تخطى إلى المحتوى

غياتري شكرافورتي سبيفاك: ترحال القصد*

ترجمة: هاجر بن إدريس. مراجعة: أحمد جمبي.

pdf-icon

موجز المترجمة:
تستعمل غياتري سبيفاك في هذه الورقة التي قدمتها في معرض تونس الدولي للكتاب (2017) مصطلحاً استعارته من جاك دريدا وهو ما ترجمناه بترحال القصد. وقد ربطت سبيفاك مفهوم الترحال بالمعنى الثنائي للقصد أي ‘المعنى’  و’الوجهة’. واعتمدت في طرحها على أمثلة من حياتها الخاصة وعلاقتها بآسيا جبار. كما أنها تطرقت إلى ردة فعلها الأولى عندما سمعت عن الثورة التونسية التي كانت مناسبة أتاحت لها إعادة تفسير سؤالها الشهير “هل يستطيع التابع أن يتكلم؟” والذي أثار ضجة في أوساط دارسي نظريات ما بعد الاستعمار.


أود التحدث عن اختلافاتنا الداخلية في الطريقة التي نمثل فيها أنفسنا كذوات تابعة لثقافاتنا. أتكلم هنا من خلال علاقتي المتينة بشمال إفريقيا وذلك عن طريق آسيا جبار وغيرها من الكتاب، وعلاقتي بفرنسا عبر دريدا وآخرين، وعلاقتي ببريطانيا من خلال التاريخ الاستعماري، ومع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال عملي كأستاذة جامعية منذ 51 سنة، وكذلك مع الهند بوصفي مواطنة هندية.  “Destinerrance” هي كلمة صاغها دريدا للتعبير عن إمكانية عدم وصول رسالة إلى وجهتها المقصودة. هل يسمى هذا خطأ؟ هل نحن بالتالي دائما مخطئون (أو تائهون)؟ وفقا لأحدث نظريات الترجمة فإن هذه الأخطاء هي التي تنتج الخطابات القوية. فلنتمسك بهذه القوة كي نتخلص من خلافاتنا الداخلية. 

إن القدوم إلى تونس يشبه العودة إلى الديار. وهذا مثال لترحال القصد. فترحال القصد، كما أترجم تعريفه هنا بتصرف، “يزيح عن وجهته كل ما يدّعي أن له وجهة محددة عبر وسيلة اتصال ما.” لأضرب مثلا عن وضعي الآن. ففي حال كنتم تفكرون في مسألة الوجهة المناسبة فإنه لا يوجد سبب لأن ينتاب ابنة الهند التي هي نتاج امبريالية انجليزية وليس فرنسية، والتي تعيش في الولايات المتحدة الأمريكية منذ خمس وخمسين سنة وليس في فرنسا، (أن ينتابها) هذا الشعور: إن القدوم إلى تونس يشبه العودة إلى الديار. ولكن ترحال القصد يعني أن ندرك أنه لكي نعيش فاعلين في عالم لطالما كان يصبو إلى العولمة (وليس الآن فقط) وذلك عبر وسائل الاتصال يجب أن نغير الماضي إلى ما أسماه كارل ماركس “شِعر المستقبل”. وأين نستطيع فعل ذلك إن لم يكن في معرض للكتاب؟ وهذا هو المعنى القوي للقراءة كما أردده منذ سنوات عديدة، في عام 1980، عندما درّست لوقت قصير في قسم للطالبات في جامعة الرياض بالمملكة العربية السعودية وكان ذلك رداً على مخاوف الطالبات وفرحهن لأني كنت أخاطبهن بتقدير. كنت أقول إنه يجب أن نتعلم قراءة العالم. والقراءة تبدأ من الكتب. وعندما تستوعب مهمة القراءة، عندها فقط، يمكنك أن تتجاوز الكتب إلى العالم لأن القراءة منحتك دربة في توظيف ترحال القصد، فتوظفه كأنك تعيد كتابة العناوين الصحيحة في مكاتب بريد التاريخ كي تحول الماضي شعراً للمستقبل. بعبارة أخرى، من خلال احتضان أولئك الذين نفترض أنهم لم يتوجهوا إلينا بالخطاب وتغيير انكفائهم على ذواتهم إلى انفتاح على أنفسنا، نحن بذلك نصنع حداثة غير منهمكة في الماضي، فحداثتنا نحن اليوم هي أيضاً لا تتوجه إلينا بالخطاب.

