ترجمة: أسامة سليم. مراجعة: لجين اليماني.
موجز المترجم:
هذه الدراسة في الأصل هي الفصل الثاني من كتاب حوارات مع بورديو، الذي كتبه مايكل بوراووي أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيركلي، وفيه يجادل في سياق سجال فلسفي يمتدّ إلى أكثر من عشرين قرنًا، من أفلاطون رأسًا إلى ماركس أساسًا بين التصوّر النظري والتصوّر التطبيقي، مفهومان يختزلان أنسقًا فلسفية تنتصر إحداها للنظري والمثالي فيما ترى الأخرى أولوية المادة على الفكر والتطبيقي على النظري. وفي خضم هذا الصراع، يتناول حالة بورديو وماركس، بورديو الذي كان أستاذه وماركس الذي كان منظّره خصوصًا وأن بوراووي معروف بإسهاماته في النظرية الماركسية.
الإحالة إلى النص الأصلي:
Burawoy, Michael and Von Oldt, Karl. Conversations with Bourdieu: The Moment of Johannesburg, Conversation 2, Theory and Practice (pp. 31-50) )published by Wits University Press (2012
“إن النجاح التاريخي للنظرية الماركسية، وهي أول نظرية اجتماعية تحظى بمكانة علمية تمكنت تماما من تحقيق إمكاناتها في الواقع الاجتماعي، يساهم في ضمان أن تكون نظرية الواقع الاجتماعي الأقل قدرة على دمج تأثير النظرية -التي خلقته هي أكثر من أي شيء آخر، – أقوى عقبة اليوم بلا شك أمام تطور النظرية الوافية للواقع الاجتماعي التي كانت سابقًا قد ساهمت فيها أكثر من أي شيء آخر.”
بيير بورديو ” الفضاء الاجتماعي ونشأة الطبقات “
ماذا يقول بورديو هنا؟ إن النجاح التاريخي للماركسية كان بتشكيل فكرة الطبقة من مجموعة من الصفات التي يتشاطرها تجمع اعتباطي من الناس، ما يسميه “الطبقة على الورق.” تمكنت الماركسية بمساعدة الأحزاب والنقابات والإعلام والدعاية – “وهو ما شكل عملا تاريخيًا هائلاً من الابتكار النظري والعملي، بدءًا بماركس نفسه” (بورديو، 1991 [1984]: 251) – من استدعاء الطبقة العاملة باعتبارها فاعلاً حقيقياً في التاريخ، وهي التي لولا الماركسية لم تكن إلا فاعلًا محتمل الوجود. ومع ذلك، لم تر الماركسية نفسها كمشكّل للطبقة العاملة، بل كمكتشف ثم كعاكس لوجودٍ سابق لطبقة موضوعية، متجهة إلى صنع التاريخ في صورتها الخاصة. لم يكن لدى الماركسية الآليات اللازمة لإدراك تأثيرها الخاص – “تأثير النظرية” – الذي لولاه لم توجد “طبقة عاملة”. باختصار، لم تفهم الماركسية قوتها، وقوة رموزها، وبالتالي فاتتها أهمية الهيمنة الرمزية.
لكن لماذا تشكل الماركسية “عقبة قوية أمام تطور النظرية الوافية للعالم الاجتماعي” (بورديو ، 1991 [1984]: 251) الآن، إذا كانت ناجحة من قبل؟ أفترض هنا أن الإجابة على النحو التالي. إن فشل الماركسية في إدراك العالم الرمزي، يحملها على الإخفاق في تنبؤ ظهور حقول الإنتاج الرمزي – حقول الفن والأدب والعلوم والصحافة – التي تولد تأثيرات الهيمنة الخاصة بها لتتجاوز وتتصدى للقوة الرمزية للماركسية. لم تفهم الماركسية أن أي تصنيف أو صراع تمثيلي يجب أن يسبق الصراع الطبقي، أي أن الطبقات يجب أن تتشكل رمزيا قبل أن تتمكن من المشاركة في النضال. إن عجز الماركسية عن المنافسة في صراع التصنيفات، يفقدها قوتها الرمزية ويعيد الطبقة العاملة إلى مجرد “طبقة على الورق” بعد أن كانت سابقًا فاعلاً مؤثرًا. عندما كانت الاقتصاديات تتشكل كحقل مستقل في أوروبا في القرن التاسع عشر، كان لدى الماركسية إدراك قوي للواقع، ولكن مع صعود الحقول الثقافية والعلمية البيروقراطية (في أواخر القرن التاسع عشر؟) فقدت الماركسية قبضتها على الواقع وأصبحت نظريتها منتكسة.
لا يفحص بورديو ادعاءاته عن الماركسية أبدا، ولكن هذا بالضبط ما سنفعله، بدءًا من ماركس نفسه. سوف أترك ماركس يتكلم من جديد من خلال حوار مع بورديو، جاعلاً نقطة انطلاقي نقدهما المشترك للفلسفة. من هناك سأقيم محادثة تبرز نظرياتهما المتباينة، موضحًا كيف ينتهي الأمر بأحدهم في طريق مسدود مادي، والآخر في طريق مسدود مثالي. يفرَ كلاهما من السجون التي يخلقانها، ولكن بطرق لا يستطيعان تفسيرها، الأمر الذي يشكل المفارقة الكامنة في الفجوة بين النظرية والممارسة.
نقد الفلسفة
هناك تشابهات غريبة تجمع بين نقد ماركس وإنجلز “للأيديولوجية الألمانية (ماركس وانجلز، 1978 [1945-46] ونقد بورديو “للعقل المدرسي” في تأملات باسكالية (2000 [1997]). في الفكر الألماني يقوم ماركس وإنجلز بتسوية حساباتهم مع هيغل والهيغليين الشباب تمامًا كما يقوم بورديو في تأملات باسكالية بتسوية حساباته مع أعدائه الفلسفيين. كلاهما يشجب نزعة الفلسفة إلى رفض الانخراط العملي مع العالم. وكما كتب ماركس في الرسالة الأولى عن فيورباخ، فإن الفلاسفة الألمان يعلون من شأن الطرح النظري باعتباره “الموقف الإنساني الحقيقي الوحيد” ، في حين أن الممارسة لا يتمّ تخيلها سوى في “مظهرها القذر- اليهودي”. إن انغماس بورديو في حرب الاستقلال الجزائرية، وتجربته مع العنف الكولونيالي الصرف جعلا من تدريبه الفلسفي في دار المعلمين محض هراء.
ومع ذلك، فإن تأملات باسكالية يعد تتويجًا لعمل بورديو النظري والذي يقدم فيه باسكال كمصدر إلهام فلسفي للقطيعة مع الفلسفة، والتركيز على أهمية ممارسات الناس العاديين، والتشديد على السلطة الرمزية التي تُمارَس على الجسد، ورفض انبثاق الفلسفة الصرفة من رؤوس الفلاسفة. ليس كتاب الأيديولوجيا الألمانية عملاً ذائعًا، بل هو عمل تأصيلي يوضح الأسس لنظرية ماركس عن المادية التاريخية والتاريخ المادي. وفي حين تعكس العناوين المختلفة موقعها المختلف في سيرة كلّ من مؤلفيها، إلا أن الحجة ضد الفلسفة تظل رغم ذلك متشابهة بشكل مدهش.
دعونا نبدأ بسخرية ماركس وإنجلز من الهيغليين الشباب الذين يعتقدون أنهم يصنعون التاريخ، بينما هم في الحقيقة لا يفعلون شيئًا سوى موازنة وتنميق العبارات:
“وكما نسمع عن المنظرين الألمان، فإن ألمانيا مرت في السنوات القليلة الماضية بثورة غير مسبوقة. لقد تطور فساد الفلسفة الهيغلية … إلى خميرة عالمية انجرفت تحتها جميع “قوى الماضي”. … لقد كانت ثورة جعلت من الثورة الفرنسية تبدو لعبة أطفال مقارنة بها، كما كانت نضالًا عالميًا جعل نضال ملوك طوائف الإسكندر يبدو ضئيلاً. لقد أطاحت المبادئ ببعضها البعض، كما أطاح أبطال العقل بعضهم بعضًا بسرعة غير مسبوقة، وفي السنوات الثلاث 1842 – 1845، في ألمانيا كان المزيد من الماضي قد جُرف تمامًا أكثر مما حدث في أي وقت خلال ثلاثة قرون كاملة. وكل ذلك كان من المفترض أنه قد حدث في عالم الفكر الصافي.” (ماركس وانجلز، 1978 [1845-46] : 147).
ها هو هجوم بورديو على فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة:
“الآن، إذا كان هناك شيء واحد مشترك بين فلاسفة “الحداثة” أو “ما بعد الحداثة”،أبعد من الخلافات التي تفرقهم، فهو ثقتهم المفرطة في قوى اللغة. إنه الوهم المثالي للقارئ، الذي يمكن أن يعتبر تعليقًا أكاديميًا بمثابة عمل سياسي أو يعتبر نقد النصوص أحد مآثر المقاومة، ويعيش الثورات في معرِض الكلمات وكأنها ثورات راديكالية في معرِض الأشياء.” (بورديو، 2000 [1997]:2)
إنها الحجة نفسها: علينا ألا نخلط بين حرب الكلمات وتغيير العالم الحقيقي؛ بين أمور المنطق ومنطق الأمور.
ولكن كيف يتوهّم الفلاسفة أن عالمهم الخاص هو العالم الحقيقي؟ تكمن الإجابة في نسيانهم للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي ينتجون المعرفة على ضوئها. بالنسبة لماركس، فإن فصل العمل الذهني عن اليدوي هو ببساطة ما يسمح لنا أن نتوهم بأن الأفكار أو الوعي يقودان التاريخ.
“لا يصبح تقسيم العمل حقيقيًا إلا ابتداء من اللحظة التي يظهر فيها تقسيم للعمل الذهني والمادي. من هذه اللحظة فصاعداً، يمكن للوعي أن يتملق نفسه بإيهامها أنه شيء آخر غير كونه وعي بممارسة قائمة، أنه حقًا يمثل شيئًا دون أن يمثل شيئاً حقيقياً. من الآن فصاعدًا، يصبح الوعي في وضع يسمح له بتحرير نفسه من العالم والمضي قدمًا في تشكيل النظرية “النقية”، واللاهوت، والفلسفة، والأخلاق، وما إلى ذلك.” [الخط المائل مضاف للنص] (ماركس وانجلز، 1978: 159).
يتصور الفلاسفة في تحررهم من العمل اليدوي الذي يعتمد عليه وجودهم رغمًا عن ذلك، أن فكرهم يحرك التاريخ. “لم يخطر ببال أي من هؤلاء الفلاسفة”، كتب ماركس وإنجلز (1978: 149)، “أن يتساءل عن علاقة الفلسفة الألمانية بالواقع الألماني، وعلاقة نقدهم بمحيطهم المادي”. بطريقة مماثلة، يجادل بورديو بأن الفلاسفة يفشلون في فهم خصوصية الظروف المادية التي تجعل إنتاج نظرية “نقية” أمرًا ممكنًا.
ولكن لا شك في أنه لا يوجد ما هو أكثر صعوبة بالنسبة لأولئك المنغمسين في عوالم تعتبر المسلك المدرسي أمرًا بديهيًا، من فهم هذه النزعة نحو المدرسية التي تتطلبها هذه العوالم. لا يوجد شيء يعتبره التفكير “الصافي” أصعب على المرء من أن يفكر فيه أكثر من الذكاء الأول والأكثر أهمية من جميع الظروف الاجتماعية لإمكانية التفكير “النقي”، وكذلك النزعة المدرسية التي تحض أصحابها على تجميد مطالب الحالة، وقيود الضرورة الاقتصادية والاجتماعية. (بورديو، 2000 [1997]: 12)
تؤدي النزعة المدرسية إلى إيهامنا بأن إنتاج المعرفة يتم بحرية، وأنها ليست نتاج ظروف مادية محددة. لا يقصر بورديو نقده للمغالطات المدرسية، وتحديدًا قمع الظروف الخاصة بالحياة الفكرية على الفلاسفة، بل يوسعه ليشمل مجالات أخرى. فهو ينتقد علماء الأنثروبولوجيا مثل ليفي شتراوس، وعلماء الاقتصاد لتعميمهم تجربتهم الخاصة بهم، مقحمين نماذجهم المجردة على الممارسات المتمردة للبشر العاديين. يمكن لعلماء الاجتماع فقط، الذين يطبقون علم الاجتماع بشكل غريزي على أنفسهم، وبشكل أعم على إنتاج المعرفة، أن يدركوا المغالطة المدرسية لدى الآخرين، والفصل الضروري بين النظرية والممارسة.
من وجهة نظر بورديو – وهنا سأسند لبورديو حجة لم يوظّفها أبدًا على حدّ علمي – يناقض ماركس نقده الخاص للمثالية ويصبح مرتكبًا لمغالطة مدرسية. وهو مذنب في ابتكار فكرة البروليتاريا التي تحمل عبء الإنسانية من خلال محاربة التجريد من الإنسانية لتحقيق اختراع مدرسي آخر – الشيوعية – مجتمع عالمي يسكنه أفراد عصر النهضة، غني بالاحتياجات ومتنوع في المواهب. إن هذه المثل ما هي إلّا مجرد إسقاط لشعور المثقفين بالاغتراب عن ظروف وجودهم الخاصة. إن العمال الحقيقيين، حسبما يجادل بورديو، لا يهتمون إلا بتحسين شروط وجودهم المادية ، وهم محرومون من مثل هذه الأحلام الماركسية النبيلة. تماما مثلما فعل بورديو حين وضع ماركس ضد ماركس، سنرى لاحقا، كيف يضع ماركس بورديو ضد بورديو. في الوقت الحالي يكفي أن نلاحظ أن ماركس وبورديو كلاهما يصر على القطيعة مع منطق النظرية من خلال التحول إلى منطق الممارسة.
من المادية التاريخية إلى مجالات التعايش
من رحم الانتقادات الشائعة لتيارات الفلسفة تنشأ نظريات اجتماعية متباينة. بما أن نظرية بورديو الاجتماعية هي بوضوح رد فعل على ماركس، يجب أن نبدأ من ماركس.
بالنسبة لماركس، يشير منطق الممارسة إلى الممارسة الاقتصادية، التي تُفهم على أنها العلاقات الاجتماعية الملموسة التي يدخل إليها الرجال والنساء عندما يحولون الطبيعة. تشكل هذه العلاقات الاجتماعية طريقة الإنتاج بمكونين: قوى الإنتاج ( بما هي العلاقات التي يتعاون من خلالها الرجال والنساء في إنتاج وسائل العيش، بما في ذلك أسلوب التعاون والتكنولوجيا التي توظفها) وعلاقات الإنتاج (بما هي علاقات الاستغلال التي من خلالها تستحوذ الطبقة المهيمنة على الفائض الذي تصدّره طبقة المنتجين المباشرين). إن طريقة الإنتاج تؤدي إلى ثلاثة أنواع من التاريخ حسب ماركس:
(أ) التاريخ كسلسلة متتالية من أنماط الإنتاج – القبلية، القديمة، الإقطاعية، والرأسمالية.
(ب) التاريخ كديناميكية لأي نمط أو طريقة إنتاج معينة باعتبارها علاقات الإنتاج التي تحفز أولاً ومن ثم تعيق توسع قوى الإنتاج – وهي نظرية يتم تطبيقها فقط للرأسمالية
(ج) التاريخ كتاريخ للصراع الطبقي والذي يدفع الحركة من نمط إنتاج إلى آخر[، عندما تتحقق الشروط المادية لمثل هذا الانتقال. تفسح الرأسمالية المجال أمام الشيوعية، التي لا تعد نمطا للإنتاج بسبب انتفاء التفاوت الطبقي عنها، وبالتالي انعدام الاستغلال فيها . يكمن أساس التاريخ في طريقة الإنتاج، ولكن فقط في نمط الإنتاج الرأسمالي يدرك المنتجون المباشرون – أي الطبقة العاملة – دورهم كفاعل في الثورة.
لن يتعامل بورديو مع مثل هذا الاختزال الاقتصادي، ومثل هذه النظرية للتاريخ والمستقبل ، ومع هذا الإسقاط للخيالات الفكرية على الطبقة العاملة المنغمسة في الجهل. لكن دعونا نمضي خطوة خطوة. عندما ينتقل بورديو إلى “منطق الممارسة” فإنه يذهب إلى ما وراء الأنشطة الاقتصادية ليشمل الأنشطة في جميع مجالات الحياة ، وعلاوة على ذلك فإن هذه الأنشطة لا يُنظر إليها من حيث “التحول” بل من حيث الممارسات الجسدية التي تؤدي إلى تشكيل الهابيتوس وتطوره من خلالها بما هو غرس لميول الإدراك والتقدير. ها هنا بورديو يشرح معنى الهابيتوس [1] (habitus) في كتابه الموجز “نظرية الممارسة” :
“وينتج عن هذا الهابيتوس، وهو المبدأ التوليدي الراسخ للارتجالات المنظمة ، ممارسات تميل إلى إعادة إنتاج القواعد المنتظمة الكامنة في الظروف الموضوعية لإنتاج مبدئها التوليدي ، مع التكيُّف مع المطالب المسجلة باعتبارها إمكانيات موضوعية في الحالة على النحو المحدد في الهياكل الإدراكية والتحفيزية المكونة للهابيتوس . ” (بورديو، 1977 [1972]: 78)
يولد هذا الهابيتوس ممارسات، مثل الحركات في اللعبة، تكون منظمة بشروط البنية الاجتماعية وبذلك تقوم بإعادة إنتاج تلك البنى. لكن تكون الممارسات والمعرفة مرتبطة ببعضها البعض عن طريق الجسد الذي لا تركز الرؤية الفكرية على أهميته. كما ينقش النظام الاجتماعي نواميسه في الجسد، بمعنى أننا نتعلم جسديًا ونعبر عن معرفتنا جسديًا – وكل ذلك تحت سلطة الهابيتوس التنظيمية للذات[2] ، والتي تكون في معظمها غير واعية.
يعطي مفهوم الهايبتوس وزنًا وعمقًا أكبر بكثير للشخص الذي لا يعدو كونه نتاجًا لتأثير العلاقات الاجتماعية أو حاملاً لها في فلسفة ماركس. ومع ذلك ، وبأخذ هذه العلاقات الاجتماعية بعين الاعتبار، فإن مفهوم بورديو (1975) للحقل يعتمد ويستقرئ ويعمم بعض السمات الموجودة في مفهوم ماركس حول نمط الإنتاج، أو على الأقل مفهومه عن النمط الرأسمالي للإنتاج الذي شرحه في كتابه رأس المال.
في الواقع ، يتطرق بورديو إلى الاقتصاد السياسي للسلع الرمزية (العلم والفن والتعليم) (بورديو، 1996 [1992]) مشددًا على أوجه التشابه بينها، وكما هو الحال مع نمط الإنتاج الرأسمالي ، و مفهوم الحقل ، يدخل الأفراد إلزاميا في علاقات المنافسة من أجل مراكمة رأس المال وفقًا لقواعد السوق. وتتمتع حقول بورديو بنفس الميزة ولكل منها “رأس مال” مميز خاص بها يسعى إليه العاملون ليتراكم، ويتقيد بقواعد المنافسة التي تمنح الحقل درجة معينة من النزاهة الوظيفية وديناميكيات مستقلة نسبيًا. إذا كانت هناك أي اتجاهات عامة للحقول، فهي الميل إلى تركيز رأس المال الخاص بالحقل كما هو الحال عندما يكتب بورديو (1975) عن الحقل العلمي على أنه واقع بشكل متزايد تحت هيمنة أولئك الذين يحتكرون رأس المال العلمي.
ولكن مع ذلك ، هناك اختلافات جوهرية بين ماركس وبورديو. ففي مفهوم بوردو عن الحقل ، وهو المدروس بشكل أكثر تفصيلًا فيما يخص الحقل الأدبي في كتابه قواعد الفن (بورديو ، 1996 [1992]) ، بالإضافة إلى حديثه عن الحقل العلمي ، فإن فكرة الاستغلال الضرورية جدًا لماركس ، غائبة في كتابات بورديو. وبدلاً من ذلك ، لدينا مجال من الهيمنة يحكم الصراع بين أصحاب المناصب المقدسين و المنافسين الجدد ، الطليعيين. يبدو الأمر كما لو أن الرأسمالية مقتصرة على المنافسة بين الرأسماليين، وهذا بطبيعة الحال الاعتقاد السائد في علوم الاقتصاد التقليدية حول الاقتصاد. وبالفعل، فإن الكتاب الوحيد (2005) الذي يخصصه بورديو للاقتصاد بذاته، وهو البنى الاجتماعية للاقتصاد ، يركز على دور الهابيتوس والذوق في ملائمة العرض والطلب لأنماط السكن المختلفة. يتعلق الأمر كله بالأسس الاجتماعية لسوق الإسكان. لا توجد محاولة لدراسة الإسكان من منظور العملية الانتاجية الخاصة به؛ من وجهة نظر عمال البناء مثلاً،. إن الاستغلال، وهو المفهوم الذي يعرّف الاقتصاد الرأسمالي بالنسبة لماركس ، غائب في مفهوم الحقل عند بورديو.
والأهم من ذلك بتعبير أكثر دقّة فإن بنية الحقول تختلف اختلافا عميقا في النظريتين. حسب ماركس لا يوجد سوى مجال رئيسي واحد فقط – وهو نمط الإنتاج الرأسمالي بقوانين المنافسة المتأصلة التي تؤدي إلى أزمات الإفراط في الإنتاج وانخفاض معدل الربح من جهة وتكثيف الصراع الطبقي من جهة أخرى. والشيء الوحيد الذي يؤخر زوال الرأسمالية هو بنيتها الفوقية المكونة مما يمكننا تسميته سلسلة من الحقول الفرعية ، إن جاز التعبير – الحقول القانونية والسياسية والدينية والجمالية والفلسفية. يقوم بورديو بنقل نموذج البنية الفوقية إلى نظام من الحقول المشتركة. وعلى الرغم من أن الاقتصادي لا يزال وإن يكن بشكل غير محدد بعد مهيمناً ويهدد استقلالية الحقول الأخرى، إلا أن بورديو يهتم بمجريات الأمور الداخلية التي يصرف عنها ماركس النظر بشكل أو بآخر باعتبارها ثانوية.
لا تُعتبر تصورات كل من ماركس و بورديو للعلاقات بين الحقول أقل أهمية. فإذا كان لدى ماركس تتابع تاريخي للحقول الاقتصادية ، فإن بورديو لديه تعايش وظيفي في الحقول. يطرح تعدد مجالات التعايش عند بورديو مجموعة من المشاكل الجديدة فيما يتعلق بالعلاقات بين الحقول ، وهذا هو السبب في أن أحد محاور التمايز والنضال في أي مجال يتركز حول استقلاليته/ تبعيته بالنسبة للمجالات الأخرى، والتي عادة ما تكون اقتصادية. في كتاباته اللاحقة ، يشارك بورديو في دفاع جدلي عن العلم والثقافة والتعليم والسياسة ضد التأثير المدمر للاقتصاد الاستعماري. فقد استلزم إنشاء الحقل الأدبي في فرنسا في القرن التاسع عشر القطيعة مع الأدب البرجوازي من جهة والواقعية الاجتماعية من جهة اخرى ، واللجوء إلى الأدب المستقل من أجل الأدب[3]. لكن الحكم الذاتي يجلب معه نوعًا آخر من العلاقات بين الحقول والتي تقوم على عدم الاعتراف وسوء الفهم. إن استقلالية المجال التربوي أو المجالات الثقافية المختلفة يؤدي إلى عدم الاعتراف بمساهمتهم في إعادة إنتاج العلاقات في مجالات أخرى، وأبرزها العلاقات الطبقية في المجال الاقتصادي. و سواء في عملية التمييز كما في إعادة الانتاج، فإن أسبقية البنية الطبقية تؤخذ كما هي دون مساءلة، كما يتم التركيز على كيفية قيام الثقافة أو التعليم بترسيخ و تمويه الهيمنة الطبقية في آن معًا.
يطرح تعايش الحقول سؤالاً آخر أكثر حدّة: وهو تأثيرها على عمل الأفراد أثناء تنقلهم عبر الحقول. حسب ماركس يتم دراسة الأفراد فقط في مجال واحد ، وهناك يتصرفون بحتميات العلاقات التي هي جزء لا يتجزأ منها. أما تحليل بورديو فهو أكثر تعقيدًا ، عليه أن يسأل كيف يتصرف الأفراد الذين ترعرعوا في مجال ما عندما يتواجدون في مجال آخر – كيف يتصرف الطلاب القادمون من وسط فلاحي (في مقابل الطبقات المتوسطة الحضرية) في المجال التعليمي. هل هما سيان أم أن هناك شيء ما في رأس مالهم الثقافي أو في بيئتهم يجعلهم يتصرفون بطريقة مختلفة؟ قد يكون من المحتمل أن لكل مجال منطقه، لكن في بعض الأحيان ، قد تؤدي قوة الهابيتوس التي جلبها الفاعلون من حقل آخر – كالفلاح الذي يأتي إلى المدينة – إلى توتر أو صراع أو حتى قطيعة مع النظام الجديد ، وهو ما يسميه “عدم الكفاءة” والاختلال في الهابيتوس. إن قوة تحمّل الهابيتوس هي ما يمكن أن يؤدي إلى ما يسميه بورديو التلكؤ[4] (hysteresis) – أي كيف يعيق الهابيتوس الموروث والراسخ لدى الفرد عن التكيف مع الحقول المتعاقبة .
إن أفضل مثال لدى بورديو للتلكؤ أو التباطؤ هو تخفيض قيمة الشهادات التعليمية الرسمية المعتمدة والذي يفسر، في نظره، احتجاج الطلاب في مايو 1968 يصف كتابه الإنسان الأكاديمي (بورديو، 1988 [1984]) كيف أن الانتشار والتوسع في التعليم العالي خلق فائضًا من المحاضرين المساعدين الذين تم حظر ترقيتهم الاجتماعية كنتيجة لذلك. ولم يؤثر التوتر الذي أعقب ذلك الناشئ بين الطموحات والفرص على المساعدين الصغار فحسب ، بل على الطلاب بشكل عام الذين اكتشفوا أن شهاداتهم لا تتيح لهم الوصول إلى الوظائف المتوقعة والمنشودة. وكانت النتيجة بروز التناقض و عدم التوافق بين الهابيتوس الطبقي وسوق العمل بالتزامن في عدد من المجالات ، بحيث تم مزامنة إيقاعاتهم الزمنية المتباينة عادة ، والاندماج في أزمة عامة ، أجريت في وقت وحيد عام ، مما أدى إلى حدث تاريخي عطّل الحس السليم .
هذه نسخة معادة من نظرية الحرمان النسبي التي قدمت ذات يوم الكثير لعلم النفس الاجتماعي ونظرية الحركة الاجتماعية. وهي لا تأخذ على محمل الجد فهم الفاعلين الذاتي لأنفسهم ، ولا حتى الموارد المتوفرة لديهم. مما لا شك فيه ، أن الانفصال بين الهابيتوس والميدان، والتوقعات والفرص، والرغبة والوضع ، هو دائمًا مصدر محتمل للتغيير ، ولكننا نحتاج إلى معرفة متى يؤدي ذلك إلى التكيف مع الحقل ، متى يؤدي إلى الابتكار ، و متى يؤدي إلى التمرد. في هذه الأثناء، ليس لدى نظرية بورديو الخاصة بالهابيتوس أي تقدم يذكر – حتى أقل من مقالة روبرت ميرتون (1968 [1947]) الشهيرة حول البنية الاجتماعية والشذوذ التي درست بشكل منهجي عواقب الفجوة بين الطموحات والإمكانيات ، ألا وهي التمرد و الطقوسية والانسحاب و الابتكار وكذلك المطابقة. و حسب بورديو، لا يزال الهابيتوس يمثل صندوقًا أسود ، ومع ذلك ، فإنه من الضروري التفكير في تأثيرات التنقل بين الحقول سواء على الفرد أو في تغيير الحقول نفسها.
يمكن الآن وضع النموذجين جنباً إلى جنب ومقارنتهما : تتعاقب لدى ماركس أساليب الإنتاج عبر التاريخ مع ديناميكيته المليئة بالتحديات والانتقال ، والتقدم الخطي غير المبرر نحو الشيوعية. وتتكون كليّة بورديو غير المحددة من حقول تعايش متناغمة مع علاقات متبادلة مترابطة غير مفحوصة وغير مفسرة. فإذا كانت المجموعة كوحدة متكاملة لدى ماركس محكومة بقاعدة متطورة بجدارة وبنية فوقية مفهومة بشكل ضعيف ، فإن تاريخ بورديو غير المحدد يمكن أن يُنظر إليه على أفضل تقدير وفي أحسن الأحوال على أنه تطور لمجموعة مختلفة من الحقول بدون آليات وميكانيزمات للدفع ، فهو يذكرنا بنماذج التفرقة لدى دوركهايم أو سبنسر ، أو مجالات القيم المتعايشة لدى ماكس فيبر. وهكذا ، وفقا لبورديو ، نراه يعتبر القبايلية مجتمعًا مختلفًا لا توجد فيه المجالات المنفصلة التي تتميز بها المجتمعات المتقدمة ، ولكن لا توجد أي نظرية تفسر كيفية انتقال المرء من المجتمع غير المتمايز (المتخلف) إلى المجتمع المتمايز (المتقدم). أو لوضعها بشكل أكثر تعقيدا وبعبارة أكثر صراحة: إذا كانت نظرية ماركس في التاريخ معيبة إلى حد كبير ، فإن بورديو لا يملك نظرية للتاريخ ، حتى وإن كان عمله متأصلا في التاريخ.
الهيمنة الرمزية: من الضعيف إلى القوي
إذا كان حس التحول الاجتماعي القوي لدى ماركس يقترن بتنظير ضعيف للهيمنة الرمزية، فإن بورديو، على النقيض من ذلك، قد أنتج نظرية قوية لإعادة الانتاج الاجتماعي تحمل في صميمها الهيمنة الرمزية. ومع ذلك ، لا يزال هناك تقارب غريب في الطريقة التي يتصورون بها الهيمنة الرمزية. دعونا نعود إلى كتاب الأيديولوجية الألمانية وإلى المقطع الأكثر اقتباسًا في هذا الكتاب.
إن أفكار الطبقة الحاكمة في كل العصور هي الأفكار السائدة: أي أن الطبقة التي تمثل القوة المادية الحاكمة في المجتمع هي في نفس الوقت القوة الفكرية الحاكمة. فالطبقة التي لديها وسائل إنتاج رهن تصرّفها، تسيطر في الوقت نفسه على وسائل الإنتاج الذهني ، فتكون بالتالي وبشكل عام أفكار أولئك الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج الفكري تحت سلطتها “. (التشديد مضاف) (ماركس وانجلز، 1978: [1845-46] 172)
هنا يتقدم ماركس وإنجلز من تجاوز الأيديولوجية – مقارنة بالعلم – إلى الآثار الحقيقية لتلك الأفكار الوهمية التي تعزز الحفاظ على هيمنة الطبقة المسيطرة. ومع ذلك ، من الصعب معرفة ما كان يقصده ماركس وإنجلز عندما كتبا أن الطبقة الخاضعة للهيمنة ، أي أولئك الذين لا يستطيعون الوصول إلى وسائل الإنتاج الذهني ، يخضعون للأفكار الحاكمة. يأخذ بورديو مسافة من هذه المسألة ويرى أن الخضوع عميق ولا رجعة فيه.
” إن العنف الرمزي هو الإكراه الذي ينشأ فقط من خلال الموافقة التي يمنحها الخاضعون للهيمنة إلى المهيمن (وبالتالي إلى الهيمنة ) عندما يستخدمون لفهم الوضع القائم والعلاقة أدوات المعرفة التي يشتركون فيها مع المسيطر ، كونها مجرد شكل مدمج في هيكل علاقة الهيمنة ، مما يجعل هذه العلاقة تبدو طبيعية ؛ أو ، بعبارة أخرى ، عندما تكون المخططات التي ينفذونها من أجل إدراك وتقييم أنفسهم أو إدراك وتقييم المهيمنين (مرتفع / منخفض ، ذكر / أنثى ، أبيض / أسود ، وما إلى ذلك) هي نتاج دمج التصنيفات (مما يجعلها محايدة) التي ينتج عنها وجودهم الاجتماعي .” (بورديو، 2000 [1997]: 170)
أوجه الشبه مذهلة ، غير أن بورديو يولي العنف الرمزي مركز اهتمامه. بالنسبة لماركس ، بالطبع ، لا يسود العنف الرمزي فقط على البني الفوقية ، بل هو موجود بقوة داخل القاعدة الاقتصادية نفسها وبنيتها التحتية. و هكذا فإن الاستغلال في حد ذاته محير وغير مفهوم بسبب طابع الإنتاج ذاته الذي يحجب التمييز بين العمالة الضرورية وفائض العمل لأن العمال يتقاضون أجراً طيلة يوم العمل بأكمله. فتفضي المشاركة في السوق إلى اشتهاء السلع حيث يتم فصل الاشياء التي نشتريها ونبيعها والأشياء التي نستهلكها عن العلاقات الاجتماعية والعمالة البشرية اللازمة لإنتاجها. ها هنا مرة أخرى يبدو جوهر الرأسمالية محيرًا وضبابيًا.
لكن ومع ذلك فبالنسبة لماركس ، فإن هذه التعابير عن الأيديولوجية ، سواء كانت الإيديولوجية أفكار سائدة أو تجربة معيشية ، تحل من خلال الصراع الطبقي ، مما يجعل الطبقة العاملة تدرك حقيقة الرأسمالية من جانب ودورها في تحويل المجتمع من جانب آخر!
“لا يتعلق الأمر بما يتصوره هذا أو ذاك البروليتاري أو حتى البروليتاريا ككل كهدف لها في الحاضر. إنّما هي مسألة تتعلق بماهيّة البروليتاريا في الواقع وما ستضطر إلى فعله تاريخيّا. يظهر هدفها وعملها التاريخي بشكل واضح ومباشر في وضع حياتها كما هو الحال كذلك في التنظيم الكامل للمجتمع البرجوازي المعاصر. فمن غير الضروري الإصرار على حقيقة أن جزءًا كبيرًا من البروليتاريا الانكليزية والفرنسية واعٍ بمهمته التاريخية، ويعمل باستمرار على إبراز هذا الوعي في وضوحه التام.” (من العائلة المقدسة في ، 1978: 134-135)
إن هذه الغائية المتفائلة تشوبها عيوب كثيرة. إذ ليس من السهل أن تقوم البروليتاريا بتخليص نفسها من “قذارة العصور”، على حد تعبير كارل ماركس و فريدريك إنجلز في كتابهما الايدولوجيا الألمانية (، 1978: 193). لا يأخذ الصراع الطبقي مسارا تصاعديا، مكثفًا نفسه وهو يتوسع، إلا في ظروف غير عاديّة. على النقيض من ذلك: فإن إيقاعه الثوري يتضاءل وتصبح نضالاته منظمة، في أغلب الأحيان، داخل إطار الرأسمالية، من خلال انتصاراته، ومن خلال التنازلات التي يفوز بها. في هذه الحالة، تلعب الدولة، التي قام ماركس بتحليلها، دورا رئيسيا وحاسمًا. في مثل هذا السياق، ينتصر العنف الرمزي المتأصل في الأيديولوجيات المهيمنة المدمجة في التجربة المعاشة على التأثير الطهوري للنضال.
ينتقد بورديو التراث الماركسي – وليس فقط ماركس – لتفاؤله الثوري، واصفا إياه بخيال فكري أو وهم مدرسي، ثم يثني العصا في الاتجاه المعاكس.
“ويظهر تأثير آخر من الوهم المدرسي عندما يصف الناس المقاومة ضدّ الهيمنة باستخدام لغة الوعي – كما يفعل التقليد الماركسي كله وكذلك المنظرون النسويّون الذين يفسحون المجال أمام الهابيتوس و يتوقعون أن ينتج تحّرر سياسي من خلال “نشر الوعي” – متجاهلين حالة الخمول غير الطبيعية التي تنتج عن ترسيخ البنى الاجتماعية في الجسد، لانعدام نظرية حاسمة للممارسة. و على الرغم من أن توضيح الأشياء يساعد بعض الشيء، إلا أنه لا شيء يعادل وجود منهجية متكاملة من التدريب المضاد ، كما هو الأمر بالنسبة لتدريب الرياضييّن، في عملية تحويل الهابيتوس بشكل دائم.” (بورديو، 2000 [1997]: 172)
ولكن كيفية هذا “التدريب المضاد” لم يتم التطرق إليها قط. ليس واضحًا ما إذا كان الصراع الطبقي شكلاً من أشكال “التدريب المضاعف” لأنّ بورديو لا يحبذ أبدا فكرة الصراع الطبقي و لا يسمح حتى “بالمقاومة الجماعية” للثقافة السائدة. فالطبقات العاملة مدفوعة بمقتضيات الضرورة المادية، مما يقودهم إلى الخروج بميزة مما هو في الأصل ضرورة . إنهم يتبنون أسلوب حياتهم الوظيفي بدلاً من رفض الثقافة السائدة. ولا تزال فكرة الثقافة البديلة تتجاوز إدراكهم لأنّهم لا يمتلكون الأدوات ولا وقت الفراغ الذي يسمح لهم بخلقها.”(بورديو 1984 [1979]: الفصل 7).
وبالتالي ، فإن بورديو ، بعد أن اعتبر الطبقات العاملة غير قادرة على استيعاب ظروف اضطهادها ، يجد نفسه مضطرا للبحث في مكان آخر عن طرق لتحدي الهيمنة الرمزية. بعد إعلانه القطيعة من وهم المنطق النظري الخاطئ للنظرية و تبنيه منطق الممارسة ، وبعد اكتشافه أن منطق الممارسة ليس أقل وهمية ، فإن بورديو يعود إلى منطق النظرية ، و تحررية علم الاجتماع ، وإلى النضال من داخل الطبقة المسيطرة. دعونا نتابع حجته!
من صراع الطبقات إلى صراع التصنيفات
في كتاباته على الفترة الفرنسية من 1848 إلى 1851 كان لدى ماركس تحليل معقد للنضالات بين أجزاء الطبقة المهيمنة التي لا يمكن تلخيصها هنا. يكفي القول أن المثقفين قد لعبوا دوراً هاماً. في فقرة موجزة في الأيدولوجيا الألمانية ، يستحضر فيها كارل ماركس وفريدريك انجلز انشقاقا داخل الطبقات المهيمنة ، بين فئتين هما الشق الاقتصادي والشق الفكري ، على النحو التالي.
إن تقسيم العمل يتجلى أيضًا لدى للطبقة الحاكمة على أنه تقسيم للعمل الذهني واليدوي ، حتى يكون لدينا فئتان من الأفراد ضمن نفس الطبقة بحيث يظهر جزء واحد داخل هذه الطبقة كمنظرين للطبقة (أي المفكرين الإيديولوجيين النشطين، الذين يجعلون من إتقان بيع وهم الطبقة عن نفسها مصدر رزقهم الرئيسي ) في حين أن موقف الآخرين من هذه الأفكار والأوهام أكثر استسلامًا وتقبلاً ، لأنهم في الواقع الأعضاء الفاعلون في الطبقية و ليس لديهم متسع من الوقت لتكوين الأوهام والأفكار عن أنفسهم . و في هذا الصنف يمكن أن يتطور هذا الانقسام إلى معارضة وعداء بين الجزأين. (ماركس وانجلز، 1978: 173)
وبدون الإشارة إلى ماركس ، يصنف بورديو هذه الأجزاء إلى المهيمن والمهيمن عليه في الطبقة المهيمنة ، ويعطي هذه الأخيرة بنية “شوكية” يتمتع فيها جزء واحد فقط برأسمال اقتصادي (ومنخفض نسبياً من ناحية رأس المال الثقافي) في حين يتمتع الآخر برأسمال ثقافي ( و منخفض نسبيا في رأس المال الاقتصادي ). يقر بورديو أيضا بهذا التعارض و يدرك أيضا الصراع بين الجزأين ، لكنه يطرح هذا الصراع باعتباره صراعًا على الفئات التمثيليّة ، وهو ما يطلق عليه صراعات التصنيف. رغم إدراك بورديو أن المثقفين هم مصدر الإيديولوجية الحاكمة، و هم “وَهْمُ الطبقة عن نفسها ” ، إلا أنه يرى أيضًا إمكانية توليدهم لثورة رمزية يمكنها أن تشكل “بنى أشدّ عمقًا للنظام الاجتماعي”.
وبالمثل فإن الفنون كذلك والأدب مما لا شك فيه يمكن أن يقدما للجهات المهيمنة بعض أدوات الشرعية القوية، إما مباشرة ، من خلال الاحتفال الذي يعقدونه ، أو بشكل غير مباشر ، خاصة من خلال العبودية التي يتمتعون بها ، والتي تكرس شرعية أيضا للمحتفلين بها. ولكن يصبح الفنانين أو الكتاب، بشكل مباشر أو غير مباشر، أصل الثورات الرمزية الكبيرة (مثل نمط الحياة البوهيمي في القرن التاسع عشر ، أو في الوقت الحاضر مثل ، الاستفزازات التخريبية للحركات النسائية أو الحركات المثلية) ، التي تكون قادرة على هزّ أعمق بنى الأنظمة الاجتماعية، مثل الأنظمة الأسرية، من خلال تحويل المبادئ الأساسية لتقسيم رؤية العالم (مثل التعارض بين الذكر / الأنثى) والتحديات المتطابقة للأدلة الذاتية للحس السليم. (بورديو 2000 [1997]: 105)
ليس من الواضح ما إذا كان “قلب الأوضاع ” هذا سيؤدي في الواقع إلى تقويض سيطرة الطبقة المهيمنة. ليس هناك حتى تلميح إلى أنه سيخلق فرصا للمهيمن عليه حتى يتحدى الاستبعاد. و على المرء أن يسأل، إذن، ما هي المصالح التي تكمن وراء أي “ثورة رمزية” كهذه؟
وبما أنهم الجزء المسيطر والسائد في الطبقة المهيمنة، فإن المفكرين يضحون في موقف متناقض. قد تتعرف أجزاء معينة على الطبقات المهيمنة وتحاول بالفعل تمثيل مصالح هذه الأخيرة. وعلى هذا النحو، قد يسعون حتى خلف أجندة معادية للطبقة المهيمنة ككل. و لكن في التحليل النهائي، هذا هو الوهم الفكري الذي يتقاسمون مصالحه مع المهيمنين حيث أن هناك القليل من الأساسيات للتواصل الدائم بين المثقفين الذين ولدوا من رحم المدرسية المرفهة وعمال ولدوا من رحم الحاجة الماديّة. فبدلاً من التحول إلى أية فرضية كونية من الأسفل ، يلتزم بورديو بما يسميه “الواقعية السياسية” (Realpolitik of Reason) ، أي السعي إلى تحقيق العالمية المرتبطة و المتجذّرة في طبيعة الدولة.
إنّ اولئك المتأثرين بماركس، الذين يعكسون الصورة الرسمية التي تسعى بيروقراطية الدولة إلى منحها لنفسها وتصف البيروقراطيين كغاصبين عالميين، مثل أصحاب الملكيات الخاصة بالنسبة للموارد العامة، وهم ليسوا مخطئين في ذلك. لكنهم يتجاهلون الآثار الحقيقية للإشارة الإلزامية في قيم الحياد والتفاني النزيه فيما يخص الصالح العام والذي يصبح أكثر فأكثر محتما على موظفي الدولة في المراحل المتعاقبة من العمل الطويل للبناء الرمزي الذي يؤدي إلى الاختراع و فرض التمثيل الرسمي للدولة كموقع العالمية و كخدمة للمصلحة العامة (بورديو، 2000 [1997]: 124)
يستحضر بورديو في هذا المقطع الملحوظ ، الذي كتبه بالتوازي مع انتقاده للدولة الفرنسية لمواصلة انتهاكها للوظيفة العامة ، التي تقوم فيها اليد اليمنى للدولة بإزاحة اليد اليسرى ، حيث واصلت الدولة بكل علنيّة اتباع هجوم عنيف على الطبقة العاملة ، “التفاني النزيه للصالح العام ” الذي سيفرض نفسه في النهاية ضد مغتصبي الدولة. ستصبح الدولة حاملة للمصلحة العامة على المدى الطويل ، و لكن كيف؟
إن فكرة الكونية لن تسود ببساطة لأنها فكرة مثالية وجذابة و تشكل نموذجًا مغر – فهي من شأنها أن تكون أسوأ شكل من أشكال المثالية – ولكن لأن هناك بعض المجالات والحقول من خلال أدائها ، بحكم صراعاتها الداخلية ، تؤدي إلى الالتزام بالعالمية.
في الواقع ، إذا لم يكن المرء ، في أحسن الأحوال ، منغمسًا في طوباوية لا مسؤولة ، والتي لا يكون لها في الغالب أي تأثير آخر سوى الحصول على النشوة قصيرة الأجل من الآمال الإنسانية الجميلة ، والتي تكون دائمًا قصيرة مثل فترة المراهقة ، والتي تنتج تأثيرات سيئة تمامًا في حياة البحث كما في الحياة السياسية ، فأرى أنه من الضروري التفكير في العودة إلى رؤية ” واقعية ” للعوالم التي يتم فيها إنشاء العالم . أن نكون راضين ، كما يريد أن يكون المرء ،بإعطاء العالمية مرتبة ” الفكرة التنظيمية “، القادرة على اقتراح مبادئ العمل ، يعني أن ننسى أن هناك عوالم يصبح فيها ” تأسيسها و قوامها ” مبدأً جوهريًا للتنظيم ، مثل المجال العلمي ، وإلى حد أقل المجال البيروقراطي والمجال القضائي ؛ وبصورة أعم ، بمجرد الإعلان عن المبادئ التي تدعي الصلاحية العالمية (تلك الديمقراطية على سبيل المثال) والمعلن عنها رسمياً ، لم يعد هناك أي وضع اجتماعي لا يمكن أن تخدم فيه على الأقل أسلحة رمزية في صراعات المصالح أو كأدوات نقدية للذين لديهم مصلحة ذاتية في الحقيقة والفضيلة (مثلما، في الوقت الحاضر ، كل هؤلاء ، خاصة في النبلاء القاصرين للدولة ، الذين ترتبط مصالحهم بالتطورات العالمية المرتبطة بالدولة والقانون). (بورديو، 2000 [1997]: 127)
دعونا نذكّر بأن بورديو يبدأ في رحلته بنقد العقل المدرسي الذي يخطئ في إدراك حقيقة الطرق التي تكون فيها النماذج النظرية ، مثل نماذج “الاختيار العقلاني” أو “الديمقراطية التداولية” هي مجرد إسقاطات و توقعات للظروف المحددة للغاية التي يتم بموجبها إنتاج المعرفة. بعد التحول من هذا المنطق الخاطئ للنظرية إلى منطق الممارسة، ليكتشف أنه هناك خطأ وسوء في التقدير، يعود بورديو إلى نفس الأفكار العالمية، التي أنتجت في المجالات العلمية والقانونية والبيروقراطية ، والتي لطالما أثار حولها التساؤلات باعتبارها مغالطات مدرسية – و نتاج الظروف الخاصة لإنتاجها. ولكنه الآن يتحول إليها على أنها قاعدة الأمل للبشرية.
لقد عدنا إلى عصر التنوير، مع وجهة نظر هيغل عن الدولة التي انتقدها ماركس على أنها تقدم تصورًا كونيًا زائفًا يخفي مصالح الطبقة المسيطرة من خلال تقديمها كمصالح للجميع. ليس فقط ماركس، لكن فيبر أيضاً ، رأى مخاطر أن تصبح هذه الكونية عقلانية رسمية ، وبالتالي ، تقود إلى هيمنة مثالية . يمكننا أن نرى هذا الإيمان التنويري في اقتراح بورديو إنشاء رابطة دولية للمثقفين ، مع الاعتراف بأنهم هيئة اعتبارية ذات مصالح خاصة ، ولكن في نفس الوقت باعتبارهم حاملي فكرة الكونية ، وجسد العالمية. وهم ما أطلق عليهم ألفين غولنر (1979) الطبقة العالمية المعيبة. لكن بورديو لم يكن ينظم المثقفين فحسب، بل من المفارقات أنه كان يتم العثور عليه أيضًا في طوابير اعتصام العمال المضربين ، وكان يعظهم عن شرور النيوليبرالية – حتى عندما ادعى أنهم لا يستطيعون فهم ظروف اضطهادهم. لا يختلف بورديو عن الناس الذين درسهم في أنه خلق فجوة بين نظريته وممارسته ، خاصة عندما قادته نظريته إلى طريق سياسي.
الخاتمة
انطلق كل من ماركس وبوردو من مقدمات و أسئلة مماثلة ، لكن انتهى بهما المطاف في أماكن و مواقف مختلفة. كلاهما يبدأ بانتقاد الأوهام الفكرية أو المغالطات المدرسية والتي تميز دور الأفكار في صنع التاريخ. وكلاهما يتجه إلى منطق الممارسة ، ولكن بينما يظل ماركس متشبثا و ملتزما بمنطق الممارسة ، ويرى فيه تحررًا مستقبليًا يتحقق من خلال ثورة الطبقة العاملة ، يرى بورديو منطق الممارسة على أنه طريق مسدود ، غارق في الهيمنة. لذا ينأى بنفسه عن منطق الممارسة ، ويعود إلى ممارسة المنطق ، وإلى الإيمان بالعقل سواء متجسدًا في رابطة دولية من المثقفين أو في كونية الدولة. باختصار ، قصارى القول هنا ؛ إذا كان بورديو يبدأ باعتباره ناقدًا للفلسفة وينتهي به المطاف كهيغلي ، مؤمنًا بكونية العقل ، فإن ماركس يبدأ أيضًا كناقد للفلسفة لينتهي في نهاية المطاف إلى تسليط الضوء حول إنتاج المواد ولكن دون اعتبار أو مكانة في تحليله للمفكرين أو لنفسه. لا يستطيع ماركس أن يفسر كيف أنتج نظريته عن الرأسمالية وهو جالس في المتحف البريطاني بعيدًا عن الطبقة العاملة يمارس الكتابة في مكان بعيد عن تجاربهم. هكذا نجد أنفسنا عالقين في المعضلة التالية: مثقفون من دون تابعين أو تابعون دون مثقفين.
يعترف كلاهما بالمعضلة، ولكن في الممارسة، يخرج
كل منهما عن نظريته:
ينضم
بورديو إلى العمال كحلفاء في النضال ضد الدولة ،
بينما يخوض ماركس المعارك و الجدل مع المثقفين وكأن مصير العالم يتوقف على
ذلك. هل يمكننا التقريب بين النظرية والممارسة؟ يسعى غرامشي من خلال نظريته حول
الهيمنة والمثقفين إلى القيام بذلك تحديدًا، في محاولة لتجاوز المعارضة النظرية:
الإيمان بالتابعين من جهة وبالمثقفين من جهة أخرى. في المحادثة القادمة سنرى كيف
يفعل ذلك ، وأين سيترك هذا بورديو.
*لمزيد التعمق في هذه الجدلية يمكن الاطلاع على:
بورديو، بيير (ترجمة نظير جاهل): العنف الرمزي؛ بحث في أصول علم الاجتماع التربوي، المغرب، المركز الثقافي العربي، 1994.
ماركس، كارل وإنغلز، فريدريك: الأيديولوجيا الألمانية؛ مصادر الإشتراكية العلمية، بدون ذكر مترجم، بيروت، دار الفارابي، 2016.
الهوامش
[1] هو مجموعة من التصرفات المستفادة اجتماعيا، والمهارات وطرق العمل، التي غالبا ما تتخذ من المسلمات، والتي يتم الحصول عليها من خلال أنشطة وتجارب الحياة اليومية. يعدُ مفهوم “الهابيتوس” من المفاهيم الراسخة في نظرية بورديو في مجال الأنساق التربوية. وقد تناول هذا المفهوم واستخدمه لأول مرة في كتابه نظرية الممارسة (Esquisse d’une théorie de la pratique) في ثمانينات القرن الماضي. يترجم هذا المصطلح في العربية بلفظ الخلقة أو السجية التي توجه السلوك توجيها عفويا وتلقائيا ويأخذ هذا المفهوم أهميته في نسق المفاهيم المركزية عند بيير بورديو مثل الحقل والرمز والعنف الرمزي (المترجم).
[2] يقصد بالسلطة التنظيمية للذات سلطة التوليد والتنظيم.
[3] الأدب من أجل الادب، أو الفن من أجل الفن، هي أطروحات ونظرية تجرد الفنّ والأدب من أي ملابسات فكرية أو فلسفية أو دينية أو طبقية، بمعنى أن يكون الفنّ بمعزل عن جميع التأثيرات (المترجم).
[4] التلكؤ مصطلح فيزيائي ، و يستخدمه بورديو هنا للحديث عن خاصية للنظم تتمثل في تأخر استجابة النظام للقوى المطبّقة عليه، و تعتمد استجابة هذه النظم على القوى التي أثرت عليها سابقاً ، و تطرأ عليها تغيرات في بنيتها لا تختفي تمامًا بعد إبعاد المؤثر عنها ، أي تعتمد صفاتها على تاريخ معالجاتها (المترجم).
المراجع
P. Bourdieu, 1991 [1984]. ‘Social space and the genesis of “classes”.’ In Language and Symbolic Power, pp. 229–51. Cambridge, Mass.: Harvard University Press.
P. Bourdieu, 1975. ‘The specificity of the scientific field and the social conditions of the progress of reason.’ Social Science Information, 14(6): 19–47
P. Bourdieu, 1984 [1979]. Distinction: A Social Critique of the Judgment of Taste. Cambridge, Mass.: Harvard University Press
P. Bourdieu, 2000 [1997]. Pascalian Meditations. Stanford: Stanford University Press.
P. Bourdieu, « social space and the genesis of groups», Theory and Society, vol. 14, no 6 (Nov, 1985) pp.723-744
P. Bourdieu, 1977 [1972]. Outline of a Theory of Practice. Cambridge: Cambridge University Press.
P. Bourdieu, 1996 [1992]. Rules of Art: Genesis and Structure of the Literary Field. Stanford: Stanford University Press.
P. Bourdieu, 2005. The Social Structures of the Economy. Cambridge: Polity Press
P. Bourdieu, 1988 [1984]. Homo Academicus. Cambridge: Polity Press
P. Bourdieu, 2001 [1998]. Masculine Domination. Stanford: Stanford University Press.
Merton, Robert. 1968 [1947]. ‘Social structure and anomie.’ In Social Theory and Social Structure, pp. 185–214. New York: Free Press.
Marx, Karl & Friedrich Engels. 1978 [1845–46]. ‘The Holy Family.’ In R. Tucker (ed.), The Marx-Engels Reader, pp. 594–616. New York: Norton
Marx, Karl & Friedrich Engels. 1978 [1845–46]. The German Ideology. In R. Tucker (ed.), The Marx-Engels Reader, pp. 146–200. New York: Norton
Gouldner, Alvin 1979. The Future of the Intellectuals and the Rise of the New Class. New York: Seabury Press
ترجمة رائعة جدًا لدراسة تفيد الباحث العربي وقد جاءت في موعدها