ترجمة: لجين اليماني. مراجعة: أحمد العوفي.
نسخة PDF | نسخة PDF للجوال |
موجز المترجمة:
تسعى ويندي براون، من خلال معالجتها لسؤال الجدوى من خطاب الحقوق الليبرالي بالنسبة للمرأة في الولايات المتحدة، إلى لفت النظر إلى ماهو أبعد من الإجابات الثنائية التي يفرضها السؤال في صيغته الحالية، أي الإشكال البنيوي الذي يوقع خطاب الحقوق بشكل عام، وحقوق النساء بشكل خاص، في مأزق المفارقة؛ وهو ما تناقشه براون في هذه الورقة. لا تكتفي الكاتبة بمعالجة الإشكالات النظرية في الصياغة الحالية للحقوق الليبرالية عن طريق محاورة أفكار مجموعة من المنظرين النقديين ، بل تقوم باستحضار أمثلة من الواقع الأمريكي لتبين من خلالها كيف يمكن أن يكون الحق ذاته سلّمًا لخلاصنا أو سورًا يحول بيننا وبينه. تناقش براون أبعاد المفارقة التي تكتنف المطالبة بحقوق المرأة من نواح مختلفة، كما تقوم بتفكيك المعضلات التي ينتجها خطاب الحقوق الليبرالي في مسائل شائكة كالإباحية وقوانين التحرش الجنسي. في معرض ذلك، تسلط براون الضوء على مفارقتين تتعلقان بصياغة النسوية لأهدافها من خلال مناقشة التنظير النسوي حول التقاطعية والخلط بين الهوية والفعل. وهي لا تقدم حلاً لهذه المفارقة أو مخرجًا منها، بل تكييفًا مغايرًا من شأنه أن يفتح مجالات جديدة جديرة بالنضال السياسي والعمل الفكري.
الإحالة إلى المقالة الأصلية:
Brown, Wendy. “Suffering rights as paradoxes.” Constellations 7.2 (2000): 208-229.
من الصعب الإقرار بأن التمكين الذي تقدمه لنا الفردانية الليبرالية هو تمكين انتهاكيّ.
غاياتري تشاكرافورتي سبيفاك[1]
إن هذه الورقة لا تتبنى موقفًا داعمًا أو مناهضًا للحقوق، بل تسعى إلى رسم خارطة لبعض المشكلات المحيّرة المحيطة باستخدام الحقوق لمواجهة والتعبير عن عدم المساواة والخضوع الذي تتعرض له النساء في الأنظمة الدستورية الليبرالية. تجيب الورقة على السؤال الذي طرحه منظمو الجلسة في أحد لقاءات الجمعية الأمريكية للفلسفة والتي كان عنوانها ” ما هي أهمية اللغة الحقوقية بالنسبة للنساء؟” ورغم أنه سؤال تستحيل الإجابة عليه من نواح عدة، وخاصة إذا لم تُعِد تشكيله الخصوصيةُ التاريخية والسياسية والثقافية، إلا أنني اعتبرته فرصة للتفكير، بشكل عام جدًا، في العلاقة المعقدة بين بعض الطموحات النسوية المعاصرة وخطاب الحقوق في الولايات المتحدة. إن هناك حاجة سياسية عاجلة لدراسة هذه العلاقة، يمليها انتقال موقع النضال، من الشارع إلى قاعة المحكمة، بالنسبة للعديد من الحركات الاجتماعية على مدار العقدين الأخيرين. وإذا أصبح معظم النضال ضد هيمنة الذكر والممارسات الكارهة للمثليين والعنصرية اليوم محصورًا في مجال دعاوى الحقوق والدعاوى المضادة لها بشكل يتعذر التراجع عنه، فما هي مخاطر هذا الحصر وما هي إمكاناته؟
في حديثها عن المحرومين بشكل فضفاض عابر للثقافة، تصور غاياتري سبيفاك الليبرالية (وغيرها من البنى التحررية الحداثية) بأنها “تلك التي لا نستطيع ألا نريدها”.[2] يصدر هذا عن ناقدة نسوية ماركسية دريدية ما بعد-كولونيالية تدرك تمامًا ما لا تستطيع الليبرالية الوفاء به، كما تدرك وحشيتها المخبئة وما تخفيه من علاقات قوة لا تحررية داخل صياغاتها الساطعة للحرية والمساواة. بالفعل، إن لغة سبيفاك تقترح حالة من التقييد المتطرف في إنتاج رغبتنا إلى الحد الذي ربما يقلب هذه الرغبة على نفسها، مما يحرمنا الأمل في لغة لا نستطيع أن نهرب منها ولا أن نطوعها لصالحنا. تعيد باتريشا ويليامز تصوير حالة التورط هذه باعتبارها قابلة للمفاوضة عبر استخدام المجازات الشاذة (catachresis) الدراماتيكية. ولكي تحرر الحقوق من سطوة حِيَلها المعتادة، أي تجريديتها المضللة وكونيتها (universalism) الإقصائية، فإنها تصرّ على ضرورة ضمان الحقوق “للعبيد.. الأشجار.. البقر.. التاريخ… الأنهار والصخور.. وجميع أشياء المجتمع ومنبوذيه”.[3] تجادل دروسيلا كورنيل بالتوازي مع ويليمز، وإن يكن بلهجة خاصة مختلفة، بأن حق النساء في “حد أدنى من شروط التفردية ” وبحقهن تحديدًا في مجال تخيلي لا يكون فيه استخدام زمن المستقبل التام (future anterior) بعيدًا عن متناول النساء، لهو الطريق الأوثق لتحقيق التوازن في عملية المقايضة بين الحرية والمساواة والتي يُتصوَّر بشكل عام أن خطاب الحقوق الليبرالي يفرضها.[4] ولكن على الرغم من النقدية الطوباوية في تَقارُب كل من ويليمز وكورنيل مع خطاب الحقوق، إلا أنها تتضمن اعترافًا مضمرًا يستدعي إقرار سبيفاك الضجِر بالمحدودية التاريخية لخيالنا السياسي. وباعتبارنا مجبرين على أن نحتاج ونريد الحقوق، فهل تقوم الحقوق وبشكل حتمي بتشكيل رغبتنا والقضاء عليها دون إشباعها؟
في ظل بقاء وجود النساء محفوفًا بأوضاع متزعزعة ومشحونة في عالم تحكمه بنية عنيدة واستغلالية للاختلاف الجنسي باعتباره خضوعًا، فبالتأكيد ستبدو الحقوق ذلك الشيء الذي لا يمكننا ألا نريده. إنّ انعدام حريتنا النسبي في مسألة الإنجاب، وتشييئنا وإمكانية انتهاكنا جنسيًا، وسِمَة القابلية للاستغلال في عملنا المدفوع وغير المدفوع، وهشاشتنا تجاه التعرض لخسارة أطفالنا ووسائل رزقنا ومكانتنا الاجتماعية حين نقاوم نظام الغيرية الجنسية (heterosexualiy) القسري- كل ذلك يتطلب إصلاحًا إذا كنا نريد حشد القوة والنفوذ لخلق عالم أكثر عدلًا بدلاً من الاكتفاء بالبقاء على قيد الحياة. إن مجموعة الحقوق التي اكتسبتها النساء في هذا القرن – حقنا في التصويت والعمل والطلاق والاحتفاظ بالأطفال عندما نحيد عن المعايير الجنسية السائدة، وألا يتم التحرش بنا في العمل والمدرسة، وحق التساوي في الحصول على الفرص الوظيفية، والتساوي في الأجر المدفوع للأعمال التي نقوم بها جنبًا إلى جنب مع الرجال، وحق مقاضاة العنف الجنسي دون تعريض حياتنا الجنسية للمحاكمة، وتقرير الوقت والكيفية وفيما إذا كنا نريد الإنجاب، وحق أن تكون بيوتنا خالية من العنف – جميعها أشياء لا يمكننا ألا نريدها. وإن تكن لازالت هذه المكتسبات ضعيفة وجزئية فإن مطالبتنا بها كحقوق ستكون بالتأكيد محرضًا على تثبيتها كممتلكات.
ومع ذلك، فإن قائمة ويلاتنا التاريخية والإصلاح الطفيف الذي نالها خلال القرن الأخير عبر التكاثر الحاصل لحقوق المرأة، تستحضر هي الأخرى أن الحقوق غالبًا ما تعمل كمخفف -وليس كحل- لقوى الإخضاع. وبينما يمكن للحقوق أن تُضعف سطوة العنف والتبعية التي تكون النساء عرضة لها في نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي ذكوري، إلا أنها لا تتغلب على النظام نفسه أو على آليات إعادة إنتاجه. كما لا تلغي الحقوق هيمنة الذكر حتى وإن كانت تخفف بعضًا من آثارها. وهذا التخفيف ليس مشكلة في ذاته: فإذا كنت تتعرض للعنف، فإن أي وسيلة لتقليصه قيِّمة. تظهر المشكلة عند السؤال عن متى وفيما إذا كانت صياغة الحقوق للنساء تتم بشكل يمكّن المضطهَدة من الإفلات من موقع العنف ذاك، وعن متى وفيما إذا كانت تبني سورًا حولنا في ذلك الموقع، ينظّم العنف بدلاً من أن يتصدى له. إن المفارقة في هذه المشكلة هي أنه كلما زاد تحديد هذه الحقوق كحقوقٍ للنساء، كلما زاد احتمال بناء ذلك السور بقدر ما تزيد احتمالية أن تصوغ هذه الحقوق تعريفًا للنساء مبنيًا على خضوعنا في الخطاب عبر-التاريخي لفقه القانون الليبرالي. ومع ذلك فالعكس أيضًا صحيح، وإن يكن لأسباب مختلفة، فكما تصر كاثرين ماكينون، كلما كان الحق (أو أي قانون أو سياسة عامة) أكثر حيادية أو عماءً تجاه الجندر، كلما زاد احتمال تعزيزه لامتيازات الرجال، وحجبه لاحتياجات النساء كتابعات.[5] لقد قدم كلٌّ من تشيرلي هاريس ونيل غوتاندا حجة مشابهًة فيما يخص مسألة العرق والدستور “الأعمى تجاه اللون”.[6]
يمكننا أن نفهم الجزء الأول من المفارقة باعتبارها المشكلة التي صورها فوكو ببراعة فائقة في صياغته القوى التنظيمية للهوية وللحقوق المبنية على الهوية، فأن يكون لك حق كامرأة لا يعني أن تكوني حرة من التعيين والإخضاع الجندري. عوضًا عن ذلك، بينما يمكن أن توفر الحقوق بعض الحماية من أكثر السمات المعيقة التي ينضوي عليها هذا التعيين، إلا أنها تؤكد التعيين في ذات الوقت الذي تحمينا فيه، وبالتالي تسمح بتنظيمنا وضبطنا أكثر من خلال هذا التعيين. لقد قدمت الحقوق المتراوحة بين حق إجهاض الحمل غير المرغوب به إلى حق الترافع في قضايا التحرش الجنسي هذه المعضلة: نحن نتعرض للاستجواب كنساء حين نمارس هذه الحقوق، ليس فقط من قبل القانون بل وجميع الوكالات، والعيادات، والموظفين، والخطابات السياسية، والإعلام الجماهيري، إلخ الذين تستثيرهم ممارستنا لمثل هذه الحقوق. إن البعد التنظيمي للحقوق المبنية على الهوية يَبرُز إلى درجة يستحيل معها توظيف الحقوق بشكل حر، بل عبر سياق خطابي دائمًا، وبالتالي معياري، وهو بالتحديد السياق الذي يتم تعريف “المرأة” (وأي مجموعة هوية أخرى) فيه وإعادة تعريفها.
أما المفارقة الأخرى فهي تلك التي أبرزتها الانتقادات الماركسية والنيوماركسية لليبرالية: في الأنظمة غير المتساوية، تقوم الحقوق بتمكين المجموعات الاجتماعية المختلفة بشكل متفاوت، اعتمادًا على قدرة كل مجموعة على حشد القوة التي ينطوي عليها هذا الحق. ليس المقصود أن الحقوق الموزعة بشكل عام لا تقدم شيئًا للمنتمين للطبقات الأقل حظًا في تلك الأنظمة -حقوق التعديل الأول للدستور الأمريكي تقدّم شيئًا ما للجميع- ولكن المقصود، كما أشار عدد لا يحصى من النقاد، أن امتلاك موارد اجتماعية أكثر والتمتع بهشاشة اجتماعية أقل عند ممارسة حق ما، كفيل بأن يضاعف القوة التي ستُحصَد من تلك الممارسة، سواء كان ذلك الحق هو الحرية الجنسية، أو الملكية الخاصة، أو حق التعبير، او الإجهاض. ومع ذلك، تبقى هنالك أحجية أخرى مؤثرة: فبالقدر الذي تتم ممارسة الحقوق فيه، ليس فقط في مواجهة الدولة، بل في مواجهة الناس بعضهم البعض، داخل ترتيبات اقتصادية يكسب فيها البعض على حساب آخرين، فإن الحقوق الموزعة بشكل كلّي تعمل ليس فقط كمصدر قوة وإنما حرمان أيضًا: أي أن حق الملكية الخاصة يصبح أداة لمراكمة الثروة عبر إنتاج فقر شخص آخر. يجادل بعض فقهاء القانون النسوي ومفكرو نظرية العرق النقدية أن حرية التعبير تعمل بشكل مشابه: يقال أن خطاب الكراهية الموجه ضد الجماعات المضطهدة تاريخيا وخطاب الإباحية الذكوري يحشدان الصمت تجاه الأفراد المعنيين بهما. لقد جادل الناشطون المناهضون للإجهاض أن حق النساء في الإجهاض يحد من حق الجنين في مستقبله كشخص، كما أن المدافعين عن تقييد استخدام السلاح جادلوا أن القراءة القطعية للتعديل الثاني للدستور من شأنها أن تهدد سلامة جميع المواطنين. إن المقصود هو أنه على الرغم من كون الحقوق الجندرية تعزز تنظيم وضبط النساء عبر المعايير التنظيمية للأنوثة، فإن الحقوق المحايدة والكلّية قد تعزز الوضع التبعي للنساء عبر مراكمة القوة لدى من يمتلكونها أصلاً. تكمن المفارقة هنا في أن الحقوق التي ينتج عنها شيء من الإشارة الواضحة لمعاناتنا وجراحنا وعدم المساواة الذي نتعرض له، هي ذاتها تحبسنا داخل الهوية المعرَّفة بناء على خضوعنا، بينما لا تكتفي الحقوق الأخرى التي تتجنب الإشارة لمعاناتنا بالمحافظة على لامرئية خضوعنا وحسب، بل وربما تقوم بتدعيمه.
لا تزال هناك تنويعات أخرى لهذه المعضلة. انظروا كيف تبدو المُصلحات القانونيات النسويات عادة عالقات، من ناحية، بين نزعة لتضمين القانون تجربة بعض النساء وحقائقهن الخطابية، والتي يُعتقد بعد ذلك أنها تمثل جميع النساء، ومن ناحية أخرى لجعل الجندر شديد التجريد إلى الحد الذي تبقى فيه التفاصيل التي تشكل الانتهاك وعدم المساواة الذي تتعرضان له النساء غير مطروحة أو معبّر عنها بوضوح. إن هذه مشكلة متكررة ليس فقط في النقاشات القانونية والسياسية التي تتعلق بالإباحية والتي نوقشت فيها المشكلة بإسهاب، بل وفي قانون التحرش الجنسي والكثير من زوايا قانون الطلاق والحضانة. مالذي نفقده من فهمنا للقوى التكوينية المتداخلة للجنس والجندر حين نصور التمييز الجنسي (كالتحرش الجنسي) باعتباره شيئًا يمكن للنساء أن يفعلنه للرجال؟ وفي المقابل، ما هو الافتراض الذي نصل إليه من أن اضطهاد النساء بواسطة الجنس شيء فطري وكامن، حين نفهم التحرش الجنسي باعتباره موقعًا للتمييز الجندري الذي لا يحدث إلا للنساء فقط؟ مالذي تخسره النساء – في وضعهن الاقتصادي ودعاوى الحضانة- حين تتم معاملتهن كنظيرات للرجال في محاكم الطلاق، وماهي فرصة أن تزيد إمكانية تساويهن مع الرجال – في تشارك مسؤوليات تربية الأطفال وفي تساوي إمكانية الحصول على سلطة –إذا لم تتم معاملتهن كنظراء في هذا الإطار؟ وبالمثل، إذا كانت بعض النساء تعتبر الإباحية انتهاكًا بينما ترى أخريات أن هذا تزمت جنسي، وتعيير وضبطٌ لهن يساهم في نزع حرياتهن، فمالذي يعنيه أن نجعل هذا الرأي أو ذاك حقًا باسم دعم مساواة المرأة؟ لقد أبرز قانون خطاب الكراهية معضلة موازية: ففي حين تصر ماي ماستودا أن خطاب الكراهية العنصري “يحطِّم” و “يقيد ضحاياه في حريتهم الشخصية”، ويزعم تشارلز آر لورنس الثالث أن خطاب الكراهية مماثل ” لتلقي صفعة في الوجه”، فإن هينري لويس قيتس وآخرون لديهم تقييم مختلف للإهانة العنصرية ويخافون تقييدها قانونيًا أكثر مما يخافون انتشارها.[7]
في معضلة الإباحية ومعضلة خطاب الكراهية، تبرز مشكلتان مرتبطتان ببعضهما: أولاً، كيف نحدُّ خطاب الكراهية أو الإباحية باسم المساواة ومن خلال خطاب الحقوق المدنية، دون أن نطبع ضحايا خطاب الكراهية باعتبارهم ضحاياه الدائمين، أي، باعتبارهم مكروهين دائمًا، ومن جهة أخرى، دون أن نجعل الجميع متساوين في قابليتهم لأن يكونوا ضحايا لهذا الخطاب، فنخسر بالتالي التحليل السياسي الذي يعترف بالوظيفة المحددة لنعوت الكراهية في إدامة اضطهاد الجماعات المضطهَدة تاريخيًا؟ بكلمات أخرى، كيف يمكن تأمين الحقوق بشكل يحرر أشخاصًا معينين من الأضرار التي ينتجها العمل الإباحي وخطاب الكراهية، وتاريخ من الاضطهاد، دون أن يجسّد الهويات التي تنتجها هذه الأضرار نفسها؟ ثانيًا، كيف نجتاز صعوبة الاختلافات داخل المجموعات الموسومة فيما بينها -هذه المرأة تشعر بالاضطهاد بينما تشعر تلك المرأة بالتحرر من خلال الإباحية؛ هذا الشخص الأسود محطّم، بينما يبدو آخرٌ لا مبالٍ بالإهانة العنصرية؛ هذا الرجل المثلي تحطمه الشتائم المعادية للمثلية فرضيًا، بينما يتلفظ بها آخر كتعبير للتضامن المثلي.
هناك معضلة ثانية، مرتبطة بالأولى أعلاه، وهي أن الحقوق التي يتم تخصيصها للنساء بشكل خاص تميل إلى ترسيخ الغيرية باعتبارها تعرّف معًا، ماهية النساء، والجوانب التكوينية لضعف النساء وقابليتهن للتعرض للانتهاك. تظهر هذه المشكلة كلما يبدو أن “اختلاف المرأة” موضوع تجب معالجته. بالفعل، يغلب التعامل مع الجندر باعتباره مرادفًا للغيرية في نظر القانون، ليس فقط لأن معظم ” مشاكل الجندر” تتم صياغتها بالنظر إلى النساء الغيريات، ولكن أيضًا لأن الجنس والجنسانية يُعتبران أساسان مختلفان للتمييز العنصري. إن صياغة الحرية التناسلية بشكل أساسي ضمن اعتبارات الحمل غير المقصود أو غير المرغوب به- الحاجة للإجهاض- تمثل المشكلة الأولى؛ بينما تمثل قوانين مناهضة التمييز التقليدية، والتي يعتبر فيها الجندر والتفضيل الجنسي أمران مختلفان وغير مرتبطان، المشكلة الثانية. بالطبع، إن الإصلاحات القانونية التي تعمل لمصلحة حقوق المثليين قد سعت وبشكل نشط لإصلاح القوانين المرتبطة بالإنجاب والتبني، والوصاية بالنسبة للوالدين المثليين، كما ناضلت أيضًا لتسلط الضوء على التحرش الموجه ضد المثليين في المدارس وأماكن العمل، ومع ذلك فهذا يؤكد فقط إلى أي مدى يتم فهم هذه المشاكل، التي تُعرّف كمشاكل خاصة بالمثليين، باعتبارها منفصلة عن مشروع تأمين حقوق النساء. ليست المشكلة هنا استمرار تطبيع الغيرية عبر هذه التحركات في مقابل تهميش الجنسانيات الأخرى، بل أن هذه المقاربة لا تتعرض إطلاقًا إلى كون هذا النوع أي “المرأة” نفسه يتم انتاجه عبر معايير غيرية. باختصار، إن العملية التي تصبح النساءُ نساءً من خلالها، والتي من خلالها أيضًا يتم انتاج وتأكيد المرأة كدالّ وكنتيجة لقوى الجندر، هذه العملية يتم تجنّب التطرق لها وبالتالي تكريسها بواسطة المعيارية الغيرية التي تميز معظم مشاريع حقوق النساء. ولكن بشكل أكثر عمومًا، فإن الحقوق التي تتمتع بها النساء وتمارسنها كنساء تميل إلى توطيد المعايير التنظيمية للجندر، مما يجعلها تعمل بشكل متنافر وغير متسق مع محاولة التصدي لهذه المعايير.
لقد برزت هذه المشكلة بشكل معقد في القضية التي نُظرت مؤخرًا أمام المحكمة العليا الأمريكية فيما يخص التحرش الجنسي بنفس الجنس، والتي ادعى فيها رجل أنه قد تعرض بشكل متكرر للتحرش الجنسي من قبل رجال آخرين على نفس منصة النفط البحرية المعدّة للرجال فقط والتي كان يعمل بها. جادل المدعي في أونكال ضد صنداونر للخدمات البحرية رقم ٩٥-٥٦٨ أن التحرش بنفس الجنس لابد أن يشكّل تمييزًا بينما ادعى الخصم أن تحرش رجل بآخر لا يمكن أن يشكل تمييزًا جندريًا، إما لأنه لم يكن ثمة اختلاف في الجندر بين الطرفين أو لأنه لا يمكن إثبات أن التحرش بالضحية قد حدث بسبب الجندر الخاص به. ادعى الخصم أنه (لو كان هناك نساء على متن المنصة النفطية في موقع التحرش، فلربما قام المتحرش المفترَض بمعاملتهن بنفس الطريقة.)[8] إن الأسئلة التي تطرحها هذه المحاججة والتي قام بطرحها قضاة المحكمة العليا أنفسهم، كثيرة: هل تطرأ مسألة التمييز الجندري فقط حين تتم معاملة النساء والرجال بشكل مختلف، حتى وإن تم اضطهاد الاثنين وإهانتهم جنسيًا؟ هل ينتفي التحرش الجنسي، أو ينتفي ببساطة التمييز الجندري، حين يقوم أحدهم بإهانة الرجال والنساء معًا؟ وهل ينتفي التحرش الجنسي، بتعريفه تمييزًا جندريًا، إذا تم إيقاعه بشكل متساوٍ على الرجال والنساء بواسطة نفس الفاعل؟ أي، هل يُعتبر ثنائيو الميل الجنسي (bisexuals) غير قادرين بالضرورة على اقتراف فعل التحرش الجنسي؟ وإذن، هل يعتمد التحرش الجنسي كما هو معّرف في القانون على الميل الجنسي للمتحرش المفترَض؟ إن التشويش الذي يلف هذه القضية يشير من بين عدة أشياء، إلى عيب في تصوير التحرش الجنسي كتمييز جندري إذا كان الأخير شيئًا يمكن أن يحدث لأي أحد، ويمكن لأي أحد أن يرتكبه. (هذا العيب لا يلطّف بل يعقّد حقيقة أن قضية ميرتور، التي أسست لاعتبار التحرش الجنسي تمييزًا جندريًا، قد تضمنت اعترافًا نسويًا نقديًا بالعلاقة التي تربط بين اضطهاد النساء والتحرش الجنسي.) هذا التشويش يكشف لنا أيضًا كيف يقوم تصنيف التحرش الجنسي كتمييز جندري بتعريف الجندر غيريًا بشكل ضمني. وبعمومية أكثر، يكشف هذا التشويش إلى أي مدى تم مزج الجندر والجنسانية معًا في صياغة الحقوق المصممة لحماية النساء من الأضرار الناتجة عن تعريف الجندر تعريفًا غيريًا. أي أنه يكشف إلى أي مدى يكون فيه أساس الضرر، أي التعريف الغيري للنساء، مرسّخًا في صياغة الحقوق التي تَعِد بإصلاح هذا الضرر.
أود أن أشير سريعًا إلى مفارقتين أخرتين في صياغة الأهداف النسوية الخاصة بالحقوق. تتعلق المفارقة الأولى بمشكلة الإنتاج المركب للذوات، والتي نظّرت لها بشكل بارز في الساحة القانونية كيمبرلي كرينشو ضمن مسألة “التقاطعية” في تجربة النساء السود مع الإخضاع العرقي والجندري، وتتعلق الثانية بمشكلة الخلط بين الأفعال والهوية، والتي كان أبرز من نظّر لها جانيت هالي باعتبارها معضلة تواجه المدافعين عن حقوق المثليين المناضلين ضد قوانين اللواط.[9]
تجادل أعمال كيمبرلي كرينشو بشكل مقنع أنه وبالقدر الذي يستحيل معه على النساء السود مناقشة المخاطر الاجتماعية المنضوية على سوادهنّ، وبالتالي وجودهن كنساء سوداوات، ضمن مصطلحات التمييز الجندري، فإن الجندر هنا يعمل كتصنيف خالٍ من كل تأثير للعرق، مما يجعله ضمنيًا تصنيفًا أبيضًا. تاريخيًا، لقد كان وهم الاعتقاد بأن الجندر يتم إنتاجه وتنظيمه بشكل حر ومستقل عن صيغ القوى الاجتماعية الأخرى هو أكثر العوائق خطورة في طريق تأسيس نسوية شاملة عرقيًا، نسويةٍ لا تتطلب تفريقًا تحليليًا أو سياسيًا بين النسوية وتجارب النساء ذوات البشرة الملونة. ومع ذلك، يكاد يستحيل ضمن قانون الحقوق المدنية أن تبرز ذواتٌ موسومة بأكثر من شكل واحد للقوى الاجتماعية (العرق، الجندر، العمر، الميل الجنسي، الإعاقة) في وقت واحد. إن على المدّعين أن يختاروا أساسًا واحدًا فقط للتمييز العنصري، بل إن التشعب الواسع في صيغ القوى، والتي من خلالها يتم تحقيق الأبعاد الجندرية والعرقية والأبعاد الأخرى لإنتاج الذات (والضرر أيضًا)، يعني أن مفكري القانون النقدي، حتى حسني النية منهم، يميلون إلى التركيز على شكل واحد للقوى الاجتماعية في وقت واحد، أو في أحسن الأحوال، بشكل متلاحق.[10]
هذه هي المفارقة المركزية المؤسسة لهذه المشكلة: من ناحية، فإن الوسوم المتعددة التي تلحق بالذوات يتم خلقها عبر قوى شديدة الاختلاف في نوعها – وليس قوى مختلفة وحسب. أي أن الذوات الموسومة بالجندر، والطبقة، والجنسية، والعرق، والجنسانية وما إلى ذلك، يتم خلقها عبر أكثر من تاريخ مختلف، وآليات ومواقع قوى مختلفة، وتشكيلات خطابية مختلفة، وإجراءات تنظيمية مختلفة. ولذلك، فإن النظريات التي تبين عمل الطبقة الاجتماعية، أو تكوين العرق، أو إعادة إنتاج الجندر، لن تكون على الأغلب ملائمة لدراسة آليات الجنسانية كشكل من أشكال القوى الاجتماعية. ومن ناحية أخرى، فإن هذه القوى المتنوعة لا تقوم بتركيبنا كذوات في وحدات منفصلة: فهي لا تعمل داخلنا وعبرنا بشكل مستقل، أو خطي، أو تراكمي، كما لا يمكن تحريرها من بعضها البعض جذريًا داخل أي تشكيل تاريخي معين. وبقدر ما أن بناء الذات لا يحدث على طول حدود متباينة من الجنسية والعرق والجنسانية والجندر والطائفة والطبقة وغيرها، فإن هذه القوى المكونة للذات إذن لا يمكن فصلها داخل الذات نفسها. وكما لاحظ كثير من منظري النسوية وما بعد الاستعمارية والكويرية ومنظري العرق النقديين في السنوات الأخيرة، فإنه يستحيل نزع العرق من الجندر، أو الجندر من الجنسانية، أو الاستعمار من الطائفة من الذكورة من الجنسانية. علاوة على ذلك، فإن التعامل مع هذه الصيغ العديدة لتكوين الذات باعتبارها مضافة أو تقاطعية بهذه البساطة يعني تجاهل الطريقة التي يتأتى للذوات أن توجد من خلالها عبر الخطابات المنتجة للذات subjectifying discourses) )، كما يعني تجاهل حقيقة أن هذه الخطابات لا تضطهدنا فحسب، بل وتنتجنا أيضًا؛ وهذا الإنتاج لا يحدث داخل أجزاء مضافة أو تقاطعية أو تداخلية، بل بواسطة تواريخ مركبة ومتشظية عادة، تنظَّم فيها القوى الاجتماعية المتعددة من خلال وضدّ بعضها البعض.
يُبرز القانون ونظرية القانون النقدية هذه المشكلة بجلاء -وهي أن وجود نماذج للقوى يمكن التفريق بينها أمر ضروري لفهم الأنواع المختلفة لإنتاج الذات، ولكن بناء الذات نفسه لا يحدث طبقًا لأي من هذه النماذج. إن حصر مجال قانون مناهضة العنصرية الرسمي والتجريدي نسبيًا، بحيث يكون التمييز العنصري المبني على أساس قائمة طويلة من سمات الهوية والمعتقدات الشخصية ممنوعًا، يجعل من النادر أن تجد ملاذًا للضرر الناتج عن العنصرية والتمييز الجنسي وكراهية المثليين والفقر في ذات الزوايا من القانون. فمن النادر الاعتراف بهذا الضرر أو ضبطه عبر ذات التصنيفات القانونية، كما يندر إصلاحه عبر نفس الاستراتيجيات القانونية. وكنتيجة لذلك، فإن المنظرين القانونيين المهتمين بهذه الأنواع المنفصلة من الهوية لا يضطرون وحسب إلى الالتفات لأبعاد مختلفة من القانون اعتمادًا على نوع الهوية الذي يهمهم، بل وغالبًا ما يفسرون القانون نفسه بطرق غير متماثلة.[11]
وبالنظر إلى هذه الأنواع من الفروقات، فليس غريبًا ألا يكون الاهتمام بتأمين منطقة معينة من القانون مختلفًا فحسب، بل أن يعمل عادة لتحقيق أغراض متضاربة لكل هوية من الهويات الموسومة بشكل مختلف. على سبيل المثال، تعتبر كثير من النسويات أن الخصوصية تجرّد كثيرًا من أنشطة النساء والأضرار التي تصيبهن من بعدها السياسي- الإنجاب، والعنف الأسري، والسفاح، والعمل المنزلي دون أجر، والخدمة العاطفية والجنسية الإجبارية للرجال. ومع ذلك، فبالنسبة للمهتمين بالحرية الجنسية، وحقوق الرعاية للفقراء، وحقوق السلامة الجسدية للمجموعات المحرومة تاريخيًا والمضطهدة عرقيًا، فإن الخصوصية تبدو قيّمة دون شك. بالفعل، لقد كان غياب التعريف الكوني والكلّي لحق الخصوصية هو السند القانوني الذي استُخدم لاقتحام غرفة النوم الخاصة بهاردوك في قضية باورز ضد هاردوك. وهذا الغياب ذاته هو السند القانوني الذي تستند عليه الزيارات المفاجئة التي يجريها الأخصائيون الاجتماعيون لضمان تطبيق ” قاعدة الرجل المتواجد بالمنزل” في حق المستفيدين من برامج الرعاية الاجتماعية، وهي زيارات تم السكوت عنها لعقود طويلة. كبقية الحقوق، ستتغير نظرتنا للخصوصية – باعتبارها تعزز التحرر أو تعرقله، وتحقق العدالة، أو تخفي الظلم- اعتمادًا على وظيفتها بالنسبة للقوى التي تنتج الذات في حالة معينة، واعتمادًا على البعد المحدد الذي يهمنا من تلك الهوية الموسومة.
إذا كانت القوى التي تنتج وتُموضِع الذوات المضطَهدة اجتماعيًا تنشأ داخل صيغ مختلفة جذريًا، يحتوي كل منها على تواريخ وتقنيات مختلفة، وتلامس أسطحًا وأعماقًا مختلفة، وتشكّل أجسادًا وأرواحًا مختلفة، فإنه من غير المستغرب أن يكون من الصعب على المصلحين القانونيين التقدميين سياسيًا أن يعملوا على أكثر من نوع من الهويات الموسومة في وقت واحد. وقد أدى ذلك إلى استحالة التنظير لذات قانونية موصومة اجتماعيًا دون أن تكون منفردة أو موحّدة. إننا عادة ما نظهر ليس فقط أمام القانون بل وفي المحاكم والسياسات العامة باعتبارنا (وبشكل لا تمايز فيه) إما نساء أو محرومات اقتصاديًا، أو مثليات، أو موصومات عرقيًا، ولكن ليس باعتبارنا أبدًا تلك الذوات المعقدة والمركبة والمتنوعة داخليًا كما نحن في الحقيقة. وهذه السمة في خطاب الحقوق تعيق المشروع الشامل اجتماعيًا والمحنّك سياسيًا والذي كانت النسوية تطمح له في العقد الأخير.
إن تأملات جانيت هالي حول اللواط تكشف بعدًا مختلفًا للطريقة المربكة التي من خلالها يقوم خطاب الحقوق بترسيخ وهم الذات الموحّدة، بل وتنظيمنا عن طريق هذه الفكرة الأحادية. في ” تأملات في مسألة اللواط: الفعل والهوية في قضية باورز ضد هاردوك وما بعدها،” تتفحص هالي الطريقة التي يقوم من خلالها الدال (لواط)، والذي يتميز بالحركة وعدم الاستقرار، بتثبيت الهوية المثلية عبر الخلط الروتيني بين الفعل الجنسي والهوية الجنسية، والذي يقوم به الكارهون للمثلية والمدافعون عنها على حد سواء. وعلى الرغم من أن التعريف الاصطلاحي للواط (باعتباره أي فعل جنسي يتخذ شكلا فمويًا-تناسليًا أو شرجيًا-تناسليًا) هو ذاته يفك التضاد الحاصل لغويًا بين المثلية والغيرية، تحديدًا عبر نفي التفرّد المفترض للأفعال الجنسية التي تحدث على أحد الجانبين المتقابلين، إلا أن مساواة اللواط بالمثلية (مرة أخرى في كلا الخطابين، المؤيد والمناهض للمثلية) يعيد إبراز هذا التضاد الثنائي بين المثلية والغيرية. تدعو هالي إذن للتفحّص في مسألة عدم الاستقرار الذي يكتنف المصطلح، كما تدعو لفصل الهوية عن الفعل، وذلك من أجل تحقيق تحالفات أكثر فعالية في أوساط المستهدفين بالتشريعات القمعية جنسيًا من ناحية، ولكشف الآليات الخطابية لما تسميه “التفوق الغيري”[12] من ناحية أخرى. وإلى حد أن الغيريين يمارسون أفعالًا لوطية دون أن ينالهم الوصم أو الجُرمية المرتبطة باللواط، حيث يستخدم اللواط هنا ككناية عن المثلية، فإن مطاردة المثليين تبدو وكأنها لا علاقة لها بنوع الجنس الذي يمارسه المثليون بل بربطهم ذهنيًا بنوع من الجنس الذي تتبرأ منه الغيرية لتضع مسافة بينها وبين المثلية. إن الغرض من التفكير في الحقوق ليس محصورًا في كون نشطاء حقوق المثلية يتجاهلون -خلافًا لمصلحتهم- الطريقة التي يضرهم بها هذا الخلط بين الفعل والهوية، بل وفي أن الحقوق يجب أن تُفهم تبعًا لهذا السياق باعتبارها تدعّم هوية خيالية مبنية على التفرّد المتخّيل للأفعال الجنسية، بينما تُخفي في الحقيقة امتياز الغيريين.
مالذي يحدث إذا فكرنا في الجندر وفقًا للتصور الذي خطّته هالي؟ وإلى أي مدى يتم تعزيز الهوية الذكورية والتفوق الذكوري عبر هذا الإنكار الانطولوجي لأنواع محددة من الأنشطة والضعف والعمل، والتي يتم بعد ذلك إسقاطها على النساء؟ إذا كان الجندر نفسه نتيجة لتطبيع التقسيم الجنسي لكل شيء في عالم البشر تقريبًا، فإن الحقوق الموجهة لتخفيف معاناة النساء بشكل خاص قد تكرّس وهم الهوية الجندرية، وتعزز الإنكار الذكوري للتجارب أو الأعمال التي تُفترض فيها الأنوثة– بدءًا من الاعتداء الجنسي إلى الأمومة. إن الحقوق بقدر ما تعزز وهم الفرد المستقل بشكل عام، ووهم الهويات المطبَّعة لأفراد محددين، فإنها تعزز أيضًا ما يحتاج المضطهدون تاريخيًا إلى الوصول إليه -الفردانية المستقلة، التي لا نستطيع ألا نريدها- وإلى الاحتجاج عليه في نفس الوقت، باعتبار أن شروط الفردية هذه مبنية على أساس إنسانوي يخفي بشكل روتيني معياريتها الجندرية والعرقية والجنسية. إن ذلك الذي لا نستطيع ألا نريده هو نفسه الفخ الذي يزيد تورطنا في شراك التسلط الذي يحكمنا.
يبدو إذن أن الجواب المرحلي لسؤال الجدوى من لغة الحقوق بالنسبة للنساء هو أنها تعتمد على المفارقة بشدة: تؤمّن الحقوق مراكزنا كأفراد حتى وإن كانت تحجب الطرق المخادعة التي يتم تحقيق وتنظيم تلك المراكز من خلالها؛ كما يجب أن تكون هذه الحقوق محددة ومادية كي تفضح تبعية النساء وتصلحها، ولكنها مع ذلك قد ترسّخ تبعيتنا عبر هذه التحديد. تعدنا الحقوق بمزيد من الاستقلال الفردي ولكن على حساب مفاقمة وهم الذات المستقلة؛ كما أنها تحررنا من أجل السعي وراء غايات سياسية بينما تقوم بإخضاع هذه الغايات السياسية للخطاب الليبرالي. تتحرك الحقوق في مجال عابر للتاريخ في حين أنها تنشأ ضمن ظروف تاريخية محددة، كما أنها تعدنا بتعويض معاناتنا كنساء ولكنها تفعل ذلك عبر تفتيت هذه المعاناة -ونحن معها-إلى مكونات منفصلة، تفتيتًا ينتهك حياة أناس منتهكة أصلا بفعل تداخل القوى العرقية والطبقية والجنسية والجندرية.
إن المفارقة ليست ظرفًا سياسيًا مستحيلًا، بل ظرفًا متطِلبًا وغير مرض في كثير من الأحيان. وقد كان المنظّر الرئيسي لها في التقليد الغربي هو جان جاك روسو، والذي يعد فكره تاريخيًا تحريضًا على الغايات السياسية الراديكالية وتقييدًا لها في ذات الوقت. وغالبًا ما يُنسب هذا التقييد إلى ميله لفكرة المفارقة –بالفعل، إن استخدام روسو للتناقضات الداخلية (aporias) في فكره قد يكون أحد الأسباب التي أدت إلى اكتساب المفارقة سمعة سيئة سياسيًا. ولكن إذا كان روسو يصرًّ على ضرورة إجبار الناس على أن يكونوا أحرارًا، أو على أن تطور الثقافة الانسانية مصحوب حتمًا بالتراجع إلى حالة من الاغتراب وانعدام الحرية والعدالة، فإلى أي درجة يمكن اعتبار الطبيعة التناقضية لهذه الحقوق نتيجة لخطاب التقدم، والحرية، والكمال الإنساني الذي كان يتحدث عنه، والذي كان يسعى أيضًا إلى الاستعاضة عنه بخطاب بديل؟ بكلمات أخرى، إلى أي مدى يمكن قراءة المفارقة السياسية لا باعتبارها حقيقة أو تشويشًا يحيط بظروف سياسية معينة، بل باعتبارها قيودًا تفرضها هذه الظروف السياسية على الحقائق التي يتم الإفصاح عنها.
يمكن تمييز المفارقة عن التناقض أو الجذب من خلال تأكيدها على عدم القابلية للحل: حقائق متعددة ولكن غير قابلة للقياس، أو الحقيقة ونفيها في ذات العبارة، أو حقائق تنقض بعضها حتى في حين تتطلب كل واحدة منها الأخرى. ولكن المفارقة تحمل أيضًا دلالة على الاعتقاد أو الرأي الذي يتحدى السلطة المسلّم بها- فهي تجابه المعتقد الشائع(doxa). في كتابها “لا شيء سوى المفارقات”، وهو دراسة حول نسويات القرن التاسع عشر الفرنسيات، تستثمر جوان والك سكوت هذا التعريف لتضعه في الصياغة السياسية التالية ” إن أولئك الذين ينشرون مجموعة من الحقائق التي تتصدى للمعتقدات المتطرفة ولكن لا تستبدلها، يخلقون موقفًا يطابق ولو بشكل فضفاض التعريف الاصطلاحي للمفارقة.”[13] تقترح سكوت أن الاستراتيجيات والتعبيرات المبنية على المفارقة لدى النسويات اللاتي شملتهن دراستها برزت كنتيجة للتفاوض باسم حقوق النساء ولمكانتهن كأفراد ضمن سياق خطابي ارتبطت فيه الحقوق والأفراد بالذكورة ارتباطًا وثيقًا. ولذلك، كانت النسويات تطالبن بشيء لم يكن بالإمكان الحصول عليه دون المطالبة في ذات الوقت بإحداث تغيير في طبيعة ما كنّ يطالبن به، أي “حقوق الرجل”، من أجل النساء. وهذا ما جعل المفارقة شرطًا بنيويًا بدلًا من أن يكون طارئًا بالنسبة لمطالبهم السياسية.
إن الرؤية التي قدمتها سكوت عن نسويات القرن التاسع عشر الفرنسيات قد تكون مفيدة لنا في فهم ظروفنا. أولاً، إن المشكلة التي تعالجها لاتزال حاضرة اليوم، أي أن نضال النساء من أجل الحقوق يحدث في سياق يتميز فيه خطاب الحقوق بالذكورة تحديدًا، وهو خطاب يفترض ذاتًا حرة ذاتية الاكتفاء ومستقلة انطولوجيًا.[14] تتطلب النساء أن يتاح لهن الوصول إلى وجود هذه الذات المتخيلة، في نفس الوقت الذي يتم فيه إقصاؤهن عنها بشكل ممنهج عبر جندرية الخطاب الليبرالي، مما يجعل توظيفهن للحقوق متسمًا بالمفارقة دائمًا. ثانيًا، وإذا تجاوزنا المجال الذي ركزت عليه سكوت، فحتى إذا كان استدعاء الحقوق من أجل ذات معينة (كالنساء)، وفي مسألة معينة (كالجنسانية)، وداخل مجال معين (كالزواج)، وجميعها تم استثنائها تاريخيًا من نطاق الحقوق، حتى إذا كان استدعاؤها قادرًا على تسييس الوضع الخاص بتلك الذوات، وتلك المسائل، والمجالات، فإن الحقوق داخل الليبرالية تميل أيضًا إلى تجريد الظروف التي تعبر عنها من بعدها السياسي.[15] إن الحقوق هنا تعبر عن حاجة، وعن حالة من الافتقار أو الأذى لا يمكن تعويضها بشكل كامل أو تبديلها بواسطة الحقوق، إلا أنه لا يمكن التعبير عنها بأي طريقة أخرى داخل الخطاب السياسي القائم. ولذلك، فإن الحقوق بالنسبة للمضطهدين بشكل منهجي تميل إلى إعادة كتابة الأذى، والظلم، وعوائق الحرية الناتجة عن التراتب الاجتماعي باعتبارها انتهاكات فردية، كما أنها نادرًا ما تصلح أو تعبر عن الظروف التي تنتج وتؤجج تلك الانتهاكات. ومع ذلك، فإن غياب الحقوق في هذه المجالات يؤدي إلى إبقاء هذه الظروف على حالها دون تغيير.
إذا كانت هذه هي الظروف التي بفعلها تتخذ الحقوق صيغة المفارقة بالنسبة للنساء، باعتبارها ضرورية ورجعية سياسيًا في ذات الوقت، فما هي إمكانية الالتفاف حول هذه المفارقات والاستفادة منها بشكل فعال؟ إن سياسة المفارقة، بخلاف التناقضات التي يمكن استغلالها، أو الغموض الذي يمكن كشفه، أو الإنكار الذي يمكن إجباره على مواجهة ذاته، أو حتى اليأس الذي يمكن نفيه، يصعب التفاوض فيها جدًا. تبدو المفارقة ذاتية الإلغاء بشكل لانهائي، كما تبدو، باعتبارها شرطًا سياسيًا لتحقيق الإنجازات، معرضة للتقويض بشكل دائم، مما ينتج عائقًا في الخطاب بحيث تقوم كل حقيقة بشطب الحقيقة المعاكسة لها، وهذا ما يجعل المفارقة حالةً يكون فيها التخطيط السياسي الاستراتيجي ذاته مشلولاً.
ومع ذلك، فإن ظهور اللغة التي تحمل شؤم المفارقة في حيز زمني من التأريخ الحتمي في تقدميته، لهو أمرٌ ذو دلالة: أقصد تحديدًا اللغة التي استعملها ماركس لتقييم الحقوق حين جادل بأن ” التحرر السياسي يمثل تقدمًا عظيمًا بالتأكيد… وهو ليس الشكل النهائي للتحرر الإنساني… لكنه الشكل النهائي… ضمن إطار النظام الاجتماعي السائد.”[16] هل يمكن إذن أن تبدو الإمكانات السياسية للمفارقة أعظم إذا قمنا بوضعها في مجال تأريخ غير تقدمي(non-progressive) نستبدل فيه التحول الخطّي أو حتى الجدلي باستراتيجيات الإبدال والإرباك والعرقلة؟ كيف يمكن أن تكتسب المفارقة ثراء سياسيًا حين تُفهم باعتبارها تؤكد استحالة العدالة في الحاضر، وتصوغ شروط وملامح العدالة في المستقبل؟ كيف يمكن أن يساعدنا الالتفات للمفارقة في صياغة نضال سياسي من أجل الحقوق لا باعتبارها وسائل أو حتى غايات، بل باعتبارها تفصح من خلال تمثُّلاتها عمّا يمكن أن تكونه الحرية والعدالة مما يتجاوز هذه الحقوق. وبكلمات أخرى، كيف يمكن للعناصر المبنية على المفارقة في النضال من أجل الحقوق داخل سياق تحرري أن تصوغ حقلاً للعدالة يتجاوز “ذلك الذي لا يمكننا ألا نريده”؟ وأي شكل من دعاوى الحق يا ترى يمتلك جسارة التضحية بوضعيته المطلقة أو المطبّعة من أجل تحقيق هذه الإمكانية؟
[1] Gayatri Spivak, Outside in the Teaching Machine (New York: Routledge, 1993), 44.
[2] Ibid., 45-46.
[3] Patricia Williams, The Alchemy of Race and Rights (Cambridge: Harvard University Press, 1991), 165.
[4] Drucilla Cornell, The Imaginary Domain (New York: Routledge, 1995)
[5] Catharine MacKinnon, Feminism Unmodified (Cambridge: Harvard University Press, 1987), 73.
[6] Cheryl Harris, “Whiteness as Property” and Neil Gotanda, “A Critique of ‘Our Constitution is Color Blind’” in Critical Race Theory: The Key Writings that Formed the Movement, ed. Crenshaw, Gotanda, et al. (New Press, 1995).
[7] Matsuda, Lawrence et al., Words That Wound: Critical Race Theory, Assaultive Speech, and the First Amendment (Boulder: Westview, 1993), 24,68; Gates, “Truth or Consequences: Putting Limits on Limits,” ACLS Occasional Paper #22, 19.
[8] “Court Weighs Same-Sex Harassment,” New York Times, 4 Dec. 1997, A21.
جدير بالذكر أن حجة محامي الدفاع أن التمييز الجندري لا يمكن إثباته لأنه لم يكن هناك نساء على المنصة النفطية البحرية حيث وقع التحرش يخفي ضمنيًا المقدمات المثلية للمتهم من خلال استحضار الصورة المجازية للسجين ذو الميل الغيري المكبوت. إن الحجة القائلة بأن عدم توفر نساء لممارسة الجنس معهن، تقترح بأن الرجال سيلتفتون إلى بعضهم البعض، ولكن لا يمكن مساواة ذلك مع الرغبة المثلية. إن امتلاك هذه الحجة ما يكفي من الشرعية بحيث يستطيع الخصم تقديمها أمام قضاة المحكمة العليا، بينما يستحيل تصور تقديمها كدفاع في الحالة التقليدية لتحرش رجل بامرأة في مكان العمل، يؤكد استحالة وضرورة معالجة التمييز الجندري والجنسي معًا في ذات الوقت إذا كنا نريد تحقيق العدالة الجندرية.
[9] Kimberle Crenshaw, “Demarginalizing the Intersection of Race and Sex,” University of Chicago Legal Forum 129 (1989) and “Mapping the Margins: Intersectionality, Identity Politics, and Violence Against Women of Color,” Critical Race Theory. Janet Halley, “Reasoning About Sodomy: Act and Identity in and After Bowers v. Hardwick” Virginia Law Review 79, no.7 (1993).
[10] لا ينجو من هذا التصنيف سوى عدد قليل من مفكري القانون النقدي، إلا أنهم وفقًا لتقديرهم الشخصي لا يحققون نجاحًا كاملًا. راجعي ما كُتب في:
Critical Race Feminism: A Reader, ed. A.I. Wing (New York: New York University Press, 1977)
وخاصة مقال أنجيلا هاريس الذي أعيدت طباعته ”Race and Essentialism in Feminist Legal Theory.”
وكذلك مقال دروسيلا كورنيل The Imaginary Domain (الملاحظة ٤ أعلاه) الذي تعالج فيه مسألة الجندر والجنسانية داخل إطار تحليلي واحد.
[11] “The Impossibility of Women’s Studies” in differences 9, no.3 (1997).
[12] Halley, “Reasoning About Sodomy,” 1770-1
[13] Joan Wallach Scott, Only Paradoxes to Offer (Cambridge: Harvard University Press, 1996), 5-6
[14] أقوم بمناقشة مسألة ذكورة الليبرالية وخاصة في خطاب الحقوق باستفاضة في كتاب:
“Liberalism’s Family Values,” ch.6 of States of Injury: Power and Freedom in Late Modernity (Princeton: Princeton University Press, 1995)
[15] أقوم بمناقشة هذه الحجة باستفاضة في كتاب “Rights and Losses,” ch.5 of States of Injury
هذه هي المفارقة التي عبر عنها ماركس باعتبارها تناقضًا مزعجًا في إقراره في كتاب “المسألة اليهودية” بأن الحقوق المدنية والسياسية للمحرومين تعمل في ذات الوقت على إبراز ذلك الحرمان والتهوين من شأنه باعتباره فشلاً بسيطًا في محاولة الكونية الشمولية لتحقيق ذاتها. ومع ذلك تصور جوديث بتلر هذه المفارقة باعتبارها شكلاً معينًا للإمكانية السياسية، وذلك في معرض جدالها بأن” الخارطة المؤطرة زمنيًا لمستقبل الكونية” هي نوع من “الازدواجية اللفظية” يقوم به أولئك “الذين يدّعون حقهم في المصطلح، أي مصطلح الكونية، رغم أنهم ليسوا مخولين بالكلام داخل إطار الكونية أو باعتبارهم يمثلونها”. تجادل بتلر بأن “ذلك الذي يتم إقصاؤه مما هو كوني، ومع ذلك ينتمي له، إنما يتحدث من موقع منقسم بين كونه مخولاً وغير مخول في نفس الوقت… وإنّ كشف سمة التغّير alterity لدى المعيار والحديث عنها (التغيّر الذي لا يمكن للمعيار أن “يعرف ذاته” بدونه) إنما يفضح فشل المعيار في بلوغ الانتشار الكونيّ الذي يمثله، وهو يفضح ما يمكننا وصفه ” بالتناقض الواعد للمعيار”
Excitable Speech: A Politics of the Performative (New York: Routledge, 1997), 91.
[16] “On the Jewish Question,” The Marx-Engels Reader, 2e, ed. R. Tucker (New-York: Norton, 1978), 35.