وإليكم مثلا عن هذا الاحتضان: فقرة من نص لبلزاك. كنت أود أن أقرأ مقطعاً لكمال مجمدار ولكنكم لن تفهموا شيئا لأنني لا أستطيع ترجمته إلى العربية. و هذا كذلك ترحال للقصد كنت قد أطلقت عليه اسماً عامياً هو “التخريب الإيجابي لبقايا الامبريالية”: أي استعمال تلك اللغات للإمساك بشبكات العولمة عوض الانكفاء على أصالة لا يفهمها الآخرون من غير ذوي الاختصاص، مع العلم أنه من الأهمية بمكان أن نتعلم لغة الآخرين. في كتابي الذي صدر حديثا بعنوان قراءات[1]، طلبت من طلبة الأدب الانجليزي بجامعة هندية أن يبحثوا في أدب مقارن للغات الهندية. إن حكاية الهنود مع اللغات الهندية تضرب مثالاً لترحال القصد وتستغرق روايتها وقتاً طويلاً. لنكتف بالقول أن التخريب الإيجابي هو ترحال للقصد يُفهم على أنه مهمة منشودة وليس حدثاً موصوفاً.

لم يكتب بلزاك للنساء الهنديات المسنات. توفي في السنة التي احتلت فيها الجزائر أي قبل أن تصبح تونس تحت الحماية الفرنسية بوقت طويل ولكننا نستطيع اعتبار ما كتبه ملكا لنا:

“إن عربة الحضارة لشبيهة بالطاغوت. ما إن تخلفت لحين وعطّل دولابها قلب عصي أكثر من قلوب الآخرين، سرعان ما سحقته لتواصل مسيرتها المجيدة. وهذا ما ستفعلونه أنتم الذين تمسكون هذا الكتاب بأياديكم البيضاء، أنتم الذين تستلقون باسترخاء على أرائك وثيرة قائلين:  قد يكون هذا مصدرا لتسليتي. وبعد أن تقرؤوا المصائب الغامضة للأب غوريو، ستتناولون عشاءكم بشهية وستلقون اللوم على الكاتب الذي بلد إحساسكم بمبالغته الشديدة وستتهمونه بالشعرية المفرطة. ولكن اعلموا أن هذه الدراما ليست من نسيج الخيال أو من تأليف الروايات. كل شيء فيها حقيقي. وليتعرف كل واحد منكم على عناصرها داخله وربما في فؤاده”.[2]          

كلنا جميعاً، أي منا، كائناً ما كان، يستعمل التخريب الإيجابي لتحويل القصص إلى حقيقة. ترحال القصد: أن نصدر حكماً ينطلق من معرض للكتاب.

والآن بإمكاني أن أضع نفسي بين أياديكم كمثال:

لأنني رفضت أن أبقى سجينة ما كان مفترضا أن يكون موجهاً إلي – رسالة آريانية تاريخية إلى امرأة من طائفة الهندوس، تبيعها في برامج متكاملة إلى الولايات المتحدة الأمريكية- فقد رغبت خلال الثمانينات في الذهاب إلى مكان آخر. ولأنني في تلك المرحلة كنت قد درست كتابات دريدا، وبالتالي أتقنت شيئا من اللغة الفرنسية، فقد شعرت أنه بإمكاني التوجه إلى الجزائر. وقد يكون سبب ذلك أيضا أن الجزائريين حققوا استقلالاً مذهلا مثلما فعل الهنود من قبلهم وشعرت كهندية أن التحرر بدأ يحيد عن مساره حالما حصلت الجزائر على استقلالها. كان ذلك أول اتصال لي بشمال إفريقيا.  ذهبت إلى الجزائر بعد أن تحصلت على تأشيرة بمساعدة دريدا وعملت مع النساء الاشتراكيات ثم انتقلت بعد فترة إلى الساحل وأخيراً أجبرت على الرحيل في 1991.

تعلمت القليل من العربية المغاربية بمساعدة طلبة مغاربة يدرسون قواعد اللغة في منظمة “فيلق السلام”. لم يكن ذلك صائباً إذ كان من الأجدى أن أتعلم العربية الفصحى حتى يبقى شيء منها. ورغم ذلك فانه كان سعياً نحو ترحال القصد كمهمة وذلك من خلال تفحص سردية فرعية – جعلت مني شخصية في كتاب استقلال قد تم الانزياح به نحو ما بعد كولونيالية متصدعة. كنت أزور وهران مرة أو مرتين في السنة وأسكن في شقة في عمارة تمتلكها السيدة بن ملوكة وقد كان زوجها يعمل في ليون. ولكنني اضطررت إلى الرحيل سنة 1991 عندما ربحت جبهة الإنقاذ الإسلامي الانتخابات.

وقد يبدو غريبا أن ألتقي آسيا جبار سنة 1992 في كندا. وفي لقائنا الثاني، كما رويته عدة مرات، تجولنا في باريس لعدة ساعات وكانت تلقبني بأختها التوءم. وقد خصتني بإهداء في آخر كتاب صدر لها بعنوان لا مكان في منزل أبي[3]  لأنها أدركت أن إهداءها ذلك كان علامة شراكتنا في ترحال القصد. فالبيت الأبوي عند المرأة هو مكان لترحال القصد غير معترف به. انتقلت آسيا جبار إلى منزل زوجها كما انتقلت أنا إلى الولايات المتحدة عند زواجي بتالبوت سبيفاك. ولكن قطعا هذا الانتقال في حالتينا معا كانت له أهمية فلسفية أشمل فهو تغيير للطرح (Enonce) من أجل بلوغ شعر المستقبل كمتلقية مختلفة. تغيير طرح التاريخ هو اليوم مهمة مصيرية. 

في آخر محادثة لنا، أخبرتني وبريق في عينيها أنها كانت تقوم بدراسة حول قرطاج وأنها ستتعرض لبعض الانتقاد لأنها كانت منبهرة بشخصية بوليبيوس. وها نحن نعود مجددا إلى ترحال القصد. مهلاً بوليبيوس، لم تكتب إلي ، أنا المرأة المسلمة من الجزائر التي تعيش في بلاد الغال وفي بلاد ما وراء المحيطات المجهولة، ولكني أستطيع أن أقرأك. توجد هذه الإمكانية هنا ، في معرض الكتاب. لذلك أعتقد أن الأماكن التي ننشئ فيها مراكز عولمة تنتظر أن تتغير بفعل الأماكن هذه نفسها وبتأثير من أصدقائي الحاضرين هنا، هؤلاء الطلبة اليافعون. عوض الانسياق وراء ما يجب علينا فعله، ينبغي أن نتعلم ترك المكان الذي كونا عنه فكرة مسبقة- إنه ترحال القصد.

من خلال صداقتي المتينة مع آسيا جبار بدأت أقتسم حياتها بطريقة ما- لا أريد أن أكرر كثيرا لفظ ترحال القصد ولكنه يساعد على الفهم ولذلك أعيد استعماله هنا. وترحال القصد هو ما افتتحت به مجموعتها القصصية نساء الجزائر في بيوتهن[4] حيث اعتبرت أن البنغالية، لغتي الأصلية، لغة إسلامية وهو طرح نادر. إذ لم تذهب التقاليد العربية إلى ذلك وهو ما جعل صديقي الشاعر البنغالي فرهاد مزهر يكتب رسالة تذمر إلى الله كان عنوانها “البنغالية ليست لغتك”. ثم أهدتني آسيا جبار تونس فهناك اشتغلت مع فرانز فانون، الشاب الثائر من المارتينيك بعد نفيه من الجزائر. وتوطدت العلاقة أكثر في 1996 عندما ألقيت محاضرة تحت إشراف عبد الوهاب مدب حول “ما بعد الاستعمار الفرنسي” في مكان كان يسمى آنذاك متحف الفن الإفريقي والأقينوسي. ومنذ ذلك الوقت وأنا أنتظر دعوة أخرى. أشكر صفوان مصري الذي ساهم في مجيئي إلى هنا مرة أخرى.

في هذه الرواية كانت كندا مكان الشرود. في جانفي 2011 ، كنت أحاضر في هالفاكس-كندا، في أقصى نقطة من مركز العولمة في شمال أمريكا، عندما بادرتني، على ما أظن، امرأة مصرية قائلة: “أستاذة سبيفاك، هناك خبر عاجل يجب أن تضيفيه إلى محاضرتك.” أتذكر أنها كانت محاضرة لتكريم صديقي وحليفي ادوارد سعيد. أخبروني أن حدثا ثوريا قد وقع. لقد صدح صوت التابع. أحرق البوعزيزي نفسه في تونس واستجابت البلاد التي أصبحت مستعدة للاستماع إلى التابع الذي أخرسه الفساد السياسي السابق فكان ذلك تتمة لفعل الكلام الصادر عن التابع، والذي عادة ما يكون منقوصا. وتباعا لذلك فإنه من الناحية التقنية حتى وان حاولت المجموعات التابعة أن تتكلم فإنها لم تكن لتسمع وبالتالي فهي محكومة بعدم استطاعتها الكلام، أي لا صوت لها عندما تتكلم. لقد تكلم التابع. طلب مني (من قبل أشخاص في المنطقة أو ربما كانوا من عرب الشتات) أن أعلن  هذا النبأ إلى جمهور توجه إلى هنا ليسمع خطابا آخر. ما أحاول أن أقوله هنا هو أنه من خلال دعوة إلى معرض الكتاب الرائع هذا، أنتم تدعمون ما أقره وهو الولوج إلى ماض ما بعد الكولونيالية المتصدعة بعيدا عن الشتات- وهو ما بدأ يعطي أكله بمرور السنوات- وذالك رغم عملي الدءوب في مكان يمكن تسميته بقلب المتربول حيث تنتج في بعض الأحيان مجموعات الشتات ذات النزعة التقدمية وبنوايا حسنة أمرا غير مقصود وهو تحويل الفضاءات القارية إلى مجموعات تابعة تكون متنوعة ومتراصة في وحدة هشة يحكمها في أحسن الحالات تسامح قمعي. أعي أن هذه الجملة صعبة وأتمنى أن يستوعبها الشباب الحاضر هنا وأن يطرحوا أسئلة حولها. حددت لنفسي ثلاثين دقيقة فقط للكلام لأني أريد أن أصغي إلى أسئلة تطرحها النساء وخاصة الشابات حتى أتعلم منهن. سأتفهم الأمر إن كن لا يرغبن في طرح الأسئلة ولكني أريدهن أن يعلمن أن دراستي لترحال القصد تستمد قوتها من أسئلتهن. هذه أول زيارة وقد لا أعيش طويلا لأزور هذه البلاد مرات أخرى. فبدون أسئلة سأقبع في عولمة غير مجدية، فقط الأستاذة سبيفاك من جامعة كولومبيا.

في ملخص ورقتي أكدت على أن الخطأ ينتج قوة يجب أن نتمسك بها كي نتخلص من خلافاتنا الداخلية وذلك لأن التابع الذي تكلم في الموت أسدى إلينا مهمة ترحال القصد في بيت الديمقراطية. والديمقراطية هي لفظ دخيل لم يقع بالضرورة تثمينه منذ نشأته ولم يكن موجها إلينا عبر تاريخنا الذي سيطر عليه الحكم المطلق وما تبعه من احتلال وأنظمة حماية. وهو لفظ يجب إن تستوعبه لغة قلوبنا عوضا عن مجرد ترجمته. لم تفهم ناشطة وباحثة في جامعة هندية أشرف على أبحاثها الترجمة الهندية لكلمة “ديمقراطية” وظنت أنها تعني “جمهورية”. ومصدر هذا طبعا هو التقليد الروماني الذي أتى بالجمهورية وهي ترجمة خاطئة لعنوان أفلاطون بوليتيا[5]  ومعناه إجمالا دساتير المدن أو أنظمة الحكم فيها وهو لا ينم ضرورة على إعجاب بالديمقراطية. مهمتنا إذا أن نتدرب على هذا، أن نكرره كرجع صدى (to “echo” it) – كأننا نقوم مقام امرأة معاقبة إزاء نرسيس أوروبا.[6]

هذا يفسر لماذا أقحم نفسي (هل تصدقون أني لست بأستاذة جيدة؟ لم أتحصل مطلقا على جائزة تعليم ومع ذلك فإن المرء يجب أن لا يتوقف عن السعي)- أقحم نفسي إذا في أكبر قطاعات الناخبين في إفريقيا  وآسيا حيث أدرس شرائح صغيرة بتركيز عميق لأن مستقبل الديمقراطية يكمن في أيادي هؤلاء الناخبين غير المتعلمين الذين لن تشملهم الديمقراطية، حتى وان كانت الانتخابات نزيهة، ذلك أن التعليم يحكمه تمييز طبقي. وبالتالي فإن وصول الديمقراطية إلى غايتها يتطلب فرزها معجميا في قالب اختلافات داخلية مستمرة في جميع الدول القومية في العالم. وهذا يفسر عنوان محاضرتي.

يجب أن نكون حذرين في تخلصنا من اختلافاتنا الداخلية كي نطور هيكلا للمسؤولية ونجعل من ردود الأفعال، الردود الصادقة، تأتي من الجانب الآخر. ولتتمعنوا في هذا الوضع الآن، حيث أتكلم أو بالأحرى أخاطب كل واحد فيكم على حدة كما أخاطب الكل كمجموعة، فكروا فيه كمثال عملي لهذا البيت الجديد. أود أن يكون كلنا مسئولا أمام الآخر، وأن يكون الشباب خاصة مسئولا عن المستقبل. ولكني لا أتقن لغة هذه البلاد ونسيت القليل الذي تعلمته منها كما أني لا أجيد الفرنسية حتى أطمح إلى إدراك بنية لردود أفعالكم. هذه المشاكل هي أيضا حلول في ذاتها، لأن مهمة ترحال القصد هي مهمة جماعية. وهاهنا أقتبس( دريدا): “إليك أولا: إني لا أنتظر إلا إجابة واحدة تكون نابعة منك.”  

الديموقراطية ممارسة نغير فيها الفجوات المحتومة إلى مستقبل لا حدود له – حيث نعيد كتابة مصير الفجوات بين مختلف التقاليد الإبراهيمية – وذلك لأن الاقتراع (قمت بالعديد من الدراسات الميدانية حول هذا الموضوع من ذلك أن سألت قرويات جزائريات زمن النظام الاشتراكي لبن بلة – سألتهن بعربيتي المتعثرة: “ما يعني لكن الاقتراع؟” وطرحت السؤال نفسه في إحياء الذكرى المائة لمنح المرأة حق التصويت في النرويج. وقد دأبت على التنقل بين ما يسمى “بالقمة” وما يسمى “بالقاع” وذلك كي أتعلم كيف أكون مسئولة فلا أضع في الطليعة فقط المجموعة التي حتم علي أن أنتمي إليها. وفي ذلك تدريب على ترحال القصد.) لنعد الآن إلى الفجوات بين مختلف التقاليد الإبراهيمية: الديمقراطية تتضمن التسامي وبدونه لا نستطيع الرثاء أو إطلاق أحكام ولا حتى التفكير في المستقبل. و بها نعيد أيضا كتابة مصير الفجوة بين الإبراهيمية وبقية العالم، وبين جغرافيات جديدة تؤسس لتواريخ جديدة خارج التواريخ القديمة. ونحدد السلطة الفاعلة لا للنساء فحسب ولكن لكل الفئات التي صنفت قديما وحديثا على أنها ليست فئات رجالية لأنه لم توكل إليهم مسؤولية القيادة. ونأخذ بعين الاعتبار كل اللغات الأولى في العالم لأن هذه اللغات تعلمنا أخلاقيات الإشارات السميائية – وهي منظومة يعطل فقدانها الديمقراطية بوصفها عدالة اجتماعية وليس مجرد مساواة حسابية: صوت واحد لكل ناخب.

يا له من تاريخ كامل على درب أنسنة كوكب الأرض يضع على عاتقنا مهمة تكريس هذا الأمر السلبي. فتخيلوا عظمة ما يمكن أن ننجزه حتى وان كان شيئا ضئيلا. تخيلوا الحاجة لتأسيس جماعي لترحال القصد ، الحاجة للتخلص من اختلافاتنا الداخلية. يجب أن نعي أنه لا يمكننا تحقيق ذلك ولكنه يجب علينا فعله. في البداية كان الأمر حول تعلم القراءة- معرض للكتاب- خارج فصل الدراسة، استحضار للعالم- إنه معبدنا. أظنني تكلمت بما فيه الكفاية كي أستحث ردود أفعالكم. أتمنى ذلك. وفي الخاتمة، أكرر نفسي ببساطة:  دعوتنا إليكم تتمثل في الجرأة للاستعداد لما يكون قد أفلت في هذا التبادل بيننا. تفطنت البارحة في المطار أن ضباط الجمارك قليلاً ما يختمون جوازات سفر هندية. تأشيرة السفر تسعى للسيطرة على ترحال القصد- ولكن تذكروا أن لا أحد يمنح الخيال حق الدخول. إن الكتاب يحتفي ببداية مرونة الخيال التي تتدرب على العيش في وجهات نظر أخرى دون اللجوء إلى تغيير سهل للغة يفهم خطأ على أنه كونية. أشكركم جزيلاً على الإصغاء وأتمنى أنكم ستثيرون الأسئلة. الشكر مجددا.


* تستعمل سبيفاك في مقالها كلمة مركبة استعارتها من دريدا وهي “Destinerrance” :
“destination” أي الوجهة أو القصد + “errance أي الضياع أو التنقل دون وجهة محددة.
ويستغل دريدا ازدواج المعنى في الكلمة الفرنسية  “sens” أي اتجاه أو معنى، ليؤكد على فكرة يكررها كثيرا في نصوصه وهي ضياع مقاصد النص بين لحظة الكتابة (الارسال) ولحظة القراءة (التلقي). وليس من الهين ترجمة هذا اللفظ المبتكر ولكني أقترح هنا ما يمكن أن يقابله في العربية وهو “ترحال القصد” وذلك بالاعتماد على ما جاء في مقال سبيفاك وانطلاقا من تعريف دريدا نفسه:
” يقضتي السفر أن نترك ما ألفنا من الديار التي نحمل هويتها لمواجهة المجهول. وبصفة عامة فإن مسألة الاقتراب من الآخر تستند على إمكانية ضياع الهدف. والفاصل بين الوصول إلى الوجهة والانحراف عنها هو عامل الكارثة، أي الحادث الذي ينتج الانحراف عن القصد ويحرف المصير. في أي نقطة ونحو أي وجهة يمكننا أن ننحرف لكي نصل؟ إن الوصول والانحراف غير قابلين للتجزئة. وتضعنا تراجيديا الوجهة هذه كلنا في ترحال القصد الذي هو مرتبط بالحياة.”
Jacques Derrida et Catherine Malabou. La contre-allée. 1999, p. 4.
(المترجمة).


الهوامش

[1] Readings. Seagull Books, 2014.

[2] Le Père Goriot, p. 4.

[3] Nulle part dans la maison de mon père. Actes Sud, 2010.

[4] Femmes d’Alger dans leur appartement. Grin Verlag, 2013.

[5] Politeia.

[6] سبيفاك تستخدم echo هنا بمعنى مزدوج. فهي تتحدث عن رجع الصدى كفعل، لكنها أيضا تتحدث عن الشخصية الميثولوجية إيكو التي أحبت نرسيس لكنها كانت ملعونة بعدم القدرة على التحدث إلا عن طريق تكرار ما يقوله غيرها (المراجع).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *