تخطى إلى المحتوى

عقيل بلغرامي: ما هو التسحير؟

  • بواسطة

ترجمة: عبدالله سامي أبولوز
مراجعة: أحمد جمبي

موجز المترجم:

كتب بلغرامي هذا الورقة تعقيبًا على عمل تشارلز تايلور المرجعي “عصر علماني”، ضمن مجموعة من المداخلات، جمعت في كتاب واحد بعنوان “أشكال العلمانية في العصر العلماني”. يؤكد بلغرامي على أهمية التشخيص الجينالوجي في فهم البرادايم الحالي الذي نعيشه، من خلال تعقيبه على أطروحتي تايلور المركزيتين المتمثلتين في: كوننا نعيش في عصر علماني، يكون فيه الإيمان بالله مجرد أمرٍ اختياري، من بين كل أشكال الاعتقاد المتاحة للإنسان. بالإضافة إلى تكون الوضع الذي نعيشه، المتمثل بوصولنا إلى اُفق إنسانوي حصري، كنتيجة للتقدم العقلاني، الذي تخلينا عبره عن معتقدات سابقة، بل من خلال عملية بناء أيدولوجي/مفاهيمي. أيضًا، يقوم الكاتب بتتبع أثر الاختزال لمفهومي الطبيعة والفاعلية في تشكل صيرورتي التبصير والحكم الكولنيالي، وتشويشهما على إمكانية تكوين تسحير(1) محايث جديد، من خلال إعادة تعريف مفهومية لفاعليتنا وانخراطها مع الطبيعة، بما يضمن كونها منفتحة على ما يلقيه علينا هذا العالم من أثقال معيارية.

الإحالة للنص الأصلي:

Bilgrami, Akeel. “What is enchantment?.” In Varieties of secularism in a secular age. Edited by Warner, Michael, Jonathan VanAntwerpen, and Craig J. Calhoun. Harvard University Press, 2010.‏


يتفق العديد من الفلاسفة، على اختلاف توجهاتهم الفكرية، مثل : روسو وماركس وغاندي، على محفوفية الحياة الحديثة بأشكال فريدة من الاضطرابات. إذا صحّ ذلك، تكون فترة الحداثة المبكرة من التاريخ الغربي، سواءً العام أوالفكري، هي المرحلة التي تستحق البحث والتركيز، لإنجاز تشخيص جينالوجي (2) للأحوال التي نعيشها ونتأقلم معها. يقدم تشارلز تايلر في كتابه اللافت الجديد (3) تشخيصًا مُعْلِمًا ومنيرًا يحاكي ما تحاول أطروحتنا إيصاله.

دعني ألقي الضوء على فرضيتين مركزيتين، يعبترهما تشارلز أساسيتين في أطروحته، قمت باستخلاصهما من بين العديد من أفكاره المتشابكة. تقول الفرضية الأولى: أننا لم نصل فقط إلى التزمات عقائدية وأنظمة سياسية ذات طابع علماني بالرغم من كل ما وصلنا إليه اليوم، بل أصبحنا نعيش في عصر علماني (Secular Age)، بمعنى أننا نعيش عصر يستبطن شروطًا مفاهيمية مسبقة تجعل من هذه التغييرات في العقيدة والنظم السياسية (أينما حدثت) ممكنة؛ بجعل الإيمان بالله والدين وما يربطهما بالحياة العامة مجردُ أمرٍ اختياري. أما الفرضية الثانية: فتقول بأن هذه الشروط المسبقة ليست ناتجة عن عملية اقتطاع/طرح عناصر “المتعالي” [السماوي] من إطار مفاهيمي مسبق، بحيث تسفر عن إلتزام فكري للـ”محايث” [الدنيوي]، بل أتت من خلال عملية بناء فلسفي توكيدي (positive)، لمجموعة من الأفكار المتشابكة عن طبيعة ذات الإنسان وفاعليته، بالإضافة لنظام أخلاقي جديد، مما يستلزم مقاربة سعادة الإنسان وتفصيلها بشكلٍ يشدد على بعده الفردي، فتُستدعى تصورات جديدة للقيمة والمسؤولية.

يمكن الحصول على التشخيص الجينالوجي الذي تحدثت عنه أعلاه، من خلال إيضاح كيفية حدوث الحكاية الأيدولوجية للبناء الفسلفي (بدلاً من مجرد الاقتطاع أو الحذف (4)) منذ بدايات تشكلها في عصر الحداثة المبكرة، عندما عمت فكرة ربوبية العناية (5) (Providential Deism). في حال صحّت قرائتي لإطروحة تشارلز تايلور، ينتج عن ذلك قضيةً معيارية تُعنَى بمسار وصولنا للعصر العلماني، فطريقنا نحو هذا العصر، لم ينتج عن فقدانٍ تدريجي للإحساس بالمتعالي، بل عبر تطوير منظومة أيدولوجية مفاهيمية، تعود جذور بداياتها لفترة الحداثة المبكرة. تضع هذه القضية دعوى براءة المقولة، الذائعة الصيت، تحت مبضع الجراحة، والتي تُصور دخول الغرب الحديث في عصرٍ علماني ذي نزعةٍ إنسانوية حصرية، بصفته تقدمًا في مسار العقلانية.

سأتناول فيما بعد موضوع مشكوكية الإتساق الفلسفي، الواقع في قلب بنية المنظومة الأيدولوجية، لكن أستهل حديثي، كما يفعل تايلور، بالتوكيد على مدى إلحاح الجانب التشخيصي للحداثة المبكرة، من حيث قدرته على إظهار البنية الكثيفة التي يتشكل منها مفهوم العقلانية، والذي نتفاخر بإدعاء نسبته لعصرنا، وموقعنا من العالم (إن أمكن أن أتحدث وأنسب لنفسي المكان الذي أسكنه وأعيش به في الوقت الحالي). كما يقول تايلور، يتم تقديم أمثولة العقلانية بلا أي مرجعية جينالوجية، أو تُصّور كأنها نقطة نهاية معيارية، يفترض بنا أن نتقدم تراكميًا، ونتقارب إليها تدريجيًا. من هنا، يمكن لنا فهم موجة الكتب المنتشرة في هذه الأيام، التي يبدو أنها لن تنتهي (منها كتب ريتشارد دوكنز ودانيال دينيت …) (6)، عن مدى روعة وصولنا لحالة العقلانية الإنسانوية الحصرية، والتي بواسطتها نبذنا كل المعتقدات الغير علمية، من قبيل خلق العالم في ستة أيام، حيث تُعرَض العقلانية هنا على أنها تعهدٌ بالتزام التقريرات القائمة على الأدلة التي يسمح بها العلم فقط. يُصوّر هؤلاء العقلانية كحصيلة صراع طويل من المعاناة ضد الظلامية [القوى التي قاومت انتشار المعرفة العلمية العقلانية]، وصراعٌ آخر مستمر ضد نزوعاتٍ أيدولوجية نحو الظلامية في وقتنا الحالي، هذه النزوعات الأيديولوجية التي يمكن اعتبارها بمثابة تعلق طفولي بأبٍ لفظ أنفاسه الأخيرة منذ قرنٍ مضى في الحداثة المعاصرة [يعتبر البعض عصرنا هذا بمثابة مواصلة للحداثة، في مخالفة لمن يعرضه كعصر متجاوز للحداثة أو مابعد حداثي].

ما يغيب كليةً في هذه الصورة الاختزالية هو التاريخ القبلي الفكري كما الثقافي والسياسي، لزوال رمز السلطة الكونية [المقصود: الأب أو الله]. فقبل أن يُنَحّى رمز السلطة، بشكلٍ جزئي (وفقط جزئي كما يؤكد تايلور)، بواسطة الأفق العلموي، الذي نبجله ونحترمه الآن بحق، والذي يوصي به مؤلفي المجلدات المطولة المملة الآنف ذكرهم. كان العلم نفسه، ولا شيء سوى العلم، هو من طرح مصيرًا مختلفًا للأب في أواخر القرن السابع عشر: لقد تم نفي الله وتهجيره، بعيدًا عن بصائر الناس البسيطة، إلى مكانٍ خارجِ هذا الكون، حيث ينحصر أثره في الصورة التمثيلية المعروفة، كمحركٍ للساعة، قام بإعطاء العالم الخامل الحركة الأولى، ثم تركه. من هنا، كان لزامًا علينا تفحص بعض تفاصيل قصة اجتثاث الله من عالم المادة، والطبيعة، والمجتمع البشري، والإدراك الإنساني، لفهم التأثيرات الكبيرة المستمرة، التي ترتبت على هذا الاجتثاث، ليس فقط لاهوتيًا، بل أيضًا الجوانب السياسية والإقتصاد السياسي.

لا يوجد تعبير لاتيني مثل “Deus Deracinus” الذي يعني حرفيًا “اجتثاث الله” (7) لإيضاح المعنى الذي تمثله الحالة [التي شاعت في القرن السابع عشر] التي نحتاج إلى بسطها وتفصيلها. أقرب تعبير لاتيني نمتلكه هو “Deus Absconditus” والذي يعني “اختفاء الله”، وهو تعبير لا يفي بالمعنى المطلوب، فعلى الرغم من إيحائه بتعذر الوصول إلى الله، حيث ينقل، عند ترجمته للناطق باللغة الإنجليزية، صورةٍ للإله كطريد مختبئ. إن الفكرة التي تحتاج التشديد، هي فكرة اجتثاث الله من جذور الطبيعة والخبرة الإعتيادية اليومية. إن مصطلح “جذور” هو التوصيف الأنسب للحضور الإلهي في الأفق المفهومي الذي يُرى فيه العالم مكتسيًا بالقداسة. ومن تلك الجذور، يكون استئصاله، كنتيجة لعملية النفي التي تعرض لها، بواسطة أفق العلم الميتافزيقي الذي بدأ بالتشكل في مرحلة الحداثة المبكرة (بما صحبه من غايات شديدة الدنيوية).

على كل حال، إن الإصطلاح الغريب والجديد الذي سككته “اجتثاث الله”، يصف بشكل أفضل ما أردت تصويره، من بعض الجوانب، أما التعبير الذي نمتلكه “اختفاء الله” يكشف بعضًا من كنه التساؤل الذي أردت طرحه. إن هذا التعبير الأخير، وبعيدًا عن إيحائه بتعذر الوصول إلى الله، ذلك الإيحاء الذي شدد عليه مؤدلجوا المجمع الملكي في الفترات المتأخرة من القرن السابع عشر، اعتقد أنه يعكس مخاوفًا مؤكدة تقع خلف إصراراهم على ترويج هذا التعبير. فالجزء “Conditus” -من اللفظ Absconditus- يعني “الإبعَاد للحفظ والحماية“، مصحوبًا بالجزء “abs-” لتعزيز فكرة “بُعد” المكان الآمن الذي اُستبعد الله إليه. إن السؤال المُلّح في وجهة نظري، هو سبب الحاجة لإبقاء رمز السلطة محمياً في مكانٍ لا يمكن الوصول إليه، ما الخطر الذي يشكله حضوره وإتاحيته للبصائر الغرزية ومدارك كل من يَعْمُر عالمه؟ ولماذا اختارت مؤسسة الحداثة المبكرة المنفى كمكان لحفظ الأب، ذلك الأب الذي تصفه النسخة المتأخرة، الأنضج، بأنه “ميت”؟

يمتلك السؤال الأخير أهمية مفصلية، ليس فقط لما تُبينه إجابته، عن عدم نشوء العقلانية الإنسانوية ككل واحد، بل أيضًا لكونها تكشف دعوى البراءة الزائفة في قبولنا بالتصور التدريجي لنشوء العقلانية الإنسانوية، كمحصلة تاريخ من الصراع الفكري التقدمي، وتحديدًا كما يطرح دوكنز ودينيت وآخرون، نحو لحظة غائية تاريخية مثالية، نتقارب ونتقدم إليها بشكلٍ تعاقبي تراكمي. يتخذ التراكم مكانة مركزية في أطروحة الماهية التي تتشكل منها العقلانية الإنسانوية، ويكون أكثر تجليًا في لحظات النشوء الجذرية المبكرة من حداثتنا. لذلك، أرى أن فصل ربوبية العناية من كتاب تايلور هو أكثر فصول الكتاب إجلاءً [لقصة شيوع عقلانية إنسانوية محددة، وتحولها كخيار حيوي ومتاح لعامة الناس].

نجد في هذا الفصل تلميحات تفسر سعي المؤسسة العلموية، في الحداثة المبكرة، لإبقاء الأب في المنفى، بعيدًا عن المتخيلات المباشرة لدى عامة الناس. في كتاباتي عن غاندي، باعتبار اهتماماته السياسية الصريحة المتمحورة حول دور الاستعمار البريطاني في الهند، شددت على ملمحين بارزين اتسما بطبيعة سياسية، وربما على نحوٍ أكبر مما فعل تايلور، في فهم غاندي للتنوير (8) وأصوله في مرحلة الحداثة المبكرة من التاريخ الغربي، وعلى الرغم من ذلك فإن هاذين الملمحين يتصلان مع الحجة التي نَظَمَها تايلور في كتابه. 

أول الخاصيتين، الناتجة عن إبعاد الله إلى المنفى، هي تحويل المقاربة المفهومية القديمة والروحانية للطبيعة إلى شيءٍ وحشي ومنزوع القداسة. بالطبع، لم يحصل ذلك بشكلٍ سهل – فقد تم اسكات أغلب أصوات التفكير الحر الانفصالي المعارض، بواسطة علماء آخرين (حينئذ كانوا يسمون بالفلاسفة الطبيعيين) من خلال العقيدة الميتافيزيقية النامية التي أحاطت بالعلم الحديث في المجمع الملكي. تأثر أغلب هؤلاء الإنفاصليين، كجون تولاند (9) في إنجلترا، وآخرين في مناطق مختلفة من أوروبا، بواحدية (pantheism) إسبينوزا، فقدموا تصورًا صحيحًا تكون فيه قوانين نيوتن متوافقة بشكل مثالي مع مفهوم للطبيعة، لا يُقصَى فيه الله خارجها، بحيث تتجلى قدرة الله بإعطائه دفعةً من الخارج. إنما يعطي الكون، بفعل حضوره الدائم فيه، مصدر دفعٍ ديناميٍ داخلي يمنحه الحركة. لم تتفوق هذه العقيدة الميتافيزيقية على نظرة الانفصاليين بسبب رجحانها العلمي، كما صُوّر ذلك فيما بعد، أو كما نتصور نحن الآن – وفقًا لنظرتنا المعاصرة شديدة الحداثة، حيث لا نفرق بين اعتبار الحركة ناشئة عن تدخلٍ إلهيٍ خارجي، أو عن دينامية ناشئة من مصدرٍ إلهيٍ داخلي [فكلا النظرتين سواء في لا-علميتهما، وفقًا للحداثة المعاصرة].  لقد انتصرت هذه النظرة للعالم بسبب أيديولوجيا المجمع الملكي، التي تم ترويجها مع محاضرات بويل العامة التي كان يقدمها سامويل كلارك. أيضًا، شكلت هذه الأيدولوجيا تحالفات مع المصالح الرأسمالية التجارية الناشئة، التي تاقت لتأسيس نظرة للعالم تقوم على أسس شديدة الضراوة، تكون فيها الغاية الأولى هي تحقيق المزيد من الكسب والأرباح. من هنا تكون إزالة الله من الطبيعة واجبة، لأن حضوره وتواجده في الطبيعة شكّل عائقًا ميتافيزيقيًا دائمًا، في وجه من يرى الطبيعة مصدرًا [لا ينفذ]، لعمليات الاستخلاص والحلب، من قبيل: التعدين، وإزالة الغابات، واستصلاح الأراضي الزراعية على نطاق واسع (أو ما نطلق عليه اليوم “الأعمال الزراعية” agribusiness). لقد وضح فايبر ارتباط صعود الرأسمالية بالنزعات الجديدة في البروتستانتية المسيحية فيما يخص معنى مفهوم “العمل”. لكن، ينبغي الانتباه لقضية تساوي عملية إزالة العائق الميتافيزيقي [الله] في صعود الرأسمالية مع النزعات الجديدة [في معنى مفهوم العمل]. ليست القضية هنا أنه لم يأخذ أحدًا من الطبيعة قبل تشكل العقيدة الميتافيزيقية الناشئة حول قوانين نيوتن، لكن في الماضي، وفي أغلب المجتمعات، كان الأخذ من الطبيعة محفوفًا بقرابين وطقوس تبادلية، يراد منها إظهار احترام الإنسان، وإعادته التوازن في الطبيعة. لقد كانت هذه القرابين تقدم قبل وبعد كل دورة زراعية، بل أنها قُدمت عند كل عملية صيد. لقد أفرغت عملية إقصاء الله خارج الطبيعة المعنى، من كل نخزات الضمير، وما يترتب عليها من عمليات تسعى لتعويض الطبيعة عن المأخوذ. بعد ذلك، أطلقت عملية إزالة العوائق الميتافيزيقية العنان لاستغلال خيرات الطبيعة بحماسة، وبدون أدنى تأني وتأمل في العواقب المحتملة. فوحشية الطبيعة تنزع عنها فرصة أن تفرض علينا قيودًا أو تخضعنا لأي شروط. وبالتالي، ليس علينا أن نستجيب لأي شكل من إملاءاتها علينا. أصبحنا نحن وحدنا المعنيّين بتعريف علاقتنا بالطبيعة، غير أن مفردات التعريف التي اعتنينا بها باتت تتمحور تدريجياً نحو مفردات التكسب والانتفاع (من الطبيعة)، محولةً بذلك الطبيعية – كمفهوم جوهري، بدون أدنى اعتبار لأبعادٍ أخرى – إلى مفهوم آخر، وهو:  الموارد الطبيعية [القابلة للأخذ في أي وقت]. 

ثاني الخاصيتين المفصليتين، الناتجة عن تنحية الله الإجبارية، هي خاصية سياسية أكثر من كونها اقتصادية، مع ضرورة التنبيه لعدم وجود انفصال حقيقي بين السياسي والاقتصادي. لقد أضافت أيدولوجيا المجمع الملكي في انجلترا، بالإضافة لتحالفها السابق مع المصالح التجارية، تحالفًا رئيسيًا آخرًا مع المصالح الأنجليكانية. لقد حتمت المصالح المشتركة بين هذه التحالفات الثلاثة، اجتناب كل الإضطرابات التي عمت في فترة ما قبل استعادة الملكية الإنجليزية [التي سبقت عام 1660 م]. وقد كانت أحد أهم مصادر تلك الإضطرابات، هي الطوائف الجذرية التي انتشرت في تلك الفترة، كحركة أنصار المساواة (Levellers)، والحفارين (Diggers) ومجموعات أخرى. لقد كان التخوف أن “حماس” هذه الطوائف لقلب العالم رأسًا على عقب”، قد يُلهم عامة الناس بما عبّر عنه جيرارد ويسنتانلي ذات مرة بـ”منزعُ التسوية”، والناتج عن التصورات التي استحضرتها تلك الطوائف المتمثلة بـ”حضور الله في الأشياء والأجسام” (10). تنطوي إتاحية الله بهذا الشكل على قدرة فعالة لإحداث تأثيرات ديموقراطية (democratization) . في حين، إن نفي “الأب” يعني أن المعرفة اللاهوتية باعتبارها صنعة ودربة، لا يخوض فيها إلا كاهن تربّى وتمرس على طرق المعرفة والحكم [بما في ذلك المعرفة التي أنتجها المجمع الملكي، والتي أعلنت الإله منفياً في المقام الأول]، تمنح هؤلاء الكهنة الحق في احتكار النطق بإسم الله.

  إن ملموسية الله، والقدرة على الوصول الدائم له، في تجارب عامة الناس، تجعل تعاليم الكهنة المهرة، ذوي التعليم والتدريب الجامعي، منقطعة وغامضة. لم تكن غاية هذه النزعة نحو الدمقرطة، مقصورة على أمور الدين، حتى مع كون الدين هو المحرك الأساسي للمطامح السياسية التي نادى بها العامة. لم ينجح التحالف بين المجمع الملكي والانجليكانيين،  بإسكات الانفصاليين، في خلق ما هو أكبر من مجرد نخبة دينية. بل تم تعميم هذه النخبوية المعرفية، والتي قدمتها على غيرها ميتافيزيقا الكهانة الأنجليكانية، على مستوى أبعد بكثير، شمل مسائل القانون والحكم السياسي (حيث شُكلت معارف إختصاصية في فنون الحكم والإدارة (statecraft) لمقابلة النزعة الاختصاصية في الكهانة (priestcraft). يمكننا ضرب تشبيه فضفاض على هذه المسألة، يكون فيه الملك وبلاطه المحيط، الذي يعج بالنخب المُزْلَفَة من أجل حكم العامة المتوحشة، هي النسخة الدنيوية لأله يحكم كونًا متوحشًا من الخارج.

استشف الإنفصاليون إرهاصات التحالف الثلاثي المدمرة، حيث ستمهد الطريق لسد أفق إمكانية تشكل مجتمع يقوم على ثقافة ديموقراطية. لذلك تضمنت معارضتهم بوضوح نفس الأفكار التي نادت بها الطوائف الراديكالية قبل خمسين عامًا، والتي نادوا بها بناءً على أساس إتاحية الله للجميع. فلم تتوقف معارضتهم على انقطاعية طبقة النخبة المعرفية الكهنوتية [عن المجتمع والواقع]، بل طالبوًا أيضًا بإلغاء ضريبة العشر، وإلغاء مهنة المحاماة (11)، وإلغاء تكاليف العلاج العالية، ومنع الاحتكار القانوني لكلية الأطباء، وبشكل عام إلغاء التحكم المعرفي للنخبة في أبعاد السلطة والحكم السياسي. حاجج الإنفصاليون بأن هذه العناصر التي تشكل العقد الاجتماعي لمجتمع المساواة (egalitarian community) ، هي التي تمنت إقامتها تلك الطوائف ذات النزعة الراديكالية.

يتوجب علينا عدم الخلط بين موقف الانفصاليين وكليشيه الإصلاح البروتستانتي، الذي يصف كيف سمح تحويل العلاقة بين الفرد والله إلى علاقة مباشرة، بتقويض البابوية ومحيطها الكهنوتي شديد النفوذ والقوة. لقد كانت المؤسسة البروتستانتية في إنجلترا ونظرائها في الخارج، في مقدمة نتائج التحول النخبوي، والذي أصبح ممكنًا بفضل الميتافيزيقا الأرثودكسية التي أحاطت بالعلم الجديد في فترة الحداثة المبكرة. ولذلك، فإن تأثير هذه الميتافيزيقا الحديثة كان أكثر عمقًا ونفوذًا، بالأخذ في عين الاعتبار، ما حدث فيما بعد من ترسخ المؤسسة البروتستانتية بشكل عميق ونافذ. إن هذا الإحباط الذي حدث لعملية إقامة السلطة السياسية على اُسس معرفية ذات طابع ديموقراطي، ظهر جليًا في التوكيد على مُثُل التحضر (civility) في البلاط الملكي. أود إضافة نقطة توضيحية لنقاش تايلر المثير للإهتمام عن “اداب السلوك الاجتماعي”، على غرار ما فعله روبرت إلياس وبيتر بورك، اللذان كتبا على نحو كاشف عن التصور الذي رسم معالم قيم التحضر في حقبة الحداثة المبكرة. لقد أخفت هذه الحضرية (civility) القسوة والعنف الذي ارتكبه خاصَّةُ البلاط الملكي في حقبة الحداثة المتأخرة، فأبصرت سلوكيات وأنماط العنف في حياة الجماهير المتوحشة، التي تفتقد السلوكيات المتحضرة، وهذا ما تحول فيما بعد في مرحلة متأخرة من الحداثة، من خلال التقنينات (codifications) التنويرية، إلى مجموعة من الحقوق والدساتير، والتي تستحق الاحترام على الخير الذي احتوته أو حققته، إلا أنها غضت الطرف عن عنف وجرائم المجتمعات الغربية المتروبوليتية في الأراضي التي قامت باستعمارها، فلم تُبصر إلا عنف وقسوة تلك المجتمعات المتصفة بحسبهم بالوحشية، والتي افتقدت وجود مفرزات الحقبة التنويرية من تقنينات والتزامات حقوقية ودستورية.

إن آثار هذا التحكم النخبوي الشرس بالمجال المعرفي، وهذا التمكن السلطوي القائم على القدرة التجارية، ظاهرة حولنا في كل مكان.، لا تتمثل هذه التأثيرات فقط بمظاهر اللامساواة المعاصرة، والتي تبدو غير قابلة للاستئصال، بل تتجلى في مظاهر التفكك الثقافي والخراب النفسي – في الواقع لم أقدم شيئًا جديدًا، عدا التشديد على ارتباط جذور هذه الآثار بالميتافيزيقا التي بدأت بالتشكل في حقبة الحداثة المبكرة، والتي ساهمت فيما بعد بتشكيل مفهوم عقلانية مكثف (12) عبر تكوين تحالفات وقحة مع قوى العالم الناشئة. من هنا، فإن تشديدي على التحالفات الاقتصادية والدينية والسياسية التي ساهمت في تكوين هذا المفهوم المكثف، ينبع من رغبتي في إظهار كيف كانت كثافة التراكمات حول تصورات العقلانية. إحدى تجليات بنية العقلانية الكثيفة، تظهر في تبريراتها جشع استعمار أراضي الآخرين، لم تكن تلك التبريرات قائمة على أن تلك الأراضي مجرد امتداد للطبيعة الوحشية التي تحتاج للسيطرة والتحكم لاستخراج المزيد من الأرباح والفوائد، بل أيضًا لأن ساكنيها قُصَّر، ويفتقرون إلى ذلك المفهوم المحدد من العقلانية [الذي ذكرناه أعلاه]، ولا يوجد لديهم الاستعداد [الكافي] لقبول المواقف الصحيحة إزاء الطبيعة، حيث سمح ذلك لتلك التحالفات باتخاذ هذه التوجهات الضارية اتجاه تلك الأراضي المستعمرة. في الحقيقة، كانت إحدى أهداف الحكم الكولونيالي هي المشروع البيداغوجي لجعل سكان هذه الأراضي المستعمرة أكثر تطبعًا بمحددات وشروط العقلانية التي يرتضيها الاستعمار.

لقد أوضحت أكثر من تايلور آثار الجانب السياسي والإقتصادي على الجانب الثيولوجي والميتافيزيقي لنمط  ربوبية محدد [يقصد ربوبية العناية]، فقط من أجل إظهار خصوصية وكثافة التراكمات حول ما دعاه تايلور بـ”الإنسانوية” العقلانية والتي قدمها دوكنز ودينيت بأنقى حللها، فأظهروها بصورة بريئة شديدة الخفة (thin): فهي لا تدعوا إلا إلى مجموعة مبادئ تنادي بالإلتزام بتقديم الأدلة العلمية لكل إجابات الأسئلة العلمية. ليس على المرء إنكار أن الأسئلة العلمية يجب أن تحترم إجاباتها مبادئ الأدلة العلمية، ليرى مدى سطحية وخفة ما يكتبه هؤلاء الكتّاب، ولكن ما قدمته من خلال عرض هذه التراكمات الكثيفة يعتبر استمرارًا مباشرًا لتوضيحات تايلور الجينالوجية، إن هذه التراكمات الكثيفة تعتبر البنية الأخلاقية الأعمق التي تستند عليها التصورات الفردانية الجديدة عن الفعالية والمسؤولية، والشكل الجديد من النظام الأخلاقي المتجرد (impersonal) [بمعنى عدم إنطوائها على أي بعد شخصي في مقاربتها للوجود].

لن يصعب على القارئ ملاحظة الاستمرارية التي تحدثت عنها أعلاه، فما يدعوه تايلور بناء “الذات المعزولة” (buffered self) : هو تعبير عن الذات الغير منفتحة على أية أثقال معيارية (normative demands) برانية، وهذا في حد ذاته ليس إلا عاقبة حتمية لعالم مُصَوّر بطبيعة وحشية، لا يحوي أي قابلية تُلقي بهذه الأثقال [على ذواتنا]. إذا كانت القيم تصدر عنّا، وتنتج من صنعنا، فأي حديث عن سلوك أخلاقي كاستجابة لنداءات برانية سيكون منذ تلك اللحظة [عند تشكل الذات المنعزلة] في أفضل حالاته، إسقاطًا منحرفًا وتنازلًا عن فاعلية الإنسان ومشاق مسؤوليته الفردية، وفي أسوءها سلوكًا لا-عقلاني. هذا لا يعني أن نسبة القيم لمصدر بشري محض يحتم قرائتها من خلال منظور نفعي خالص، على الرغم من كون هذا التشييء للقيمة ظهر فيما بعد كنتيجة عن النسخة التي يصفها تايلور من الإنسانوية. ربما تتجاوز مفاهيم الإحسان والرحمة [الإنسانويين ] حدود “النفع”، لكنها لا تتجاوز حدود نسبتها إلينا نحن كمصدر للقيمة، فالرحمة والمشاعر الأخلاقية بشكلٍ عام مجرد نزوعات بشرية، وهي ميول سببية كامنة في طبيعتنا (13)، ولا يوجد مصدر آخر للقيم غير هذه الميولات. لا يعني ما سبق إنكار أن السياق الاجتماعي الذي نجد أنفسنا فيه قد يهذب ويعيد صقل الرحمة  (كما يوضح الفكرة آدم سميث)، ولا يعني أيضًا أن المراد هنا هو الحط من مقدار فكرة المشاعر الأخلاقية إلى مجرد شعور بالمصلحة الذاتية. ولكن المراد من تلك الرؤية لمسألة الأخلاق أن لا يُنظر إلى الرحمة كاستجابة لأي مصدر قِيَمِي براني، بل كمطالبة معيارية تلزمنا بممارسة نزوعاتنا نحو الرحمة من خلال فاعليتنا العملية. إن الموقع الوحيد الذي يمكن أن تتموضع فيه القيمة، وفقًا لهذه الرؤية، هو نزوعاتنا الطبيعية. وبطبيعة الحال فإن سعادة البشرية تقع في تحقيق هذه الرغبات والنزوعات (14).  وفقًا لهذا التصور، لا تكون المفاهيم النائشة عن التصور اللإغترابي للحياة بطانة يرتكز عليها موضوع السعادة البشرية؛ وأقصد بحياة اللإغتراب التي تضمن الإنسجام والتناغم بين متطلبات مصدر القيم البراني ونزوعاتنا للإستجابة لتلك المطالب. إن التأكيد على أولية السعادة البشرية، يعني تمامًا التخلي عن وجود أي مصادر برانية. إن هذه النقاط لدى تايلور هي الإعتبارات الأعمق والأكثر أساسية، بسبب إرتباطها بالتراكمات السياسية التي شددت على أهميتها (بطبيعة الحال لقد شدد تايلور على تراكمات سياسية أخرى)، والتي تستلزم وبشكل مسبق النقاط التي تتحدث عن نشوء القيمة بشكل كلي من رغباتنا ونزوعاتنا.

دعني الآن، وبشكل صريح، أقوم باختبار الإتساق المعنوي لشبكة المفاهيم التي تستبطن بنية الذات، والفاعلية، وشكل النظام الأخلاقي الجديد، التي تنبه تايلور إلى تشكلها في فترة التحول الجذري في حقبة الحداثة المبكرة، وقدم في حقها بوضوح نقدًا شديدًا. أعتقد أنه من الممكن الجدال بثقة على أرضية فلسفية صلبة، أو حتى على أرضية أقل صلابة، بعدم إمكانية وجود تصور للفاعلية عندما يمتلك الشخص مفهومًا كلي الذاتية عن القيمة، بحيث  يتموضع بشكل كلي في رغباتنا ومشاعرنا الأخلاقية، بدلًا من كونه نداءً خارجيًا يفرض نفسه علينا كمطالبة تستجيب لها رغباتنا ومشاعرنا الأخلاقية.

تتكون الفاعلية من خلال ممارسة وحضور [الإدراك] باعتبار زوايا نظر مختلفة إلى الذات. انظر مثلًا إلى حقيقة عدم إمكانية عقد المرء نيته على فعل شيءِ ما، وتنبأه بفعل ذات الشيء، في نفس الوقت. ما الذي يمنع حدوث هذا التزامن؟ حينما يتنبّأ المرء بفعل شيءٍ ما، فإنه يخرج من جوانيته وينظر إلى ذاته كموضوع، يخضع لحركية وسببية تاريخية، عبر نظرةٍ افتراقية (detached). يمكن لنا أن نطلق على زاوية النظر هذه: بـ”منظور الطرف الثالث“. في المقابل، عندما ينوي المرء فعل شيءٍ ما، يفقد زاوية نظر المُلاحظ المفارق لذاته، بل إنه يسأل كفاعل “ماذا ينبغي أو يتحتم علي أن أفعل؟”، إن زاوية النظر هذه تسمى بـ”منظور الطرف الأول“. مما تقدم، نستطيع أن نقرر قدرة المرء على استخدام كلا المنظورين، لكن ليس في نفس الوقت. بعبارةٍ أخرى، لا يمكن للمرء أن يكون فاعلًا وملاحظًا مفارقًا لذاته بشكلٍ آني. إذا نظرت لنفسي وقلت: “إنني أتنبأ بأنني سأفعل شيئًا ما”، فالإستخدام الثاني لضمير المتكلم “الياء المتصلة”، والذي أتحدث فيه عن نفسي بصيغة توكيدية، هو عبارة عن تحويلي لذاتي مفعولًا لنظرتي المفارقة، ويتضح هنا أن هذا الاستخدام [الثاني] ليس موضوع فاعليتي. في المقابل فإن التعبير التالي “أنا أنوي أنني سأفعل شيئًا ما” يوضح مقدار الانفعال الكامل في كلا استخدامي ضمير المتكلم، مما يجعل التوكيد تامًا من خلال نظرة الطرف الأول. فالاستخدام الثاني لضمير المتكلم في فقرة النية  يشير إلى فاعل، بحيث تكون الذات موضوعًا في نفس الوقت، بخلاف وضعية المفعول التي تتخذها الذات من خلال نظرة الطرف الثالث، والتي تتصف بطابع الملاحظة المفارقة التوضيحية والتنبؤية، التي لن تكون بطبيعة الحال نظرة الفاعل.

بأخذ التفريق السابق بعين الإعتبار، تبرز مسألة هامة تخص تصور الفاعلية، الذي خرج من رحم البنية الأخلاقية، التي توضح شروحات تايلور امتداد جذورها إلى حقبة الحداثة المبكرة. إن تصورًا مثل هذا، ينظر إلى الفاعلية، بشكلٍ كلي، كنوع من السعي لإشباع رغبات المرء ومشاعره الأخلاقية. يبدو لنا في الوهلة الأولى أنه يتسم باتساق مفهومي تام، فبكوننا فاعلين، نحن ننشط في العالم، وبذلك يمكن رؤية نشاطنا كمحاولات لإشباع رغباتنا ومشاعرنا الأخلاقية. هذا يفتح لي الباب، لطرح سؤال مفصلي عن هذا التصور للفاعلية، سؤال عن العلاقة بين رغباتنا وفاعليتنا. ولكن دعني بدايةً أمهد الأرضية بحديث موجز عن طبيعة معرفة الذات (self-knowledge).

أشار الفيلسوف جاريث إيفانز، في ملاحظته الذكية العابرة عن معرفة الذات (15)، إلى العمليات العقلية التي سيجريها عقله عندما يسأله أحدهم “هل تعتقد أن السماء ستمطر؟”، فلن يقوم بمسح شامل داخل عقله ليرى إذا كان يحتوي على الاعتقاد بأنها ستمطر. سيقوم بكل بساطة بالنظر إلى الخارج ليرى إذا كانت تمطر أو لا. ومن هنا، يتضح أن السؤالين “هل السماء تمطر؟” و”هل تعتقد أن السماء ستمطر؟” يستحثان نفس الإستجابة: حيث سينظر الشخص إلى الخارج في كلتا الحالتين ليرى ما إذا كانت السماء تمطر. لا يجب فصل معرفة الذات جذريًا (وأعني معرفة المرء بمعتقداته) عن معرفة العالم الخارجي، على الأقل في مستوى القضايا الطبيعية واللا-إشكالية، بحيث تصبح نتيجة عن الملاحظة المفارقة لذات المرء، ودراسةٌ جوانيةٌ له. سأحاول الآن توسيع هذه الملاحظة الذكية التي قام بها إيفانز عن معرفة المرء الذاتية بموضوعات معتقداته، إلى معرفة المرء الذاتية بموضوعات رغباته. فإذا ما سُئِلت “هل ترغب بـ(س)؟” فإنني لا أقوم بمسحٍ داخلي لباطني لأرى ما إن كان يحوي تلك الرغبة بـ(س)، بل أنظر إلى (س) (أو أحاول تخيله) لأرى إذا كان (س) مرغوب. إن صح ذلك، ينتج عنه أننا نختبر المواضيع الخاصة برغباتنا كمرغوبات متموضعة بالخارج، [أي أننا نستجيب لمرغُوبيتها التي تلقي بنفسها علينا]، لا كموضوعات نحن من نرغب بها [مرغوبيتها تنبع من داخلنا]. لا يجدر بما سبق أن يكون مفاجئًا البتة، فلو أن موضوعات رغبات الإنسان، تُخْتَبَر كرغبات نابعة من الداخل لا كمرغوبات ملقاة عليه من الخارج، سيعني ذلك أن نخرج من ذواتنا لندرك رغباتنا من منظور مفارق، وبهذا نتوقف عن كوننا فاعلين. وبذلك، نفقد بشكلٍ حتمي ارتباطنا برغباتنا كفاعلين، بسبب انفصالها عنا، وتموضعها في الخارج. انظر إلى العبارة التوكيدية التالية: “(س) مرغوب (desired)  من قبلي”؛ تلك العبارة ليست سوى تقرير عن رغبتي من قبل منظور الطرف الثالث المفارق. في المقابل، انظر إلى العبارة التوكيدية التالية: “(س) مرغوب (desirable)”؛ لا يمكن أن تكون هذه العبارة تقريرًا، بل توضيحٌ لرغبة صادرة عن منظور فاعلية تجربة الطرف الأول. من هنا، نستطيع أن نستنتج أنه بسبب احتواء العالم في ذاته على مرغوبات (desirabilities) (أو قيم) مدركة، فإن فاعليتنا تُستثار أو تُفَعَّل. بناءً على ما تقدم، فإن جوهر فكرة فاعليتنا، يفترض عالمًا مُسحَّرًا مُقَوِّمًا (16) (evaluatively enchanted).   

انعدام رغبة الفلاسفة بطرح الأسئلة التي أثرتها أعلاه، عن العلاقة التي تربط بين الرغبات بالفاعلية، يتسبب بفقدهم القدرة على إدراك عدم إتساق في فكرة تَشَكُلُ فاعليتنا من خلال السعي خلف تحقيق رغباتنا ومشاعرنا الأخلاقية، حيث تؤسس الفكرة وفقًا لمقومات ذاتية تتجاهل نداءات القيم الخارجية من العالم. من هنا، فإن التبصير (disenchantment)، أو عملية استبعاد كل النداءات الخارجية، التي يرصد تايلور بداية تكونها في حقبة الحداثة المبكرة، من خلال البنية الأخلاقية الجديدة للذات المعزولة وللفاعلية. لذلك، فإن التبصير يلزم منه الشك في نشوء أي تصور للفاعلية حينها. إن التبصير لا يتنج اغترابًا فضفاضًا (كالاكتئاب، أو فقدان الاهتمام بالمحيط، أو عدم الرغبة بفعل شيء)، بل ينتج اغترابًا يُغَيّب الفاعلية كُليًا، فيختزلنا لمجرد أوعية لرغباتنا، فيصبح إشباع هذا الرغبات هدفنا الأسمى. سأعود لاحقًا إلى نقطة الرابط الذي يجمع الفاعلية بالاغتراب في نهاية الورقة، لكن دعني الآن أوضح شيئًا مرتبطًا بشكل مباشر بمفهوم تايلور المختلف عن المتعالي.

لقد كنت أجادل بأن نفي الله من العالم، أفقد العالم روحه (anima mundi)، ومن ثم بيّنت أن ذلك يرفع عن فاعليتنا الأخلاقية الاستجابة لذلك العالم [منزوع الروح]. ومن هنا، أصبحت أنفسنا منبعًا بديلًا للقيم، عوضًا عن كونها [القيم] كامنة في العالم الخارجي. صدور القيم من دواخلنا، يجعلها متحيزة نحو مكاسبنا ومصالحنا، ولا يجب تفسير ذلك، بأنه إنكار لقدرتنا على التعاطف وتكوين المشاعر الأخلاقية، بل باعتباره تفسيرًا لا يرى بوجوب الاستجابة لمطالبات معيارية ناشئة عن عالم مثقل بالقيمة، وينظر للقيمة كإسقاط لدواخلنا على العالم (هذا المجاز الواضح، كما أشرت سابقًا، لدى كل من هيوم وآدم سميث)، وبذلك بقينا تحت سيطرة مطالبات الجودة والنتيجة والمصلحة، كما يشير تطور تلك الفكرة في الأدبيات اللاحقة. قد يسأل أحدهم، هل يجب أن ينتج عن إقصاء الله إلى مكان خارجي كمجرد محرك، فهمٌ يغدو فيه العالم كُلٌ متوحش، يخلو تمامًا من القيمة؟ لماذا لا يمكننا أن نحتفظ بعالم مغمور بقيم جلية لكل من يسكنه، بغض النظر عن وضوح وإمكانية الوصول إلى الله [الحاضر في كل شيء]؟ لماذا تتطلب القيمة موضعًا مقدسًا لمركزيتها، بحيث تنخفض بدونه إلى مجرد تصورات غير مباشرة، تصعب مقاربتها، وتصدر عن الرغبة أو الفائدة والكسب؟

لا أنكر ما تنطوي عليه هذه الأسئلة من مفارقة تاريخية، فهي متموضعة بشكلِ خاطئ زمانيًا (Anachronistic)، وليست صالحة عدا لما يسميه تايلور بـ”العصر العلماني”، الذي نعيش في كنفه الآن، حيث يكون الإيمان بالله واعتناق الدين مجرد خيار، وحيث قد نسعى على مستوى التصورات (على الرغم من صعوبة التفائل بنتائج هذا السعي) إلى إيجاد نسخة تسحيرٍ علمانية نعيد بها إضفاء السحر على العالم. لا يمكن جمع تلك الأسئلة باتساق مع فترة زمنية شاعت فيها التصورات عن مصدر القيم المقدس. في الحقيقة، لا يمكن أنكار صعوبة محاولة الجمع الأخيرة، ولكن تمنحنا هذه الأسئلة القدرة على رؤية نوع الالتباس أو الغموض المتكرر واللافت في المُثل (ideals) التي تنطوي عليها أطروحة تايلور.

من ناحية، هناك بناء إيجابي جديد للنظام الأخلاقي والتصورات المتمحورة حول الحرية أو الفاعلية، يغلق الباب في وجه النداءات الخارجية من العالم، وماتلقيه من معيارية علينا. فإن كان هذا هو التبصير، سيمكننا إعادة تسحير العالم في عصر تايلور العلماني، من خلال إيجاد نداءات كامنة في العالم الخارجي، باستخدام منظور مختلف للقيمة تمامًا عن [النداءات] الموجود في بنية الحداثة. نجد شيئًا يشابه هذا المنظور في أطروحة جون ماكدويل الأرسطوطالية الحديثة المشوقة. لقد حاولت توضيح فكرة ماكدويل بإعطاء محاججة خاصة عبر تصورٍ يتناول الكيفية التي علينا أن نعي بها موضوعات رغباتنا من أجل أن تبدأ إمكانية الحديث عن فكرة فاعليتنا. إذا تطلبت الفاعلية أن نتصور رغباتنا كقيم تقع في عالم منفصلٌ عنا، ستتكون لدينا نسخة من التسحير تتعارض (إلى حد كبير) مع أهم خصائص بنية حقبة الحداثة المبكرة التي يوضحها تايلور. نسخة تؤكّد أن مفهومنا عن الفاعلية لا يمكن اختزاله في مفهوم الحرية الذي استجد في بدايات فترة ربوبية العناية؛ فهي تستدعي جوانبًا تتجاوز العطف والمشاعر الأخلاقية التي وُهِبناها، وهذا يعارض إمكانية قيام منظومة أخلاقية خيرة مكتفية بذاتها، فهي ترفض القول بأن الأخلاقي يجد غايته في تحقيق الرخاء للإنسان، أو في تلبية الرغبات والقيم التي اخترناها أو وهبناناها نحن لأنفسنا، وحيث أنه [أي هذا المفهوم للتسحير] يرى القيم حولنا في كل مكان بصفتها نداءات خارجية تلقي بنفسها على فاعليتنا وعاطفتنا، بالتالي فإنها بالضرورة ترى أن العالم يحتوي خصائصًا غير قابلة للاستكشاف بواسطة مناهج متجردة وغير منخرطة كالتي ظهرت في بواكير الحداثة، من هنا لا تنبع مقاومة هذه المناهج من تلك الحوادث الفاصلة العرضية (أو ما يسميه تايلور (occasional punctuations) في وصفه المعجزات كما نتصورها نحن الحداثيون) بل هي مقاومة فاحصة (أو فادحة إن شئت)، فهي كشف وتعرية نسقية لقصور هذه المناهج المتجردة في فهم الطبيعة والعالم.

من الناحية الأخرى، أريد أن أنوه إلى أن صحة ما أحاول الحجاج لأجله لا يَلزَمُ عنه القول بنداءات خارجية ذات طبيعة متعالية، حيث تأتي هذه النداءات من مفهوم للقيمة تكون فيه كشيء كامن ومستبطن في العالم. على الرغم من ذلك، أصر على القول بأن محاججتي تفرض علينا مطالبات خارجية، بالإضافة إلى القول بأن هذه النداءات ليست ناتجة عن صنعنا، بأي معنىً ممكن لفكرة “الصنع”. لا أنكر أن هذه النداءات الخارجية تفترض مسبقاً حساسيتنا الإدراكية للعنصر القيمي الذي يسحّر العالم باستقلال عنّا، وتفترض مسبقاً الفاعلية الإنسانية (منظور الطرف الأول الذي تحدثت عنه أعلاه) التي تستجيب إلى مطالب العالم المعيارية. لذلك، لا ترى الكائنات التي لا تملك هذا النوع من الفاعلية إلا الظلام، في ذات الحين الذي نرى فيه نحن القيمة ونستجيب لمطالبها. لكن هذا لا يقترح بأي شكل من الأشكال ما تدعوا إليه تركيبة الحداثة المبكرة بأن مكونات السعادة البشرية تكمن في تحقيق الرغبات، والعواطف الأخلاقية كالإحسان. بل تقترح شيئًا مختلفًا تمامًا: حيث تكمن سعادة الإنسان في حياة لامغتربة ذات معنى خاص ترمي إلى شكل محدد من التناغم مع نداءات المُطالبات الخارجية التي تُنشئها الطبيعة، بحيث تكون استجابة الإنسان لمُطالبات ليست صادرة عن ذات الإنسان. سيحدث لبس تام عندما ننظر إلى مشروطية مفهوم فاعلية الإنسان كأساس يسمح للفرد بمقاربة المركبات المسحرنة في ذلك العالم المفارق لنا، بصفتها حجة على نسبة تلك المركبات إلينا كصانعين ومصدّرين لها، كما تصورها الحداثة المبكرة، وليست كمركبات قابعة في الخارج.

تكمن الفكرة فيما يلي : إن الغموض الذي أجده في مفهوم التسحير يعادل مستوى الغموض في مفهوم “المتعالي”. مادمنا نفهم المحايثة – نقيض التعالي – على شروط فكرة الاختيار الخاصة بالحداثة المبكرة، فإن هذه النداءات، ما دامت خارجة عن الرغبات والمشاعر الأخلاقية والخيرية الإنسانية، هي نداءات متعالية. لا يمكن أن تبصر هذه النداءات سعادة الإنسان في افقٍ يتكشل وفقًا لخصائص النزعة الإنسانية الحصرية. مع كل ما سبق، لا ينبع تعالي النداءات من قدسية منشأها، مما يوضح البعد الآخر الغامض من معنى مفهوم التعالي الذي أحاول شرحه هنا.

يظهر وعي تايلور التام بأن غموضًا من هذا النوع يحلق فوق تقريراته في عدة مقاطع مختلفة من كتابه، عند حديثه عن التقاليد المعارضة للتنوير التي وقفت في وجه البنية التي يحاول توضيحها من الحداثة المبكرة. لكن هناك جانبًا مشتتاً يظهر في عودته المتكررة لنيتشة كلما اقتبس ذلك التقليد (اي المعارض للتنوير). رغم ألمعية نيتشة في مقاومة بنية الحداثة المبكرة والعديد سواها، لم يكن يملك فهمًا حقيقيًا لحساسية ما حاولت إيضاحه عن القيم، والرغبات، والفاعلية، ودور هذه المفاهيم في تقويض بنية الحداثة المبكرة، واستبدالها بتسحير مثّمن خارجيٌ عن ذواتنا. أما المواضع الأخرى التي يحيل فيها إلى نيتشة بشكل أقل أهمية فهي المقاطع التي تحيل إلى أراء مدرسة مؤرخي التاريخ والعلوم من مدينة إدينبورغ البريطانية التي تصف نفسها بمدرسة “الإيكولوجية العميقة”. أيضًا، أرى هنا تهميشًا وتطويقًا للأفكار التي أحاول التشديد عليها من خلال توسل المصطلح الضيق والمُقيِّد “الإيكولوجيا”. إن قولي لا يتضمن نسبة السحر للطبيعة قاصداً إياها ككينونة مستقلة، وإنما أقول أن العالم، حين نفهمه بصفته يشمل الطبيعة في علاقتها مع ساكنيها، كما يشمل التراث والتاريخ الذي تنتجه هذه العلاقة، هو ما يشكل الطابع المسحّر الخارجي المُثَمِّن للطبيعة. إن هذا المفهوم الهايدجري عن “العالم” الذي يمد فاعليتنا بالنداءات الخارجية المثمنة للعالم، لا نقبض عليه إلا مختزلاً إذا استخدمنا مصطلح “الإيكولوجيا”، مهما وصل عمق هذه الإيكولوجيا.

من هنا، يكمن الغموض الذي أحاول تحديده فيما يلي: إذا كانت مفاهيم المحايث والمُبصّر متشكلة على أسس بُنية الحداثة المبكرة، سيتيح ذلك إمكانية معارضة هذه المفاهيم بتصورات عن التسحير والتعالي يمكن القول عنها – بمعنى آخر للمفهومين – أنها لا تمت بصلة للمسحّر ولا للمتعالي، حيث تفتقد هذه التصورات للبعد القداسي أو الخارق للطبيعة المرتبط بتصور التسحير والتعالي. (سأقاوم الرغبة الدافعة للقول بغموض مفهومي “المقدس” و”خارق الطبيعي”. بنفس الطريقة التي أشدد فيها على غموض مصطلحي “التسحير” و”المتعالي”، حيث يجب أن نجد مفردات لغوية تمسك بالجانب الآخر من المثالي الغامض the ambiguous ideal).

بناءً على ذلك، أريد إيضاح أنني لا أشير لهذا الغموض لأوحي بتاتًا بعدم صلاحية نظرة تايلور، التي تقول بإمكان انفتاحنا على مقاربة تكون فيها النداءات ذات طابع متعالي، متوسلًا فهمه الخاص للمتعالي. في الحقيقة، على الرغم من إلحادي، لكنني أعتقد بصحة ما شدد عليه تايلور، من عدم شمول بنية الحداثة، حتى في تاريخها المتأخر، على أية جوانب تمنعنا من الإنفتاح عليها، أو حتى جوانب تجعل من إنفتاحنا عليها فعلًا لا عقلانيًا. يحتم ما سبق علي حديثًا دقيقًا، لما قد يشير إليه ما سبق من قولي بما هو أقل من الإلحاد، حيث يشير قولي بإمكان الانفتاح على مقاربة تايلور للتعال. لكن الفهم الصحيح لطبيعة المسألة التي نتناولها، ينهي أي إيحاءات لا-أدرية قد تُفهم عند تفسير موقفي.

أعتقد أن الإدعاءات التي ينادي بها تايلور لـ”المتعالي”، والتي تحمل طابعًا أكثر تدينًا مما أحمله، صيغت من خلال شكوك (scruple) فلسفية شديدة الخصوصية تستحق معالجة تجعلها أكثر جلاءً. لذلك، دعني أطرح المسألة مستخدمًا مصطلحاتي ومفرداتي اللغوية. لقد قمت بعرض فهمي الخاص عن فكرة التسحير بتقعيدها على أرضية “محايثة”، بمعنى خاص من معاني هذا المحايث. مع ذلك، فإن فكرة التسحير تمتلك خصائصًا تضاد كل دعاوى البنية الأخلاقية للأفق المحايث منذ لحظة الحداثة المبكرة. بهذا المعنى يصبح ما أطمح إليه أكثر سهولة. إن كل ما يتيحه مفهومي الخاص للتسحير هو وجود القيمة في العالم بشكلٍ خارجي عن رغبات ونزعات البشر نحو فعل الخير، بدون افتراضهم كمصدر مقدس للقيمة. قد تدفع مقاربتي أحدهم للقول بأنني لا-علمي لقولي باحتواء العالم والطبيعة على أمرٍ كالقيم، بناءً على خلفية تقول بعدم قدرة دراسة العلم لمثل هذه الخصائص ذات الطبيعة القابلة للتقييم في العالم والطبيعة، لكن ردي هو عدم صحة القول بلا-علمية من يرى بقصور منظومة العلم الطبيعي عن الإحاطة بكل خصائص العالم والطبيعة. لا يقرر أي علم أن العلم في ذاته يستطيع تغطية كل مناحي الطبيعة والعالم، لذلك ليس من اللا-علمي إنكار هذا التقرير. في الحقيقة، إن مقولة شمولية العلم الطبيعي وقدرته على التعاطي مع كل مافي الطبيعة والعالم، ليست سوى قولُ أكد عليه الفلاسفة، أو بعض متقمصي الفلسفة من العلماء كريتشارد دوكنز. بأخذ ما سبق في الاعتبار، يمكن للمرء القول بأن هذه المقولة ضعيفة فلسفياً، وأنا أحد القائلين بهذا، بدون أن يتهم بان قوله ضعيف علمياً، وذلك لما قدمته من أسباب، حيث أن هذا الخلاف حول شمولية العلم للطبيعة والعالم، ليس إلا خلافًا فلسفيًا، وليس علميًا.

في المقابل، قد يتعذر على تايلور تقديم رد مشابه لردي في الفقرة الأخيرة. بالنسبة له، تستطبن النداءات [التي تلقي بها الطبيعة والعالم علينا] تعاليًا، ولكن بمعنى مختلف تماما عما قد أعنيه بهذا المصطلح. قد يرفض هذا المعنى من يوافق على تصوري المتواضع  (minimal) عن التسحير والتعالي [الذي يُنَحّي الأبعاد الدينية] (إن أخفق الرافض في رصد الشكوك الفلسفية، التي أعتقد أن تايلور حاول بشكل جاد التعريض بها)، باعتباره يضيف بشكل فعلي أبعادًا لا-علمية، وغير ضرورية لمفهوم التعالي. يُمكن صياغة هذا الاعتراض العقائدي (dogmatic)  على النحو التالي: قد لا ترتبط فكرة كمون قيمٍ في الطبيعة والعالم بأي بعدٍ لا-علمي؛ لكن سيُقال أن إدعاء مصدرٍ مقدس أو خارق للطبيعة لهذه القيم، يناقض في ذاته أي توافقٍ مع المتطلبات الاستدلالية للعقلانية العلمية. لن تتمكن أطروحة تايلور من الدفاع عن نفسها [أو عن المعنى الذي تفترضه للتعالي في نداءات الطبيعة والعالم]، باستخدام دفاعي الذي يعتبر القيم مجرد موضوعٍ خارجَ نطاق العلم، وليست اختراقًا للمبادئ والأسس التي تحدد نطاق العلم. إن فكرة الإله المتعالي والخارق للطبيعة تعتبر إهانةً للقيود التي أرساها الدليل العلمي، حيث تستخدم فكرة المتعالي هنا للإجابة على أسئلة تقع داخل نطاق تغطية العلم [بمعنى أن هذه الأسئلة يجب أن تتوسل الإجابة عليها من خلال قواعد العلم نفسه]. من هنا كانت الاعتراضات الصحيحة التي يشدد عليها ريتشارد دوكنز بأن الخلقوية ونظرية التصميم الذكي وكل ما هو في حكمها، تعالج بطريقةٍ لا-علمية أسئلة علمية عن بدايات الكون. لا تستطيع أي إدعاءات تتوسل في إجاباتها مصدرًا متعاليًا خارقًا للطبيعة أن تتجنب مواجهة هذا النوع من الأسئلة ذات الطابع العلمي.

أعتقد أن شكوك تايلور تتعلق تحديداً برغبته بالابتعاد عن مقاربة المفارق، بحيث يحفظ أطروحته من مواجهة لا يريدها مع هذا النوع من الأسئلة. إن مواجهته الحقيقية مع أطروحة الحداثة الإنسانوية الضيقة، لقد أراد استقصاء إمكانية الحديث عن المفارق بلغة أخرى، تماماً كما فعلت أنا بصياغة نسخة أكثر منه محايثة ودنيوية. في الحقيقة، لا توجد علة ترجح نسختي البديلة عن التعالي، على الرغم من عدم توافق مثال تايلور عن “التعالي” مع تصوري المتواضع للتعالي، الذي أجادل عنه منذ البداية – في نهاية المطاف، لا يوجب حيز اشتغالنا الفكري استخدام شفرات أوكام. قد يختبر البعض نداءاتٍ تُلقي بمطالباتٍ معيارية على فاعليتهم، في أفقٍ مفعمٍ بالديني، وبشكلٍ أكثر عمقًا من كل ما وصفته في تصوري للتسحير، والذي قمت، باختصار، بالمحاججة عنه أعلاه. إذا كانت هذه النداءات لا ترتبط بمعالجة أسئلة علمية، مما يعني عدم انتهاكها قوانين الاستدلال العلمي – انتهاك لا يتعدى كمون القيم في العالم، كما في تصوري عن التسحير. إن إضفاء الصفة الدينية على النداء لا يعكس إلا واقع التجربة ذاتها: أي اختبار نداء تستجيب له فاعليتنا الأخلاقية. ببساطة، من الصعب إنكار ورفض واقع التجربة بحجة أن شفرة أوكام تتطلب وصفاً أدنى لتجربة النداء. الدنو بالوصف حد الاختزال يعني إنكار واقع التجربة. أي إنكار حقيقتها التي يتلقاها المرء من منظور الطرف الأول كفاعل يسمع النداء ويلبيه. ليس على حامل شفرة أوكام أن يزيل ما هو واقع حقاً، وإنما عليه أن يزيل الفوائض الأنطولوجية.

من هنا، يتوجب علينا العودة لنقاشنا حول الكيفية التي يقصي فيها منطق النية والقصد من منظور الطرف الأول، منطق التنبؤ والإستقراء من منظور الطرف الثالث. لهذه الفكرة لوازم عديدة، لعلّ إحدى أهم هذه اللوازم هو فض التوافق بين الحقائق المدركة من منظور طرف أول، والحقائق المدركة من منظور طرف ثالث مفارق. مما يستدعي مساءلة كل الدعاوي الشائعة حول عدم القدرة على الفصل بين الحقائق المُثَمَنّة، من جهة، والحقائق الطبيعية من المنظور العلمي، من جهة أخرى – سواء كان ارتباطاً في قوة القوانين الطبيعية (nomological)، أو نوعاً من المطابقة المشروطة (contingent identity). حتى أضعف أشكال التبعية للإرتباط، المسمى أحياناً بالعارضية (18) (Supervenience) ، يجب أن تطرح للمساءلة. بحسب فرضية العارضية، يستوجب تطابق الحقائق المادية في عالمين مختلفين، احتوائهما على حقائق مُثَمَنّة متشابهة، وإلا ستتصف هذه الحقائق بطبيعة عشوائية تامة. في حدود علمي، يرى كل الفلاسفة الذين أعرفهم، بمن فيهم جون ماكدويل، أن هذا النوع من العلاقات التبعية غير مؤذي، بل شديد المعقولية. في الحقيقة، سأقول بحذر، وأظن أن تايلور سيوافقني، أن مُسَائلة أطروحة التبعية أعلاه، لا تحمل إنكارًا أو رفضًا لفرضية العارضية. إن كون القيمة تتجلى بشكل دائم أمام منظورنا كطرف أول عند إدراكنا للعالم، يجعل من إنكار أو قبول فرضية العارضية موحيًا بقدرتنا على إصدار تقييمٍ مجدي على الزعم بكون الحقائق، باعتبار منظور الطرف الأول، عالة على حقائق أخرى لا تتجلى بوضوح للفرد عند إدراكه العالم من خلال منظور الطرف الأول. لذا، ليست المسألة أنني أنكر العارضية، لكن الزعم ككل لا يمكن الجزم بإنكاره أو تأكيده. دعني أقدم تشبيهًا قد يساعدنا على فهم المراد [من الفقرة الأخيرة] بشكلٍ أفضل إلى حدٍ ما. خذ كمثال صورة البطة-الأرنب الشهيرة لفتجنشتاين، حيث تتشكل من خِلَالٌ (19) منظورية (perspectival defections) تمكننا من مقاربة الصورة كبطة ثم كأرنب، على نحوٍ دوري، بمعنى عدم قدرتنا على إدراك البطة والأرنب آنيًا. يحدث لبسٌ مشابه أيضًا في قضية النية والتنبؤ، كما في منظوري الطرف الأول والثالث، حيث تتعرض مقاربتك لتداخلٍ مُشَوّش، فيزاحم إدراكك لشكل البطة، إدراكك لشكل الأرنب. بالتالي، في كلا الحالتين، دعوى انتظام تبعية إحدى الحقائق المتجلية لأحد المنظورين لصالح منظور آخر، هي دعوى غير قابلة للتقييم، لا تُقبل ولا تُرد. في الحقيقة، لا يخفى على المتأمل في مثال فتجنشتاين اعتمادية (عارضية) صفات الحقائق المكونة لشكلي البطة والأنب، على حقائق حتمية أخرى، مثل: محتويات الصفحة المرسوم داخلها صورة لودفيغ “البطة-الأرنب”. تنكشف هنا حدود التشبيه الذي ضربته بمثال فتجنشتاين، فيظهر العنصر المفقود في التباين بين منظوري الطرف الأول والثالث – فلا يوجد منظورًا أكثر ثراءً يمكن للإنسان إدراك العالم من خلاله؛ فهو محكومٌ بإحدى الحالتين، غير قادرٍ على تجاوزهما. لا يوجد حالة وعيٍ أثرى تتملك الإنسان، الوضع الوحيد الذي يكون فيه الإنسان خارج هذه الثنائية هو النوم.

لا يتطلب أيٌ مما أشرت إليه، بخصوص فشل التوفيق بين منظوري الفرد، القول بأن فاعلية الفرد، عند انخراطه في العالم من منظور الطرف الأول، غير قادرة على إحداث أثر مادي يغير في العالم، بما في ذلك أجسادنا. ليس المقصد القول بثنائية جوهرية، لما تحويه أجسادنا والعالم من قيمة. لذلك، ليس هناك جانبًا ديكارتيًا (20) حول الفشل في التوفيق بين المنظورين. عندما أبدل منظوري نحو غشيان شخصٍ ما، على أنه مجرد انخفاض في السعرات الحرارية، إلى منظورٍ آخر أرى فيه نفس الشخص يعيش حالة معاناة، ويحتاج المساعدة، فقد قمت بتبديل موقعي في النظر، من خلال منظورٍ مفارق كطرف ثالث، إلى منظورٍ منخرط كطرف أول تستدعى فيه فاعليتي الأخلاقية. عندما أنظر إلى كأسٍ من الماء كفرصة لإشباع الرغبة في إرواء عطشي، فأنا أرى شيئًا ماديًا –  لكن من منظور الطرف الأول، لذا لا تعتبر هذه الرؤية مادية قُحّة ومتوحشة، لكنها تبقى مادية مع ذلك، وليست تسبح في فَلَك أثيرٍ ديكارتي جوهري. يربط هذا الطيف الجامع من العلاقات بيننا وبين العالم، كأحد الأشكال الممكنة لوصف العلاقة التي تجمعنا بالعالم، حيث يُلقي العالم بثقله على فاعليتنا الذاتية كطرفٍ أول. يحدث ذلك عند إدراك القيمة، لكن عندما تدفعنا القيمة المدركة على الانخراط، وتحث فاعليتنا على التحرك والفعل، ينقلب اتجاه العلاقة مع العالم، فتصدُر عن فاعليتنا الذاتية كطرفٍ أول، فعلًا يؤثر في العالم المادي من حولنا. بناءً على ذلك، وبشكلٍ غير قابلٍ للجدال، نقول أن فاعليتنا تسببت بأثرٍ غيّر في العالم من حولنا، بالرغم من عدم إحداثها للتغيير على نحوٍ سببي، وفقًا لمفهوم السببية، كما يحدث في سياق قوانين الطبيعة العلمية، حيث تتطلب تلك الأسباب رؤيةً تصدر عن منظور الطرف الثالث [المفارق]. من هنا، يظهر غموضًا عميقًا في نفس مفهوم السبب، حتى لو انتفت ثنائية الجوهر [في الوجود]. وقد أشار تايلور بنفسه إلى هذه المسألة في عمله الرائد في بداية حياته العملية، الذي تناول فيه تفسير الفعل البشري.

لقد استطردت إلى عددٍ كبير من الأسئلة التجريدية المُتَضَمّنَة في دعواي المتواضعة عن الأشكال العلمانية من التسحير الأقل شأنًا من مُثُلِ تايلور. تقول الدعوى أن الاقتصار على اعتناق النصف الغامض من مفهوم “التعالي” (ومفهوم التسحير)، كما أؤمن، لا يشكل أي طعنٍ في صياغة تايلور الدينية للنصف الآخر من هذا المفهوم، من حيث كون هذا الجانب الديني فائضٌ أو لا-علمي. لقد أطلت في هذه الأسئلة التجريدية عن منظورين الطرف الأول والثالث الذاتيين، لأوضح أن إمكانية نفي تهمة اللاعلمية التي تلتصق بصيغة تايلور الدينية عن التعالي، تستلزم نظرةً تفترض عدم ارتباط صياغات تايلور بمعالجة الأسئلة العلمية. في السابق، كما لدى كيركيغارد، كانت فكرة إمكان تجنب المرء معالجة الأسئلة العلمية، بتوسل المعتقدات الدينية، تُصاغ باعتبار الدين قضيته الإيمان [القلبي]، وليس الدليل [العقلي]. تغفل هذه الإجابة تفاصيل كثيرة، ويعوزها قدر كبير من الدقة، لتكون ردًا مناسبًا على إشكاليات متنوعة بيّنها تايلور في بنية العلمانية الأخلاقية مذ تشكلها الأول في حقبة الحداثة المبكرة، والتي يسعى مفهوم التسحير الغامض إلى ردها، كما في تصوري المتواضع عن مفهوم التسحير، أو في تصور تايلور المفعم بالحس الديني.

في المقابل، وعبر الأفكار المجردة التي قدمتها، حاولت توضيح إمكانية تجنب تهمة الافتراض اللاعلمي، الذي تنتجه الصياغة الدينية من مفهوم التعالي. عللت محاولتي، بما أراه فهمًا جيدًا لهذا الموضوع، بعدم حاجة هذه الصياغة للتداخل مع الحقائق الناشئة عن فهم العالم من خلال منظور الطرف الثالث المفارق. أيضًا، أرى صلاحية التهمة فقط في سياقٍ ينكر وضوح فكرة وجود حقائق شخصية تظهر عند تبني منظور الطرف الأول، تسمح بتجلي البعد الديني من التعالي. فيقوم هذا الإنكار على تبعية منتظمة بين الحقائق الشخصية والحقائق النابعة عن الفهم اللاشخصي المفارق، لمنظور الطرف الثالث.  من هنا، وباعتبار انتفاء هذه التبعية النسقية، فإن دعوتي للانفتاح على حقائق التعالي المفعمة بالحس الديني، لا تطلب تنازلي عن الإلحاد لمعتقدٍ ألين منه (من قبيل اللا-أدرية)، في حال عدم اشتمال منظور الشخصي كطرفٍ أول، على ثَقَلِ النداءات “المتعالية”، كما يفهم تايلور المصطلح. تدحض النظرية اللا-أدرية، عن طريق الخبرة المعاشة باعتبارها دليلًا ماديًا، مسألة وجودِ أو عدم وجود ظواهرٍ متعالية، بمعنى تايلور عن هذا المصطلح، كما أشرنا سابقًا. لكن، حوم الأسئلة حول وجود الدليل المادي، يؤكد على نشوئها من رحم فهمٍ مفارق كطرفٍ ثالث للعالم، والتي اعتَبِرُها خارج إطار النظر، وغير متصلة بموضوعنا.

لقد بذلت الكثير من الجهد لتحديد مواضع الاختلاف فيما يخص استجابتي بمعية تايلور لموضوع نزع السحر عن العالم. أما موضع الاتفاق بين تصوره عن التعالي المفعم بالديني، وتصوري المتواضع، هو أننا باعترافنا باستجابة الفاعلية الإنسانية لنداءات خارجية ما، فإننا نقدم تصورًا لحياة متناغمة بين فاعليتة الإنسان والعالم، لا يحيى بواسطته المرء كمسيطر أو مستعمر للعالم الذي يعيش فيه، فيكون ازدهار الإنسان بتكلفة عالية، ويصبح مجرد وعاءٍ سلبي من الرغبات ومُشبعاتها، مخاطرًا بذلك بإمكانية دخوله في حالةٍ دائمة من الاغتراب. بحسب المحاججة التي قدمتها في بداية الورقة، مستدعياً ملاحظات غاريث إيفانز، فإن ادعائي هذا يوازي الادعاء البسيط والعميق في الوقت ذاته: أن تصور إستجابتنا لنداءات خارجية، أيٌ كان نوعها، هو ما يتيح إمكانية الفاعلية ككل، وبالتالي فهو يعد الشرط الأكثر تجريداً لإمكانية العيش بدون اغتراب.على كل حال، يبدو أن التجريد الذي استندت عليه في تقديم محاججتي يجعل تعقل المقولة، التي أصررت على أساسيتها، بعيد المنال. بالرغم، من صلابة واعتيادية وكُلِّيَة تَمَثُلاتِها.

وضحت الحجج التجريدية تَبِعات فكرة إمكان إدراك العالم ذاته، كحاوي لخصائص لا تُدرس فقط من منظور الطرف الثالث المفارق، الذي تقتصر مقارباته على المحاولات التفسيرية، بل تحوي أيضًا قيمًا يمكن إدراكها عبر منظور الطرف الأول. من التطبيقات الرئيسية الناتجة عن إدراك العالم عبر منظور الطرف الأول، قدرتنا على اختبار أنفسنا كفاعلين، بمعنى أننا نختبر أنفسنا كذوات فاعلة، وليس مجرد مواضيع تمتلك مرغوبات تسعى للإستحواذ عليها، كما يملي عليها منظور الطرف الثالث المفارق والمنفصل عن ذاته. من هنا، يمكننا القول أن فعل إدراك القيم يتشارك نفس لحظة إدراكنا لأنفسنا كذوات فاعلة. وعليه يكون اختبارنا للقيم، واختبارنا لأنفسنا كذوات فاعلة، ليس نمطين مختلفين ومستقلين من الخبرة البشرية، ويمكن رؤية هذا التلازم أو الإرتباط في كل لحظة من حياتنا اليومية. خذ على سبيل المثال مقاربة الإنسان عندما يشعر بالظمأ لكأس من الماء، ستختلف تجربته تمامًا عندما ينظر إلى ذات الكأس من منظور طرف ثالث مفارق. يختبر الإنسان في لحظة الظمأ شعورًا يرى فيه الماء كفرصة ليرتوي، ويتعذر على العلم الطبيعي دراسة شيءٍ كشعور الإنسان بالفرص. بالطبع، يمكننا من منظور الطرف الثالث مقاربة الماء باعتبار عناصره التكوينية الكيميائية (H2O)، لكن عندما نقاربه عبر المنظور الشخصي الأوَّلي، ونستشعر فرصة الإرتواء، تصبح المقاربة الكيميائية بلا معنى. (21)

من هنا، أريد القول، أننا عندما ندرك الفرص الكامنة في العالم، من منظور الطرف الأول، نختبر أنفسنا عبر تلك المدركات كفاعلين، كذوات تمتلك القدرة على إنزال الأثر على العالم، وإرضاء رغباتنا، المتمثلة هنا بشعور الظمأ. نفس المنطلق، يدفعنا لمقاربة مجتمعٍ ما، من منظور طرفٍ ثالث مفارق، باعتبار متوسط عدد السعرات الحرارية المستهلكة يوميًا، لكن نستطيع وصف المجتمع ذاته، من منظورٍ تنخرط فيه فاعليتنا العملية، فنرى في هؤلاء الناس حاجةً، تتحرك لأجلها فاعليتنا، بطرق مختلفة مثل: إرسال الأموال، أو الإنضمام لحراك سياسي لتحسين ظروف الفقراء المعيشية. بعبارةٍ أخرى، عند النظر إلى العالم لا كمجموعات سكانية، بمتوسط عدد سعراتٍ حرارية، لكن النظر إلى نفس المجموعة كاُناس في ضيقٍ وحاجة، نختبر أنفسنا كفاعلين، أو نختبر إحساسنا الداخلي بالكرم والتعاطف، الدافع على الفعل. وعلى ذلك، يكون إدراك الخارج واختبار ذاتيتنا، متماشيًا مع يصفه تايلور بالذات الغير منعزلة، التي تستجيب لعالم مُسحّر بعناصر قيمية (عالمٌ مبنيٌ على وجود القيمة، وليس العالم الذي يتبدى من خلال اصطلاحات، مثل : “مجموعات سكانية”، أو “عدد السعرات الحرارية”).

يضفي التزامن والتشابه التام بين اختبار العالم وذواتنا الفاعلة، معنىً ملموسًا للعبارة الدارجة المبتذلة : أن تحيى بلا اغتراب،  أي أن تعتبر العالم منزلك. تعتبر التزامنية والتشابه بمثابة الشرط الميتافيزيقي الأول، لإمكان الحياة اللا-مغتربة. لقد جعل ماركس، وخصوصًا في بداية كتاباته، فكرة الحياة اللامغتربة مركزيةً في منظومته الفكرية، ثم قام بناءً عليها، بصياغة عدة شروط تدعيمية أخرى. لكن، يعتبر الشرط الأول شرطًا ضروريًا، لا يمكن صياغة الشروط الأخرى بدونه. بما أن هذا الشرط الإبتدائي الأساسي يتضمن أصلًا ذاتيةً اختبارية (experiential subjectivity)، يعجز مصطلح ماركس “المادية” عن إلتقاط أهمية ما كان يسعى خلفه، عندما أشار إلى السبب الرئيسي الذي يصنع الحياة اللا-إغترابية، والمتمثل في الخبرة الإجتماعية، أو بشكل أوسع، خبرات البشر المتشكلة في الفضاء الخارج عنهم.

عمومًا، تتسم الأمثلة والشروط التي قمت عبرها بصياغة الأفكار في الورقة، بصياغة شديدة الفردية، مما يُعجزها عن الإحاطة بما سعى ماركس خلفه. يجب أن تُصاغ على مستوى نسيجٍ اجتماعي، لكي نرى أعمق ثمراتها الفلسفية، التي تطمح إليها تصورات التسحير. نجد أحد محاولات الصياغة الاجتماعية المميزة في كتاب “عصرٌ علماني”، كمحاولة في قراءة التاريخ الفكري للتغيرات الدينية والإجتماعية –التي سميتها بـ”التشخيص الجينالوجي”، والتي قمنا من خلالها بفَلسَفَةْ حالة فكرية عامة تقفل السُبل الطموحة الممكنة من أجل حياة لا-إغترابية.

الهوامش

  • [إن ما وُضع بين معقوفتين […] هو بمثابة تدخل طفيف من المترجم لإضافة بعض الإيضاحات على النص]. (المترجم)
  1. ترجم طه عبدالرحمن الكلمة بـ”التسحير”، وضده “التبصير” المقابل الإنجليزي لكلمة “disnchantment”، معرفًا إياه : بإضفاء الصبغة السحرية على الأشياء في العالم المرئي، والتوسل بها في تفسيرها. في حين يكون التبصير : هو نزعُ الصبغة السحرية عن الأشياء المرئية، وترك التوسل بها في تفسيرها. ويكون بذلك العالم المُبصَّر (Disenchanted world) هو العالم الذي نزعت عنه الصبغة السحرية؛ أما العالم المُسحّر (Enchanted World) هو العالم الذي اكتسى بالصبغة السحرية ( للمزيد انظر “روح الدين: من ضيق العَلمانية إلى سعة الائتمانية”، طه عبدالرحمن، المركز الثقافي العربي 2012) .(المترجم).
  2. تستخدم كلمة “الجينالوجيا” في الدراسات الأنثروبولوجية لموضوع القرابة للدلالة على الانحدارات أو العلاقات القرابية بين أفراد المجموعة الواحدة. ويقصد عقيل بالتشخيص الجينالولوجي، العلاقات التي تربط الأفكار السالفة التي عملت على التمهيد والتشكيل التدريجي للأفق الفكري المعاصر، والذي اصطلح على تسمية زمانه بـ”العصر العلماني”. (المترجم).
  3. يقصد بلغرامي كتاب “العصر العلماني” الصادر دار نشر جامعة هارفارد عام 2007م.
  4. يوضح فتحي المسكيني ذلك في مراجعته لكتاب تشارلز تايلور فيقول : يدعونا تايلور إلى النظر إلى الحداثة أو العلمانية بنظرة موجبة وإيجابية، باعتبارها “ثمرة اختراعات جديدة وأشكال جديدة من الفهم لأنفسنا وما يرتبط بها من ممارسات”. ليست الحداثة مجرد مجموعة من السوالب أو عمليات الطرح لأشياء سابقة، أي “قصة ضياع، أو حذف”، ويبدو أن كل من يواصل فهم الحداثة على أساس فرضية قيبر عن “نزع الطابع السحري” عن العالم يفهم الحداثة فهمًا سالباً”. للمزيد انظر مقالة “العصر العلماني وعودة الدين : نموذج تشارلز تايلور” لفتحي المسكيني على موقع حكمة. (المترجم)
  5. ربوبية العناية: هي نظرية لاهوتية تعتقد بأن النظام الطبيعي للكون صُمم من أجل منفعتنا. لكن مسؤولية الوصول إلى السعادة في هذا العالم المصمم من أجلنا، ملقاة على عاتقنا. يرى تايلور أن هذه النظرية اللاهوتية عملت كحقبة انتقالية وسيطة في فترة ما بين عام 1650م إلى 1800م، حيث مهدت تدريجيًا للتحول الكامل نحو النزعة الإنسانية الحصرية. فتم تفريغ الربوبية (Deism) من مفهوم الإله القيوم على الكون وقوانينه لأجلنا، وتنحية المعجزات من خريطة الدين المسيحي المعرفية. وأصبحت العناية الإلهية منحصرة في تذليله الكون والعالم من أجلنا، وبتأملنا في تصميمه الدّال على هدفه الوحيد، السعي نحو سعادتنا، ندرك مخططه ونحقق غايته. للمزيد انظر الفصل السادس “ربوبية العناية” من كتاب “العصر العلماني” لتشارلز تايلور. (المترجم)
  6. كتاب ريتشارد دوكنز “وهم الإله” إصدار مطبعة هافتون عام 2006، وكتاب دانييل دينيت “كسر السحر: الدين كظاهرة طبيعية” إصدار مطبعة بينغوين عام 2007.
  7. تحكي أودرا ميتشل في كتابها “التداخل العالمي في العصر العلماني: إعادة تسحير الإنسانية” عن غاية عمليات العقلنة العلموية من منظور ويبر، وهدفها هو جعل العالم قابلًا للمعرفة ومفتوحًا على إمكانية التلاعب به. وتنقل عن ريتشارد جينكنز : “يغدو كل شيء في العالم المبصّر قابلًا للفهم والترويض، حتى لو بدى لوهلة غير مفهوم أو مروض. ويتزايد تمركز العالم حول الإنسان، وينزع الكون هيئته المشخصنة شيئًا فشيئًا”. توضح ميتشل المفارقة المشوقة التي يعرضها جينكنز في الفقرة السابقة، حيث وجد الإنسان ضرورة نزع الأنسنة عن كل مافي العالم، ليجعل العالم مشابهًا له بشكلٍ أكبر. فبحسب كتاب أودرا تضمن فكرة “الاستثنائية البشرية” إنكار وجود أي أبعاد شخصية، أو روحية، أو جوهرية، أو فاعلية لأي شيء ليس إنساني. ووصمت فكرة إدعاء أي درجة من الفاعلية أو المكانة الأخلاقية، لأي شيء ليس بشريٍ، بالـ”التجسيد”. وأصبحت تلك الفكرة متجذرة ومتداخلة في كل الخطابات الغربية العلمانية.  يمكن تتبع مصدر هذه الفكرة اللاهوتي بالمصطلح اللاتيني الذي يشير إليه بلغرامي “Deus Deracinus”، والذي يعني حرفيًا كما تشير أودرا “اجتثاث الله”. وتوضح أودرا مراد بلغرامي من هذا المصطلح، بأنه الفقدان التدريجي للإيمان بتجسد الله بالموجودات المادية، أو أن تلك الموجودات ليست إلا ناقلة للغاية الإلهية من الوجود. (المترجم)
  8. كتب غاندي عن هذا الموضوع باستفاضة في كتابه “الحكم الذاتي للهند” من إصدار مطبعة جامعة كامبردج، عام 1997. أيضًا، هناك مقاطع منتشرة في مجموعة كبيرة جدًا من خطاباته المتفرقة عن نفس الموضوع لشباب الهند، وفي عدد من مقابلاته ورسائله.
  9. في عددٍ من أعماله، بما فيها كتاب “المسيحية لا تكتنفها الأسرار” عام 1696م، وكتاب “الإعلان الواحدي” (Pantheisticon) عام 1704م.
  10. انظر نسخة جورج سابين من كتاب “أعمال جيرارد ويسنتانلي” من إصدار دار نشر جامعة كورنيل عام 1941م.
  11. التي يتكسب فيها المحامي لقمة عيشه من خلال المرافعة في قضايا قانونية، والمعنى احتكار المعرفة القانونية على نخبة عارفة بخفايا القانون وكيف يتم التملص والتلاعب به لتوافق مع مصالحهم. (المترجم)
  12. المفهوم الكثيف أو الوصف الكثيف: هو ترجمة لعبارة (Thick Description)، وهي عبارة من كتابات الأنثروبولوجي كليفورد جيرتز، ويقابلها المفهوم أو الوصف الخفيف (Thin Description). إن آلية الوصف الكثيف مأخوذة من عالم الأدب. فالقصيدة الشعرية، على سبيل المثال هي نص ذو معنى مركب كتب بلغة ثرية يحتوي على العديد من التفاصيل المتعينة التيي تتجاوز أحيانًا النص الظاهر والمباشر. والباحث الواعي يعرف أن آلالاته التحليلية (ونماذجه التفسيرية) هي في واقع الأمر، ومهما بلغت من دقة، فإنها غير قادرة على الإحاطة بكل شيء بشكل كامل بالواقع الحي؛ ويعرف أن بعض أبعاد هذا الواقع تظل خارج حدود النموذج. ولذا فهو يلجأ إلى الوصف الكثيف، أي يصف الظاهرة أو بعض جوانبها بشكل أدبي متعين لعل القارئ يصل إلى بعض الدلالات الخفية التي فشل النموذج التحليلي بأن يوصلها. (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، تأليف : د. عبدالوهاب المسيري، صفحة 135). أيضًا للمزيد انظر فصل: “التوصيف الكثيف: نحو نظرة تأويلية للثقافة، صفحة 79” من كتاب كليفورد جيرتز: (تأويل الثقافات : مقالات مختارة). (المترجم)
  13. أي هناك ميل طبيعي يدفعنا إلى التعاطف مع الآخرين، وفي نفس الوقت فإن حاجتنا إلى أن يتعاطف معنا الاخرون تغذي رغبتنا في تقدير الآخرين لنا من أجل الخير الذي نبذله. يقول سميث إن جذور دافعنا للعمل بشكل جيد تجاه الآخرين هو ميلنا الطبيعي إلى التعاطف مع الآخرين. وعلى نفس المنوال ، فإن حاجتنا إلى أن يكون لدينا آخرون يتعاطفون معنا تغذي رغبتنا في أن يقدرنا الآخرين من أجل الخير والعمل الفاضل الذي نبذله. لكن بعيداً عن الحاجة إلى الاستحسان الاجتماعي، لدينا أيضاً رغبة حقيقية في العيش وفقاً لإملاءات الضمير (التي أطلق عليها سميث “المشاهد المحايد”). هذا هو الدافع الأكبر لدينا ويقودنا باستمرار إلى السعي للتميز في جميع مجالات الحياة تماما بغض النظر عن أي اعتراف أو تشجيع من الآخرين. قد يكون من الحكمة في حياتنا الاقتصادية أن نتبع مصلحتنا الذاتية لتأمين الضروريات الأساسية ، ولكن هذه ليست سوى المرحلة الأولى من التطور الشخصي نحو الهدف الأعلى من الحياة المعيشية الأخلاقية. (المترجم)
  14. فيما يتعلق بسميث، انظر “نظرية المشاعر الأخلاقية” الصادر عن مطبعة جامعة هارفارد عام 2002م. أما هيوم، فانظر “بحث فى المبادىء الأخلاقية” الصادر عن مطبعتي كلاريندون وجامعة اكسفورد عام 1998م.
  15. انظر كتاب غاريث ايفنز “مرجعيات مختلفة” الصادر عن مطبعة جامعة أكسفورد عام 1983، صفحة 225.
  16. أي العالم المُسَحّر، الذي يحوي قيمًا تُلقي بنفسها علينا، وتحثنا على الإستجابة إليها، والتفاعل معها. ومن هنا تأتي كلمة “مُقَوِّم” كمقابل لكلمة (evaluatively)، بمعنى أن هذا العالم الذي يحوي الجمال والجلال في ذاته، يقومنا ويقيد استجابتنا وانفعالاتنا معه بما يلقيه علينا مما يحويه من قيم. (المترجم)
  17. اسم يطلق على مبدأ “لا تُكثر من الكيانات دون ضرورة”. ويتستخدم في الأعم ليشير إلى مطلب الاقتصاد الفكري. ويطلق عليه “مبدأ الاقتصاد”  (law of parsimony). (المترجم)
  18. حالة كون الخاصة (الصفة) عارضة أو تابعة. وتكون الخاصة عارضة إذا كانت تعتمد على خواص أخرى وتتوقف عليها، ولا يمكن أن تتغير ما لم تتغير تلك الخواص. تعد خاصة اللون مثلًا عارضة أو تابعة لأنها تعتمد على خواص فيزيائية أكثر أساسية. (المترجم)
  19. جمع خَلَلْ، وتفي أيضًا كلمة تشوهات منظورية بالمعنى. (المترجم)
  20. لنقاش مستفيض لهذه النقاط، انظر الفصل الخامس من كتابي “معرفة الذات والاستياء” الصادر عن مطبعة جامعة هارفرد عام 2012. لقراءة اعتراضات ماكدويل على فكرة عدم قابلية العارضية للتقييم، لعدم قبولها النفي أو التوكيد، انظر “ردًا على بلغرامي” من كتاب “ماكدويل ونقاده” من نسخة بتحرير سينثيا وغريم ماكدونالد الصادرة عن مطبعة بلاكويل عام 2007.
  21. في مقالتي “الأهمية المطردة في معارضة الطبيعانية” في كتاب “الطبيعانية والمعيارية” من تحرير ماريو دي كارو وديفيد ماكارثر  من إصدار مطبعة جامعة كولومبيا عام 2009. اُبين فيها كيف لا يمكن للمرء أن يقف عند مجرد القول باحتواء العالم على الفرص، بل يجب عليه القول باحتواء القيم أيضًا. إذا توقف المرء عند ذلك، فسنحصل على نسخة علمية من العلوم اللاجتماعية. يحتوي فيها العالم على أشياء (فرص) تختص فيها بإرضاء الرغبات، تكون فيها القيمة مجرد مفهومٍ أكثر تعقيدًا من مفهوم الرغبة البشرية والتعاطف الأخلاقي. في هذه الصورة، يفقد العالم أي قيمة ومرغوبات. ليست هذه الصورة إلا توسيعًا ومدًا للعلموية في إطار العلوم الاجتماعية. بسبب احتواء العالم عل ما يسمى بالفرص، فلا يمكن شرحها بشكلٍ كلي بواسطة العلوم الطبيعية. لكن العلوم الاجتماعية المقاربة من منظور علموي، يمكن لها أن تستوعب هذه الإضافة على العالم. لا يوجد هناك ما هو أقل من امتلاء العالم بالقيمة، يعارض العلموية الطبيعانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *