تخطى إلى المحتوى

إرفينغ غوفمان: عرض الذات في الحياة اليومية

ترجمة: أحمد العوفي، مراجعة: خبيب زهير

pdf-icon


موجز المترجم

هذا النص ترجمة للصفحات الأخيرة من كتاب عالم الاجتماع الأمريكي إرفينغ غوفمان المعنون بـ”عرض الذات في الحياة اليومية” والذي يقدم فيه نظريته المعروفة بالنظرية الدرامية لفهم الحياة الاجتماعية (Dramaturgy). إذ يعتقد غوفمان أنه ليس ثمة فرق كبير بين المسرح وبين الحياة اليومية وأن استخدام تشبيه المسرح في التحليل سيمكننا من فهم التفاصيل الدقيقة والخفية في حياتنا. سلوكنا في حضور الآخرين هو عبارة عن أداء (performance) نسعى من خلاله بشكل واعي أو غير واعي إلى المحافظة أو التلاعب في انطباعات الآخرين عنا. وهذا لا يعني بالضرورة أن سلوكنا زائف، فحتى عندما نكون صادقين مع الآخرين فإننا سنقوم بتمثيل الأدوار التي يفرضها حضورهم بإمعان أكثر. في هذا المقتطف يشرح غوفمان بعض الافتراضات الأساسية لنظريته ويناقش الدلالات الأخلاقية لها كما يقدم تشريح للذات ومكوينها: المؤدي (performer) والشخصية (character). تعد هذه النظرية من أهم نظريات علم اجتماع الوحدات الصغرى (micro-sociology) ، وعلم النفس الاجتماعي وقد اكتسبت أهمية كبيرة مؤخرًا لما قدمته لدراسات الجندر والجنوسة ودراسات الهوية في ما يعرف بالأدائية (performativity).

الإحالة إلى النص الأصلي

Goffman, Erivng. 1959. The Presentation of the Self in Everyday Life. New York: Anchor Book. Page: 249-255


يبدو أن ثمة جدلية أساسية تكمن خلف جميع تفاعلاتنا الاجتماعية، ألا وهي أن الفرد عندما يكون في حضور الآخرين فإنه يسعى لاستكشاف حقائق الموقف. وحالما يدرك هذه الحقائق فإنه سيتمكن من التنبؤ بما سيحدث ومن ثم السماح له بالحدوث، كما يتمكن من إعطاء الآخرين الحاضرين في الموقف ما يستحقون بقدر ما يتسق مع تبصره بمصلحته الذاتية. ولكشف طبيعة الموقف بالكامل، فإنه من الضروري للفرد أن يعرف عن الأخرين كل المعلومات الاجتماعية ذات الصلة ، كما أنه من الضروري له أيضًا أن يعرف المخرجات الفعلية أو المنتج النهائي لأفعال الآخرين أثناء التفاعل، ويستشف ما تحمله طوياتهم من مشاعر تجاهه. من النادر أن تكون هذه المعلومات متاحة بشكل كامل، وفي غياب ذلك يسعى الفرد إلى أن توظيف بدائل كالتلميحات والاختبارات والإيماءات وتعبيرات الجسد ورموز المكانة (status symbols) .. الخ كأدوات للتنبؤ. باختصار، حين لا يكون الواقع الذي يُعنى الفرد به قابلاً للإدراك في اللحظة الآنية، فإنه يتم الاعتماد على المظاهر كبديل. ومن المفارقة أنه كلما كان الفرد مشغولًا أكثر بحقيقة الواقع الغير متاحة للإدراك، كلما كان أشد تركيزًا على مظاهره.

يميل الفرد إلى التعامل مع الآخرين الحاضرين على أساس الانطباع الذي يعطونه في اللحظة الحاضرة عن الماضي والمستقبل، وهنا تحديداً تتم ترجمة الأفعال التواصلية إلى أفعال أخلاقية. الانطباعات التي يعطيها الآخرون يتم التعامل معها غالبًا على أنها دعاوى أو وعود يقدمونها بشكل ضمني، وهذه الدعاوى والوعود تميل لاكتساب الطابع الأخلاقي، إذ يقول الفرد في سره: “إنني أستعمل انطباعاتك هذه كطريقة لفهمك وفهم سلوكك وعليك ألا تضللني.” الغريب في الأمر أن الفرد يميل إلى أخذ هذا الموقف بالرغم من أنه يتوقع من الآخرين أن يكونوا غير واعين بالكثير من سلوكياتهم التعبيرية، وبالرغم من أنه هو ذاته ربما يقوم باستغلال الآخرين على أساس المعلومات التي يجمعها عنهم. ولأن مصادر الانطباعات هذه التي يلاحظها الفرد ويستعملها تنطوي على عدد كبير من معايير التعامل الاجتماعي وأداء المهام وأعراف التهذيب واللباقة، فإنه يستبين لنا بوضوح كيف أن الحياة اليومية عالقة في قوالب من التقديرات الأخلاقية.

لننتقل الآن إلى زاوية الرؤية لدى الآخرين. إذا أرادوا أن يتحلوا بالنبل ويلعبوا وفقاً للعبة الفرد، فإنهم سيمنحون القليل من الانتباه الواعي لحقيقة أن انطباعات ما يتم تكوينها عنهم وسيتصرفون دون دهاء واحتيال، ممكنين بذلك الفرد من أن يستقبل انطباعات صادقة عنهم وعن مجهوداتهم. لكن إذا ما حدث وأن فكروا في حقيقة أنه تتم مراقبتهم، فإنهم لن يسمحوا لذلك بأن يؤثرعلى عليهم بشكل مفرط، وذلك لاطمئنانهم أن الفرد سيأخذ عنهم الانطباع الصحيح ويمنحهم ما يستحقون لقاء ذلك. لكن إذا أرادوا أن يؤثروا على تعامل الفرد معهم، وهذا في الأغلب هو المتوقع، فإن لديهم الوسيلة النبيلة لذلك: إنهم ليسوا بحاجة إلى أكثر من توجيه فعلهم في الحاضر لكي تكون توابعه المستقبلية من النوع الذي سيقود أي فرد منصف إلى معاملتهم الآن بالطريقة التي يريدون أن يتم التعامل معهم بها، وبمجرد قيامهم بذلك فإن عليهم فقط أن يعتمدوا على فطنة وإنصاف الفرد المراقب.  

يوظف المُرَاقَبون هذه الوسيلة اللائقة للتأثير على الطريقة التي يعاملهم المُراقِب بها في بعض الأحيان. لكن ثمة طريقة أقصر وأكثر كفاءة يتمكن بها المراقَبون من التأثير على المراقِب، فعوضاَ من أن يسمحوا للانطباع النابع من نشاطهم أن يظهر بشكل عرضي كنتيجة طبيعية لذلك النشاط، فإنهم يغيرون طريقة تقديرهم لأفعالهم ويكرسون مجهوداتهم لخلق انطباعات مرغوب فيها، وبدلاَ من محاولة تحقيق غاياتهم بالوسائل المقبولة، فإنه بإمكانهم السعي لإعطاء انطباع أنهم يقومون بتحقيق هذه الغايات بوسائل مقبولة. إنه من الممكن دائماً التلاعب بالانطباع الذي يستخدمه المراقِب كبديل عن الواقع لأن حضور ما يرمز على وجود شيء ما لا يعني بالضرورة وجود ذلك الشيء. إن حاجة المراقب للاعتماد على ما يمثل الأشياء (representations) تتيح المجال لإمكانية إساءة التمثيل (misrepresentations).

هناك فئات كثيرة من الأفراد الذين لا يستطيعون المواصلة في أعمالهم، أيا كانت أعمالهم هذه، إذا حصروا أنفسهم في الوسائل النبيلة في التأثير على الفرد الذي يراقبهم. بين حين وآخر في خضم نشاطهم، سيشعرون أنه من الضروري أن يتعاونوا مع بعضهم البعض ليتلاعبوا بشكل مباشر بالانطباع الذي يعطونه. المرَاقَبون هنا يصبحون فريقًا مؤديًا فيما يصبح المراقِب من الجمهور، حينها تصبح الأفعال التي يظهر وكأنها تمارس لأغراض ملموسة مجرد تعبيرات موجهة لجمهور، وشوط النشاط بأكمله يصبح دراميّا.

نصل الآن إلى الجدلية الأساسية. من خلال صفتهم كمؤدين، يهتم الأفراد بالحفاظ على الإنطباع لكي يوفّوا بالمعايير الكثيرة التي يتم الحكم عليهم وعلى نتاج أفعالهم من خلالها، ولأن هذه المعايير كثيرة جدًا وشديدة الانتشار فإن الأفراد الذين يقومون بالأداء مرتهنين -بأشد مما نتصور- بعالم أخلاقي. لكن الأفراد المؤدين ليسوا مشغولين في حقيقة الأمر بالمسألة الأخلاقية من خلال الالتزام بالمعايير بل بمسألة غير أخلاقية ألا وهي هندسة انطباعٍ مقنع أن هذه المعايير يتم الالتزام بها. كمؤدين، نحن تجار أخلاق، أيامنا فياضة بالارتباط الحميم بالخير الذي نظهره وعقولنا ممتلئة بتصورات حميمة له، لكن يبدو أننا كلما أعطينا هذا الخير اهتمامًا أكثر كلما شعرنا أن المسافة بيننا وبين الخير أبعد، كبعد المسافة بيننا وبين أولئك الذي لديهم قدرة كافية على التصديق ليؤمنوا بنا. إن ذات الشعور بالواجب لأن نظهر دائما في صورة أخلاقية راسخة والمكسب الذي نحصل عليه من ذلك الظهور، أي أن نكون شخصيات منشأة اجتماعيًا، يضغطان على المرء ليمارس دور الشخص الأخلاقي بالطريقة التي يؤدي بها الممثل دوره على الخشبة.    

أداء الذات على الخشبة

فكرة أننا نعرض ذواتنا أمام الآخرين ليست بجديدة، لكن ما ينبغي التشديد عليه هنا هو أن بنية الذات ذاتها فيما يبدو لا تعدو أن تكون أداءنا لأدوار الذات في مجتمعنا الأمريكي.

في هذا النص ، قمت بتجزئة الفرد ضمنيًا إلى مكونين رئيسيين: فمن جهة يمكن أن ننظر إليه باعتباره مؤدي (performer) مُختلِق للانطباعات مثقل بالأعباء، ينخرط بكل نقصه البشري في مهمة الأداء على الخشبة. ومن جهة أخرى يمكن النظر إليه باعتباره شخصية (character) ، وهي صورة للشخص ذات نعوت حسنة عادةًوالتي يُصَمَّم الأداء غالبًا لأجل إظهار روحها وقوتها وصفاتها الرفيعة. إن سمات المؤدي وسمات الشخصية نسقان مختلفان بشكل أساسي، إلا أن لكلاهما معنى يتعلق بالعرض الذي يجب أن يؤدى.

أولًا، الشخصية. في مجتمعنا يتم الخلط إلى حد ما بين الشخصية التي يؤديها أحدهم وبين ذاته، فالذات بوصفها شخصية يتم النظر إليها كشيء يسكن جسد صاحبها، خصوصاً الأعضاء العلوية، أي أنها جزء من التركيبة السايكوبيولوجية لشخصه. وأنا أعتقد أن هذه النظرة هي جزء ضمني مما نحاول أن نعرضه من ذواتنا ، وعليه فإن الاعتماد عليها في التحليل يعطينا تحليلاً سيئاً لهذا العرض. في هذا النص ، سننظر إلى الذات المؤداة كنوع من الصورة، ذات المصداقية غالباً، التي يحاول الفرد بفاعلية على الخشبة وعبر تقمص الشخصية أن يدفع الآخرين لأن يروه فيها. وفي حين أن هذه الصورة متعلقة بالفرد وتعزى له كذات، إلا أن هذه الذات لا تُستمد من صاحبها بل من كامل المشهد الذي يعرض فيه فعله، المشهد الذي تستولده الأحداث المحلية والذي يجعل منها أحداث قابلة للتأويل من قبل الشهود. إن المشهد الذي تتم تأديته بشكل صحيح يقود الجمهور إلى نسبة ذاتٍ إلى الشخصية المؤداة، لكن هذه النسبة -الذات- هي منتج للمشهد التي تمت تأديته وليست سبب له. فالذات باعتبارها شخصية مؤداة إذن  ليست شيئًا عضويًا له موضع محدد ومصير من الولادة والنضج والوفاة، إنها ليست إلا تأثيرات درامية تظهر بشكل متفرق في المشهد الذي تعرض فيه، والاعتبار الحاسم هنا هو ما إذا كانت ستصدق أو يرفض تصديقها.

في تحليل الذات إذن سنصرف النظر عن صاحبها، أي عن الشخص الذي سيستفيد أو يخسر من خلالها، لأنه هو وجسده مجرد طرف شماعة يعلق عليها شيء تم تصنيعه بشكل جماعي لمدة من الزمن، و إن وسائل إنتاج الذوات والحفاظ عليها لا تكمن داخل الشماعة، إذ أن هذه الوسائل موثقة بإحكام إلى منظومات اجتماعية راسخة. سيكون هنالك كواليس بأدواتها المخصصة لتهيئة الجسد ، وخشبة أمامية بدعائمها الثابتة، وسيكون هنالك فريق من الأشخاص على خشبة المسرح تقوم أنشطتهم بالاشتراك مع الدعائم المتوفرة على صناعة المشهد الذي ستظهر منه ذات الشخصية المؤداة، بالإضافة إلى فريق آخر من الجمهور الذين ستكون أنشطتهم التأويلية ضرورية لهذا الظهور. الذات هي منتج لكل هذه الترتيبات وكل مكونات هذه الذات تحمل أمارات هذا الأصل.

إن مكنة إنتاج الذات بأكملها بالطبع ضخمة وبطيئة ومن الممكن أن تتحطم في بعض الأحيان لتكشف عن مكوناتها المنفصلة: التحكم بالكواليس و تواطؤ الفريق ومجاملة الجمهور وغيرها. لكن المكنة ذات السيور المدهونة جيدًا ستنساب منها الانطباعات بسرعة كافية لأن تضعنا في قبضة أحد أنماط واقعنا – ستنجح في أداء الأدوار، والذوات الممنوحة لكل من الشخصيات المؤداة ستظهر وكأنها نابعة جوهريًا من مؤديها.

لننتقل الآن من الفرد باعتباره شخصية مؤداه إلى الفرد باعتباره مؤدي. الفرد لديه القدرة لأن يتعلم من خلال التدرب على فصل من المسرحية، كما أن لديه الميل لخيالات وأحلام بعضها يتحقق بشكل مبهج في الأداء المنتصر والآخر مليء بالقلق والرهبة عندما يكون عليه أن يتعامل مع حالات حرجة من رفض التصديق في خشبة الحياة اليومية. في بعض الأحيان، يُظهِر الفرد باعتباره مؤدي نزعة اتباع القطيع مع رفاق الفريق والجمهور أو اهتمام لبق بشؤونهم، كما أن لديه القدرة على الإحساس العميق بالخجل، الأمر الذي يقوده لتقليل فرص انكشافه.

هذه السمات للفرد باعتباره مؤدي ليست مجرد تأثيرات مصورة لأداءات معينة، إنما هي نفسية وبيولوجية في طبيعتها، لكنها تظهر عبر التفاعل الوثيق مع ظرفيات الأداء على الخشبة.

والآن التعليق الأخير. في تطوير هذا الإطار المفاهيمي استخدمت لغة المسرح، فتحدثت عن مؤدين وجمهور، روتين وفصول، أداءات تنجح وأخرى تفشل، عن إشارات انطلاق وتجهيزات للخشبة وكواليس، عن احتياجات درامية ومهارات درامية واستراتيجيات درامية. والآن علي الإعتراف أن محاولة التركيز على مجرد تشبيه (تشبيه الحياة الاجتماعية بالمسرح) إنما كان جزئياً مناورة وتوظيف بلاغي.

إن الإدعاء بأن كل العالم عبارة عن خشبة مسرح منتشر بما يكفي لأن تكون محدوديته مألوفة للقراء، وأن يكونوا متسامحين معه لإدراكهم أن باستطاعتهم في أي لحظة ألا يأخذوه بجدية مفرطة. إن الفعل الذي يُؤدَى على خشبة المسرح هو نسبياً وهمٌ مختلقٌ ومعترفٌ باختلاقه. على خلاف الحياة الاعتيادية، لا شيء حقيقي أو واقعي من الممكن أن يحدث للشخصية المؤداة – على الرغم من أنه على مستوى آخر، لا شك أنه من الممكن حدوث شيء حقيقي وواقعي لسمعة المؤدي كمحترف عمله اليومي هو الأداء المسرحي.

وهنا كذلك سنخلع لغة وقناع المسرح، فالسقالات في نهاية المطاف وجدت لبناء شيء آخر فلذلك علينا بناءها ونصب أعيننا أن نزيلها حين يكتمل البناء. هذا النص ليس معنيًا بمظاهر المسرح التي تسللت للحياة اليومية، بل معنيّ ببنية التلاقي الاجتماعي (social encounters) ، أي بنية الكيانات في الحياة الاجتماعية التي تولد حينما يدخل أشخاص في حيز الحضور المادي المباشر لآخرين. العامل الأساسي في هذه البنية هو المحافظة على تعريف واحد للموقف، ولا بد لهذا التعريف أن يُعبَر عنه، ويتم الحفاظ على هذا التعبير في وجه الكثير من الارباكات والتشويشات المحتملة.

إن الشخصية التي تُؤدَى على خشبة المسرح ليست بشكل ما حقيقية، كما أنه ليس لها ذات التبعات الحقيقية كما لدى شخصية مبتدعة بالكامل يؤديها شخص محتال، لكن الأداء الناجح لأي من هاتين الشخصيتين الزائفتين يتضمن استخدام أساليب واقعية ، أي ذات الأساليب التي يستخدمها الأشخاص العاديون في حياتهم اليومية للتعامل المواقف الاجتماعية الواقعية. إن أولئك الذين يتفاعلون وجهاً لوجه على خشبة المسرح يتوجب عليهم استيفاء متطلبات المواقف الواقعية، إذ يتوجب عليهم الحفاظ على تعريف الموقف بشكل معبر وما سهّل لهم القيام بذلك هو تطوير مصطلحات ملائمة  لوصف المهام التفاعلية التي نتشارك فيها جميعا.

3 أفكار بشأن “إرفينغ غوفمان: عرض الذات في الحياة اليومية”

اترك رداً على لبنى إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *