوَّق طعم التفاحة المحرّمة، عندما يقرأ الكتاب للمرة الثانية والثالثة، سيكتشف في ترتيب هذه الاقتباسات في الكتب الموثوقة من قبل الحكومة؛ أهمية لإضافات لا بد منها لتلك العبارات المقتضبة، والتي كان لا بد أن تكون مركزيّةً بدلاً من كونها مقتضبة كما كانت أولاً.
الاضطهاد، إذن، يؤدي إلى تقنية غريبة في الكتابة، وذلك يعني نوعاً مميزاً من الأدب، الأدب الذي تُعرَض فيه الحقيقة تجاه الأمور الشائكة حصراً بين السطور. هذا الأدب ليس مُوجَّهاً إلى كلّ القُرَّاء، إنما للقراء الأذكياء الجديرين بالثقة فقط. يملك هذا الأدب كل مميّزات التواصل الشخصي والخاص؛ دون أن يمتلك عيبه الأساسي- فهو لا يقتصر على معارف الكاتب وحسب -، كما يملك كل مميّزات التواصل الجماهيري والعام، دون أن يمتلك عيبه الأساسي: عقوبة الإعدام للكاتب.
لكن كيف يمكن لأحدٍ أن يُحقِّقَ هذه المعجزة: الحديث العلني مع الأقلية، والبقاء صامتاً مع الأغلبيّة من القُرَّاء؟ تبيّن التجربة والمنطق أن ما قد يبدو أنه معجزة؛ أمرٌ طبيعيٌ تمامًا. ما يجعل هذا النوع من الأدب ممكناً؛ هي ما يمكن أن نعبِّر عنها: المسلّمة البديهية التي تقول بأن غير المبالين؛ قراء غير يقظين، ووحدهم النبهاء هم القراء اليقظون.
وهكذا، المؤلِّف الذي يُريد أن يُخاطِب النبهاء وحدهم، لا يملك سوى أن يكتُب بطريقة تُمكِّن القارئ اليقظ وحده من اكتشاف المعنى في كتابه، لكن، قد يتمّ اعتراضه، قد يكون هناك قارئٌ ذكيٌ ويقظ لكنّه ليسَ أهلاً للثقة، وبعدما يكتشِف الكاتب؛ يشي به للسُّلطات، في حقيقة الأمر، سيكون هذا الأدب مستحيلًا لو أن المقولة السقراطية التي ترى أن المعرفة تقود للفضيلة، وأن القارئ الذكي سيكون دائماً أهلاً للثقة وبعيداً عن القسوة؛ خاطئة كليًّا.
المُسلَّمة الأخرى – لكنّها لا تعني شيئاً إلا عندما يكون الاضطهاد محدوداً بالإجراءات القانونية – هي أن الكاتِب الحَذِر متوسِّط الذكاء أذكى من الرقيب الأذكى، وهكذا، لأن الإثبات يقع على عاتق الرقيب، عليه هو، أو المُدِّعي العام، أن يُثبت أن المؤلِّف يحمل رؤىً مُجدِّفة أو قد نطق بها، وحتى يُثبِت هذا، عليه أن يقول أنَّ الخلل الأدبي في الكتاب ليس نتيجةً للصدفة، لكنَّ المؤلِّف تعمَّد استخدام تعبير غامض، أو أنه قصد صياغة جملة ما بهذا الشكل السيء. يعني ذلك، أن المُراقِب عليه أن يُثبِت أن المؤلِّف ذكيٌّ وكاتبٌ جيِّدٌ أكثر من أنه قد يُخطئ حماقةً أو جهلاً في الكتابة، أن يثبت أنه متمكّن من فنّ الكتابة. لا يُثبِت المراقب هذا وحسب، بل يُثبِت أيضاً أن المُؤلِّف كان على المستوى المعتاد من قدراته حينما كتب كلماته المجرَّمة تلك. لكن كيف يمكن أن يتمّ إثبات هذا كله، إذا كان هومر نفسه يزلّ ويخطئ من حينٍ لآخر؟
-2-
ظهر قمع التفكير المستقل في الماضي بشكل متكرِّر إلى حدٍّ ما. من المعقول أن نفترض أن العصور الأولى أنتجت عدداً من الأشخاص القادرين على التفكير المستقل بقدر ما نجد اليوم، وأن بعض -إن لم يكُن أغلب- هؤلاء الكُتَّاب جمع بين الفهم المُتَّقِد، والحَذَر.
وهكذا يمكن للمرء أن يتساءل ماذا لو لم يكيّف بعض أعظم كُتَّاب العصور الماضية تقنياتهم الكتابية مع الإملاءات التي يمليها عليهم الاضطهاد، بعرض وجهة نظرهم تجاه كل الأسئلة الملحَّة لعصرهم وبشكل حصري بين السطور.
هناك ما يحولُ بيننا وبين أخذ هذا الاحتمال – وكل الأسئلة المتّصلة به – بعين الاعتبار، تمنعنا عادات وتقاليد تمَّ إنتاجها أو متعلّقة بالتقدُّم الذي أُحرِزَ مؤخراً في البحث التاريخي. هذا التقدُّم يخضع بالدرجة الأولى للقبول العام والتطبيق المتكرِّر للمبادئ التالية:
يجب أن تُفهَم كل مرحلة من الماضي بحسب معطياتها، ويجب أن لا يُحكَم عليها بمعايير غريبة عنها، كل مؤلِّف يجب – وبقدر الإمكان- أن تؤوَّل نصوصه بحسب نصوصه الأخرى. لا يجوز استخدام مصطلح في تأويل كاتب مهما تكن قيمته ما لم تكن ترجمته حرفياً إلى لغة المؤلِّف نفسه ممكنة، ما لم يُستخدَم من قبل الكاتب أو ما لم يكُن شائعاً في وقته. الرأي الوحيد الذي يمكن قبول نسبته لكاتب، هو ما تنقله لنا في نهاية المطاف عباراته الصريحة.
آخر هذه المبادئ يبدو حاسماً: آراء الكُتَّاب المتقدِّمين التي أشاروا إليها حصراً وفقط بين السطور، محجوبة تماماً عن مجال المعرفة الإنسانية. فإذا كان المؤلِّف يؤكِّد بوضوح في كل صفحة في كتابه أن سين تساوي صاد، ولكن يشير بين السطور أن سين لا تساوي صاد، سيطالب المؤرِّخ الحديث بدليل واضح يثبت أن المؤلِّف يعتقد أن سين لا تساوي صاد، ومن المتعذّر أن يتوفَّر دليلٌ كهذا، وهكذا يفوز المؤرِّخ الحديث بحجّته، فبإمكانه الآن أن يتجاهل أي قراءة لما بين السطور باعتبارها تخمين اعتباطي، أو لو كان كسولاً، سيقبل أن يعدّها مجرّد معرفة حدسيّة.
تطبيقات هذه المبادئ لها عواقب مهمة، فإلى وقتٍ ظلت فيه ذاكرة الناس حيّة، كان الكثير يضع في اعتباره عبارات مشهورة لبودان، وهوبز، وبيرك، وكوندرسيه، وغيرهم، ترى أن هناك اختلافاً مفاهيمياً أساسياً بين الفكر السياسي الحديث والفكر السياسي للعصور الوسطى وما قبلها. الجيل الحالي من الدارسين يُلَقَّنون من قبل أحد أشهر مؤرِّخي زماننا أنه “بدايةً من المنظِّرين القانونيِّين للقرن الثاني -على الأقل- إلى منظِّري الثورة الفرنسية، كان تاريخ الفكر السياسي يتغيَّر في الشكل وحسب، ويتعدَّل في المحتوى، ولكنه في جوهره يتضمَّن نفس المفاهيم”. وحتى منتصف القرن التاسع عشر، كان يُعتقَد أن ابن رشد معادياً للأديان، و بعد الهجوم الناجح لرينان على ما يُطلَق عليه الآن: أسطورة القرون الوسطى، اعتبر باحثو هذه الأيام ابن رشد مسلماً بل ومخلصاً لإيمانه. واعتقد الكُتَّاب السابقين أن “الرغبة في التخلّص من الفكر الديني والسحري” كانت من سمات موقف الأطباء اليونانيين. وكاتب آخر يؤكِّد أن “الأطباء الأبقراطيين والعلماء، تبنَّوا عقائد خرق الطبيعة”. ليسنج، والذي كان من أكثر الإنسانيّين عمقاً على مرّ الأزمان، والذي كان يمزج بشكل نادر بين العلم والذوق والفلسفة، والذي كان مقتنعاً أن هناك حقائق لا ينبغي أو لا يمكن أن تكون معلنة، اعتقدَ أنَّ “كل الفلاسفة القدماء” ميّزوا بين تعليمهم للخواص وللعوام.
وبعد المحاججة القوية التي قدّمها اللاهوتي الشهير شلايرماخر، وتأكيده على وجهة النظر التي تقول أن هناك تعليماً أفلاطونياً واحداً وحسب، أصبح السؤال عن التعاليم الباطنيّة الخاصّة؛ بالنسبة للفلاسفة القدماء وفقًا لهذا مقصوراً على معنى “الخطاب الظاهر” لأرسطو. وفي هذا السياق، أكّد أحد أشهر الإنسانيّين في يومنا هذا، على أن الادّعاء بأنّ أرسطو كان لديه تعليماً سرياً، هو ادّعاء “من الواضح أنه اكتشاف متأخِّر يعود منشأه إلى روح الفيثاغوريين الجدد”.
وبحسب إدوارد جيبون، كان يوسابيوس القيصري قد “اعترف بشكل غير مباشر أنه ذكرَ كل ما يساهم في فخر ومجد الدين المسيحي، وتجاهل كل ما قد يوحي بعكس ذلك أو يوظَّف في ازدراء الدين”. وبحسب مؤرِّخ معاصر، “حكُم جيبون بأن تأريخ يوسابيوس القيصري كان ظالماً ظلماً شنيعاً، هو بحد ذاته حكُم مجحف”.
وحتى نهاية القرن التاسع عشر، كان كثيرٌ من الفلاسفة واللاهوتيِّين يعتقدون أن توماس هوبز كان ملحداً، وحالياً يرفض كثيرٌ من المؤرِّخين هذه النظرة ضمنياً أو صراحةً. اعتبر أحد المفكِّرين المعاصرين أن هوبز هو من خطَّ الخطوط العريضة للفلسفة الكانطية الجديدة للدين في كتاباته؛ رغم الشعور العام بأن هوبز لم يكُن فعلاً رجلاً متديّناً.
ومونتسكيو نفسه، وبعض معاصريه أيضاً، آمنوا بأن “روح الشرائع” يتضمَّن خطة جيّدة بل ورائعة؛ وكان إدوارد رينيه دي لابولاي يرى أن المراقبة والاضطهاد هي السبب في غموض خطّة “روح الشرائع” والعيوب الواضحة في كتابات مونتسكيو الأدبية الأخرى. أحد أشهر مؤرِّخي الفكر السياسي هذه الأيام، يؤكِّد أنه “في الحقيقة لا يوجد هناك تسلسل في مادة الكتاب، وكمّيّة عدم الترابط هائلة”. ولهذا “لا يمكن القول بأن كتاب مونتسكيو روح الشرائع، يحتوي على أي مخطّطات”.
هذه الأمثلة المختارة – ولم يكن اختيارها اعتباطاً – تُظهِر أن الاختلاف المعهود بين الرؤى القديمة والرؤى المعاصرة لا يخضع بالكامل للتقدُّم في الدقّة التاريخيّة، إنما يخضع أيضاً لتغيُّر أساسي في الوسط الثقافي. خلال العقود الماضية، قد غيّر عدد متزايد من الناس في التقليد العقلاني أو رفضه بأكمله، التقليد الذي كان قاسمًا مشتركًا لبعض الرؤى القديمة، ومؤثِّراً في وضعية القرن التاسع عشر. هل يعد هذا التغيُّر تقدماً أو تراجعاً، ولأي مدى كان كذلك؟ هذا سؤال لا يجيب عنه إلا الفيلسوف.
ويحمل المؤرِّخ واجباً أكثر تواضعاً. فهو يُطالب فقط -وهو بذلك مُتَّسِق مع نفسه- بأن يظلّ تقليد الدقة التاريخية مستمراً، بعيداً عن أي تغييرات طالت أو قد تطال المناخ الثقافي. وبناءً على هذا، فلن يقبل المؤرِّخ معياراً اعتباطياً للدقة التاريخية قد يقود إلى استبعاد أهم الحقائق التاريخية لماضي المعرفة الإنسانية، بل سيتبنى قواعد المعرفة اليقينية التي توجِّه أبحاثه لإدراك طبيعة ما يبحث عنه. وسيتبع بعد ذلك قواعد تقول:
القراءة ما بين السطور محظورة بشدّة وفي جميع الحالات لأنها ستقود إلى دقّة تاريخية أقل مما لو لم نقُم بها. يمكن أن نقوم بقراءات كهذه، إذا كانت مستمدّة من عبارات واضحة أخرى للكاتب نفسه فقط. السياق الذي تظهر فيه عبارة المؤلِّف، والشخصيات الأدبية للعمل بأكمله، بالإضافة إلى مجمل أفكاره وأهدافه، كل هذه أمور يجب أن تُفهَم كاملاً وبعناية قبل أن يدّعي تأويلٌ ما لتلك العبارة أنه مناسب؛ فضلاً عن أن يكون صحيحاً. لا يحق للمرء أن يحذف معنى فقرة، أو أن يحسِّن من معناها، قبل أن يضع في اعتباره كاملاً كل المعاني المحتملة لها بحسب الطريقة التي كُتِبَت بها. أحد هذه الاحتمالات مثلاً أن تكون تلك العبارة ساخرة أو أن المُحرر أو الناسخ المسؤول عن تنقيح الأصل كان ذكيًا ويدرك ما يفعل.
إذا كان أستاذ فنّ الكتابة يرتكبُ أخطاءً فادحة يخجل منها طالب الثانوية النبيه، فمن المعقول أن نفترض أنها متعمَّدَة. خاصةً إذا كان الكاتب يناقش، ولو بشكل عارض في مواطن أخرى، احتماليّة الأخطاء المتعمَّدَة في الكتابة. يجب أن لا تُعَد آراء كاتب المسرحية أو الحوار، وبغير دليلٍ مُسبَق، هيَ نفسها آراء شخصية أو أكثر من شخصياته [الأدبية]، أو الآراء التي اتفقت عليها جميع شخصياته، أو شخصياته الجذابة. الرأي الحقيقي للكاتب ليسَ بالضرورة هو نفسه الرأي المُعَبَّرُ عنه في أغلب نصوصه. وباختصار، الدقّة التاريخية يجب أن لا تُخلَط بعدم القدرة أو رفض رؤية الجوهر المختبئ خلفَ المظهر. المؤرِّخ المهتم فعلاً بالدقّة التاريخية، سيُكيِّف نفسه مع حقيقة أن هناك فرقٌ بينَ كسب الغلبة في النقاش أو السعي العملي لإثبات صحة موقفه، وبينَ فهم أفكار وآراء الكُتَّاب العظماء على مرّ التاريخ.
يجب إذن أن يُعَدَّ أمراً واردُ الحدوثِ أن لا يكون هناك اتّفاق كامل بين الباحثين في قراءتهم لما بين السطور. إذا كان هذا يشكِّل اعتراضاً على القراءة بين السطور، فهناك الاعتراض المُضاد له والذي يقول بأنَّ لا هذا ولا ذاك يملك منهجيّات تُستخدَم عادةً اليومَ وقادت إلى اتّفاق عالمي أو واسع النطاق في مواضيع هامّة جداً.
كان الدارسونُ في القرن الماضي [التاسع عشر] يميلونَ إلى حلّ المشكلات الأدبية بالعودة إلى نشأة وتكوُّن عمل الكاتب أو جذور فكرته. التناقضات والتعارضات والاختلافات في كتابٍ واحد، أو بينَ كتابَيْنِ لنفس المؤلِّف، سيُفترَض أنها دليل على أنَّ أفكاره تغيَّرَت. وإذا تجاوزت التعارضات حداً معيناً، كان من الممكن في بعض الأحيان أن يُوصَف أحد هذه الأعمال -وبلا أي دليل آخر سوى هذه التعارضات- أنه لا تصح نسبته للكاتب. هذه العمليّة بدأت تكتسب مؤخّراً سُمعة سيئة، وفي هذه الأيام يميلُ الدارسون إلى أن يكونوا أكثر مُحافظةً تجاه التراث الأدبي، وأقل إعجاباً بمجرّد الأدلّة الداخليّة [داخل العمل الأدبي].
الاختلاف بين التقليديّين والنُقّاد التاريخيّين هو على كلِّ حالٍ بعيدٌ عن أن تتمَّ تسويَته. التقليديّون وفي قضايا مهمّة قد يُثبتون أنَّ النُقّاد التاريخيّين لم يُبرهِنوا على افتراضاتهم بالمرة، لكن حتى ولو كانت كل الأجوبة المُقترَحَة من قبل النُقّاد التاريخيّين أثبتت وعلى نحو قاطع فشلها، فالأسئلة التي قادتهم بعيداً عن التقليد وجذبتهم نحو تجربة أطروحة جديدة؛ أسئلتهم تلك تُثبِتُ وعياً بالصعوبات التي لا تُؤرِّق بال الباحث التقليدي العادي لحظة واحدة. فالإجابة المناسبة على السؤال الأكثر جدّيّةً من هذه الأسئلة، تتطلَّب تأمّلاتٌ منهجيّة في الأسلوب الأدبي المتَّبع لدى كبار كُتّاب العصور المبكِّرة، لأنَّ النموذج المألوف للمشاكل الأدبية [أن العمل الأدبي] يتضمَّن غموضاً في الخطة [أو الغاية]، تناقضات وتعارضات في كتابٍ واحد، أو بينَ كتابَيْنِ أو أكثر لنفس المؤلِّف، إغفال صلات مهمة للنقاش، وهكذا. مثل هذه التأمُّلات – التي يحتاجها التقليديّون- تتجاوز بالضرورة حدود الاستاطيقا الحديثة بل وتتجاوز الشعريّة التقليديّة، وأعتقد أنها ستُجبِر الطلاّب عاجلاً أم آجلاً ليأخذوا ظاهرة الاضطّهاد في الاعتبار.
وجديرٌ بالذكر هنا أمرٌ هو ليسَ مجرّد منظور مختلف لذات الحقيقة، أننا نُلاحظ تعارضاً بين تأويل تقليدي وسطحي وتراثي لبعض كبار كُتّاب العصور الماضية، وتأويل آخر أكثر ذكاءً وتخصصاً وعمقاً. وكلا التأويلَيْن على درجة واحدة من الصّرامة والتمحيص، كما أن كليهما يستنِد على عبارات صريحة للكاتب المعني. غير أن القلة من الناس في الوقت الحاضر، يضعونَ في اعتبارهم احتمالية أن يعكس التأويل التقليدي تعليم العوامّ عند الكاتب، بينما يعكس التأويل الآخر الأكثر تخصصاً وعمقاً؛ مسافة في منتصف الطريق بين تعليم العوامّ والخواصّ عند ذلك الكاتب.
تصدّى بل وقضى البحث التاريخي الحديث -والذي ظهرَ في وقت كان يُعَد فيه الاضطهاد عبارة عن ذكرى خافتة بدلاً من كونه تعايشاً مع قوة غاشمة – على الميل المبكِّر لقراءة ما بين سطور كبار الكتّاب؛ أو الميل لترجيح كفّة المبادئ الأساسية للكُتَّاب بدلاً من تلك الآراء التي يعيدون تكرارها. ستُوَاجه أي محاولة لاستعادة الأطروحة المبكّرة في زمن التاريخانية الحالي؛ بمشكلة معايير التمييز بين القراءة المشروعة وغير المشروعة لما بين السطور.
إذا كان صحيحاً أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الاضطهاد والكتابة بين السطور، فلا بد -وبالضرورة- أن يكون هناك معيارٌ سلبي: أن الكتاب محلّ البحث يجب أن يكون قد كُتِبَ في عهدٍ من عهود الاضطهاد. يعني هذا أنه كُتب في زمنٌ يُفرَض فيه التشدّد السياسي أو غير السياسي بقوة القانون أو العُرف. أحد المعايير الإيجابية هو: حين يستنكر الكاتب المتمكن الذي يملك ذهناً صافياً ومعرفة تامة برؤى التشدُّد [تشدُّد السُّلطة] وكل تداعياتها؛ خِلسةً كأن يتجاوز – أو يغضّ نظره – عن بعض الافتراضات الأساسيّة أو العواقب التي يعيها تماماً وتُراعى في كل مكان حوله، نستطيع إذن أن نشك شكاً معقولاً أنه كان مُعارضاً للنظام المتشدِّد كذلك، ويجب أن نعيد دراسة كتابه كاملاً مرةً أخرى باهتمام وتركيز وانتباه أكثر من أي وقتٍ سبقت قراءة الكتاب فيه. في بعض الحالات، نمتلكِ برهاناً واضحاً يُثبت أن الكاتب أشار إلى آرائه في أهم القضايا بين السطور فقط لا غير.
ومهما يكُن، عباراتٌ كهذه لا تظهر عادةً في مقدّمة الكتاب أو في مكان بارز فيه. وبعضها لا يمكن ملاحظتها فضلاً عن فهمها، طالما أننا نعزل أنفسنا عن رؤية الاضطهاد والموقف من حرية التعبير والشفافية؛ [وهذه العادة] أصبحت أمراً شائعاً خلال الثلاث مئة سنة الأخيرة.
-3-
يشمل مصطلح الاضطهاد ظواهراً متنوّعة تتراوح بين الأشد وحشيّةً؛ كمحاكم التفتيش الأسبانية، والأخف؛ كالنفي الاجتماعي بلا محاكمة. وبين هذين الطرفين الأنواع الأكثر أهميّةً من وجهة نظر التاريخ الأدبي أو الفكري.
الأمثلة على هذه الأنواع من الاضطهاد موجودة في أثينا القرن الرابع والخامس قبل الميلاد، في بعض البلدان المسلمة في العصور الوسطى، في هولندا وإنجلترا خلال القرن السابع عشر، في فرنسا وألمانيا خلال القرن الثامن عشر. كلها وبتفاوت فيما بينها أزمنة حرّة. لكن نظرة خاطفة على حياة وسِيَر أنكساغوراس، بروتاغوراس، سقراط، أفلاطون، زينوفون، أرسطو، ابن سينا، ابن رشد، موسى بن ميمون، هوجو جروتيوس، ديكارت، هوبز، سبينوزا، جون لوك، بيير بايل، كريستيان فولف، مونتسكيو، فولتير، جان جاك روسو، ليسنج و كانط، نظرةٌ على سِيَرهم وفي بعض الحالات مجرّد نظرة خاطفة على عناوين كتبهم؛ كافية للدلالة على أنهم شهدوا أو عانوا -على الأقل في فترة ما من حياتهم- نوعاً من الاضطهاد كان ملموساً ومُدركاً أكثر من النفي الاجتماعي. ولا يجب أن نغفل عن الحقيقة التي لا تعترف بها السُّلطات رسمياً، أن الاضطهاد الديني واضطهاد حريّة البحث المعرفي والتساؤل ليست شيئاً متطابقاً. كانت هناك دُوَلٌ وأزمنةٌ حيث كل أنواع -أو على الأقل الغالبية العظمى من أنواع- العبادات مسموح بها، دون السماح بحرية البحث المعرفي والتساؤل.
الموقف الذي يتخذه الناس تجاه حرية النقاش العام، يعتمد كليّةً على آرائهم في التربية والتنشئة العامة وحدودها، أي إيصال الحقيقة التي يكتشفها العلم والفلسفة إلى أناس ليسوا بعلماء ولا فلاسفة. بشكلٍ عام، كان فلاسفة ما قبل الحداثة أكثر تردداً تجاه هذا الأمر من فلاسفة الحداثة. بعد حوالي منتصف القرن السابع عشر، عدد متزايد من الفلاسفة المُخالفين للسّائد والذين عانوا من الاضطهاد، نشروا كتبهم ليس لكي يوصلوا أفكارهم فقط بل لأنهم رغبوا في المساهمة في إلغاء الاضطهاد كذلك. آمنوا بأن قمع حريّة البحث المعرفي والتساؤل ونشر نتائجه، كان شيئاً عرَضياً، مُخرَج لفشل بناء الجسد السياسي، وأن مملكة الظلام العام من الممكن استبدالها بجمهورية النور الكوني. تطلّعوا إلى زمنٍ تكون فيه – نتيجةً لتقدُّم التربية والتنشئة العامة – حريّة التعبير مكتملة عملياً، أو إلى زمن -وكمبالغة لأغراض توضيحية- حيث لا يُعاني خلاله أحد من أي أذى بسبب سماعه لأي حقيقة.
أخفى هؤلاء الفلاسفة آراءهم فقط بقدر ما يحميهم من الاضطهاد؛ فلو أنهم جعلوا آراءهم أكثر غموضاً من ذلك؛ لتخلّفوا عن هدفهم: تنوير أكبر عدد ممكن من الناس [العاديين] من هم ليسوا بفلاسفة. ولذلك يمكن بسهولة -مع مراعاة الفوارق- قراءة ما بين السطور في كتبهم.
أما موقف النوع المبكّر من الكتاب فقد كان مختلفاً جذرياً. فهم اعتقدوا أن فرقَ ما بين الثرى والثريا الذي يفصل بين “الحكيم” و”العامّي”، هو حقيقة راسخة في الطبيعة الإنسانية لا تتأثّر بتقدُّم التربية والتنشئة العامة: فالفلسفة، والعلم، هي امتيازات للقلّة من الناس. كانوا على قناعةٍ بأن الفلسفة كما أنّها كانت مُريبة لغالبية الناس، كانت مكروهة. حتى لو لم يكُن لديهم ما يخيفهم من أي قطاع سياسي، من ينطلِق من هذه الفرضية [الفرق بين العامي والحكيم، وكره الناس للفلسفة] لا بد أن ينتهي إلى أن نفاذ الحقيقة الفلسفية أو العلمية إلى فضاء الاتصال الجماهيري، أمرٌ مستحيلٌ أو غيرُ مرغوبٍ فيه، ليسَ فقط في الوقت الحالي [الذي عاشه الفيلسوف] بل وفي كل الأزمنة. لا بد أن يخفوا آراءهم من الجميع ما عدا الفلاسفة، سواءً عبر تقييد أنفسهم بالحديث الشفوي لمجموعة مُختارة بعناية من التلاميذ، أو الكتابة في المواضيع الأكثر أهمية بطرق “الإشارة العابرة”.
من طبيعة الكتابات أنها متاحة لكل من يقرأ. ولذا، الفيلسوف الذي سيختار الطريقة الثانية [الكتابة بطرق الإشارة العابرة] سيقدّم آراءً كهذه في إطار يناسب الأغلبية غير الفلسفية، بهذه الطريقة: كل كتاباته يجب أن تكون -وبكل صرامة- خطاباً ظاهراً وعاماً. هذه الآراء ليست من كل النواحي منسجمة مع الحقيقة [التي يراها الفيلسوف]. وأن تكونَ فيلسوفاً، يعني أن تكره “الكذب على النفس” أكثر من أي شيء آخر، هو لن يخدع نفسه ويتجاهل أن هذه الآراء هي مجرّد “حكايات مشكوك فيها” أو “أكاذيب نبيلة” أو “آراء محتملة [لها وجهة نظر]”، ومن ثمَّ سيترك قارئه الفيلسوف ليميّز الحقيقة من أسلوبه الشاعري أو الجدلي.
ومن ناحية أخرى، لم يكن ليحقّق مقصده لو أنه عيّن مباشرةً أيّ عبارة من عباراته تُعَد “كذبة نبيلة” وأيُّها التي لا تزال “حقيقة نبيلة”. لكنه سيفعل أكثر مما هو كافٍ للفت انتباه قُرّائه الفلاسفة لحقيقة أنه لم يرفض التحدث بأكاذيب نبيلة، أو بحكايات شبيهة بالحقيقة.
من وجهة نظر المؤرخ الأدبي على الأقل، الاختلاف الأوضح الذي يستحق الذكر بين النموذج المألوف لفيلسوف ما قبل الحداثة (والذي يصعب تمييزه عن شاعر ما قبل الحداثة) وبين النموذج المألوف لفيلسوف الحداثة، هو موقف كلا الفيلسوفَين من “الأكاذيب النبيلة أو الأكاذيب وحسب ” و”الاحتيال الخيري” و”التوجيه غير المباشر” و”اقتصاد الحقيقة”. مجرّد افتراض أن كاتب عظيم ربما خدع غالبية قرّاءه وبسبق إصرار وتعمُّد، سيشكِّل صدمةً من المحتمل أن يواجهها كل قارئ معاصر محترم. وأيضاً، وكما أشار سابقاً لاهوتي ليبرالي، هؤلاء الذين يحاكون الحيل الأوديسية [من حيث ابتكار الحِيَل البلاغية] ربما كانوا أكثر صدقاً منا عندما يطلقون مسمّى “أكاذيب نبيلة” على ما نُطلِق عليه “مراعاة المسؤوليات الاجتماعية للمرء”.
الكتاب المُوجَّه للعامة يحتوي على تعليمَيْن: تعليمٌ عامٌ للشخصية المتنوِّرة، يكمُن في ما هو ظاهر وبادٍ؛ وتعليمٌ فلسفيٌّ يتعلّق بالمواضيع الأكثر أهميّةً، كامنٌ ما بين السطور. ولا ننكر هنا أن بعض كبار الكُتّاب تحدّثوا بوضوح عن حقائق مهمّة على لسان شخصيات خسيسة ومُزدَراة: وهكذا سيبيّنوا لأي درجة لا تُوافَق هذه الشخصية على نُطقها بالحقيقة محلّ البحث. ومن ثمَّ سنملك أسباباً مقنعة لتفسير التواجد الكثيف -في أدب الأزمان الغابرة- لشخصيات شيطانية، ومجانين، ومتسوّلين، وسفسطائيّين، وسَكَارى، وأبيقوريّين ومهرّجين.
من توجه لهم هذه الكتب فعلاً، ليس غالبية القُرّاء الذين هم ليسوا بفلاسفة ولا الفيلسوف المكتمِل المُحكَم، بل القارئ الشاب الذي من الممكن أن يُصبح فيلسوفاً: فهذا الفيلسوف المُحتمَل [الشاب] سيُوَجَّه خطوة بخطوة بدايةً من الرؤى الشائعة -الضروريّة لكل الأسباب العمليّة والسياسيّة-، إلى الحقيقة التي هي بالكاد نظريّة ومجرّدة، تُوجِّهه في هذا الطريق ملامح فضول هادئ وغامض تنطوي عليه التعاليم والمبادئ المُعلَنة. غموض الغاية، التناقضات، الاستعارات، إعادة بعض الجمل بشكل غير دقيق، تعابير غير مألوفة، ..الخ.
ملامحٌ كهذه لا تؤرِّق بال هؤلاء الذين لا ينفذونَ إلى الجوهر الذي يخبِّئه المظهر، لكنّ من ينفذونَ إلى الجوهر، ستقف هذه الملامح أمامهم كحجر عثرة ينبّهَهُم. كل الكتب من هذا النوع، تدين بوجودها إلى حبّ الفيلسوف الناضج للصّغار الذين يشبهونه، والذين يريد منهم أيضاً أن يحبّونَه بالمقابل: كل الكتب الظاهرة/ االمُوجّهة للعامة، “خطابات مكتوبة بدافع الحب”.
يفترض الأدب الظاهر أن هناك حقائق أساسية لا يمكن التعبير عنها علناً من قبل أيّ شخص متّزن، لأنّ ذلك قد يتسبّب بإيذاء الكثيرين؛ ولكون الأذى أصابهم، يميلون عادةً إلى إيذاء من رفعَ صوته بالحقيقة غيرَ السّارة [وجلبَ عليهم الأذى].
وبكلمات أخرى، يفترض الأدب الظاهر أن الحريّة الأكاديميّة وحريّة نشر نتائجها، ليست مضمونة كحقٍّ أساسيٍّ. يعني هذا أن هذا النوع من الأدب مرتبطٌ بالضرورة بوجوده في مجتمع ليس حراً. ولهذا من الممكن للمرء أن يتساءل عن جدواه في مجتمع حر فعلاً. والإجابة بسيطة، في نص (الندوة) لأفلاطون -ذلك الابن الجريء لمدينة أثينا الجريئة والصادقة [بالنسبة للمدن اليونانية]- يُشبِّه سقراط وخطاباته بالمنحوتة التي تبدو قبيحة من الخارج، لكنها تحتوي بداخلها على أجمل صور الحقائق الإلهية.
أعمال كبار كتّاب الماضي جميلة جداً حتى من الخارج. ورغم هذا، فجمالها الخارجي سيبدو قبحاً خالصاً بالمقارنة مع جمال كنوزها المخفية التي تكشف عن نفسها بعد جهد شاق جداً، ليس سهلاً ولكنه دائمًا ممتع. أعتقد أن هذا الجهد الذي أشير إليه، هو ما وضعه الفلاسفة في حسبانهم عندما نصحوا بالتربية، شعروا بأن التربية هي الإجابة الوحيدة للسؤال المُلِح دائماً، السؤال السياسي في مواجهة الفضيلة، سؤال التوفيق بين إقامة النظام من غير الاضطهاد، سؤال الحرية بلا تفلُّت.
مدونه جميلة ورائعه. اتمنى يكون هناك تحميل ملفات pdf للمحتوى أفضل بالنسبه للزوار وأسهل للقراءة وكذلك تكون سهله للرجوع أفضل من الدخول للموقع وخاصه إذا لك يكن هناك انترنت.