ترجمة: لجين اليماني. مراجعة: أحمد العوفي.
موجز المترجم
تعيد جوديث بتلر قراءة عمل سيمون دي بوفوار الأكثر شهرة ” الجنس الآخر” و عبارتها “لا تولد الواحدة امرأة، بل تصبح كذلك“ ضمن سياقات وجودية مابعد حداثية لا تسعى وحسب إلى نسف العلاقة المصطنعة بين الجنس و الجندر بل و إلى نسف الجنس ذاته. توضح بتلر عبر قراءتها لبوفوار كيف استطاعت الأخيرة تحرير حقل دراسات الجندر من ثنائيات العقل/الجسد و الانعتاق/التجسد من خلال النظر إلى الجندر كصيرورة مزدوجة المعنى تمثل جدلاً مستمرًا بين المشروع الاختياري الذاتي والبنية الثقافية الخارجية متحدية بذلك نظرية الجندر و نظرية الاختيار الوجودية في شكلهما الكلاسيكي. تطرح الكاتبة نظرة بوفوار عن الجسد و علاقته الشائكة بالجندر مقابل سارترية مسكونة بشبح ديكارتي يفترض مسافة بين الاثنين. وفقًا لبتلر، تزيل بوفوار الغشاوة عن التصور القاصر للجندر كاختيار ذاتي حر منفصل عن محددات الجسد و تعيده إلى الصراع اليومي الملموس مع السائد الثقافي معيدة للفاعلية الشخصية بدورها إمكانات التغيير الحقيقية التي يمكن وفقًا لبتلر أن تتحقق فقط عبر التحدي اليومي و الشخصي لتلك البنى السائدة . علاوة على ذلك، تقدم بتلر إمكانات جديدة لرؤية بوفوار من خلال التعرض لنقاشها حول الذات والآخر من خلال جدلية السيد و العبد الهيغلية، كاشفة بذلك “علاقة الاعتماد المتبادل الأساسية بين ’الرجل’ المنعتق و ’المرأة’ المحددة جسديًا” وبالتالي قصور نموذج الانعتاق المذكر. بدلاً من ذلك، تعالج بوفوار الجسد كوضع ثقافي لا كجسد طبيعي، و هي معالجة فتحت المجال أمام باحثين آخرين لنقد النظام الإجباري ثنائي الجندر و كشف استخداماته السياسية، و ربما تجاوزه.
الإحالة إلى المقالة الأصلية
Butler, Judith. “Sex and Gender in Simone De Beauvoir’s Second Sex.” Yale French Studies, no. 72 (1986): 35-49.
“لا تولد الواحدة امرأة ، بل تصبح كذلك.”[1] إن صياغة سيمون دي بوفوار تميز بين الجنس والجندر (النوع الاجتماعي)، وتقترح أن الجندر إنما هو أحد جوانب الهوية التي يتم اكتسابها تدريجيًا. هذا التمييز بين الجنس والجندر لطالما كان مهمًا للجهد النسوي القديم في تفنيد الادعاء بأن التشريح البيولوجي قدر. فالجنس يمثل الجوانب الثابتة، و المتمايزة تشريحيًا و الوقائعية من الجسد الأنثوي، بينما الجندر هو المعنى الثقافي و الشكل الذي يكتسبه هذا الجسد، والأنماط المتغيرة الناتجة عن تكييفه الثقافي. و بإبقاء هذا التفريق قائمًا، يصبح من غير الممكن عزو قيم المرأة و وظائفها الاجتماعية إلى الحتمية البيولوجية، كما لا نستطيع الإشارة بشكل مجدٍ إلى سلوك جندري طبيعي وآخر غير طبيعي، حيث أن الجندر كله بحكم التعريف غير طبيعي. علاوة على ذلك، إذا طُبّق هذا التمييز بشكل متسق، يصبح من غير الواضح إذا ما كان أي جنس معطى لأحدهم يقوده بالضرورة لأن يكتسب جندرًا معينًا. إن افتراض علاقة سببية أو محاكاتية بين الجنس والجندر واهنة. فإذا كان كون أحدهم امرأة هو أحد التأويلات الثقافية لكون إحداهن أنثى، وإذا كان هذا التأويل غير لازم بأي شكل لكونها أنثى، فيبدو أن الجسد الأنثوي إذن ليس إلا محلاً اعتباطيًا لجندر ’المرأة‘، وعليه فليس ثمة سبب لاستبعاد احتمالات أن يصبح هذا الجسد محلاً لبُنى جندرية أخرى. في منتهاه إذن، فإن تمييز الجنس/الجندر ينطوي على تبعية الأجساد الطبيعية والبنى الجندرية جذريًا لنتيجة أن ’كون‘ إحداهن أنثى و ’كونها‘ امرأة نوعان مختلفان تمامًا من الكينونة. هذا الملمح الأخير ، كما أقترح، لهو المساهمة المتميزة لصياغة سيمون دي بوفوار “لا تولد الواحدة امرأة، بل تصبح كذلك.”
وفقًا للإطار أعلاه فإن مصطلح ’أنثى‘ يفيد مجموعة مطابقة للذات و ثابتة من الحقائق المادية الطبيعية، (وهو بالمناسبة افتراض تتحداه السلسلة المتصلة من الاختلافات الكروموسومية)، بينما يفيد مصطلح ’امرأة‘ مجموعة متنوعة من الأنماط و الصيغ التي من خلالها تكتسب تلك الحقائق معناها الثقافي. وإذن، فإن إحداهن تكون أنثى بالقدر الذي يؤكد فيه الرابط اللغوي ’تكون‘ علاقة ثابتة و مطابقة لذاتها. أي أن الواحدة تكون أنثى و بناء على ذلك لا تكون جنسًا آخرًا. أما الأكثر صعوبة من ذلك فهو ادعاء أن إحداهن تكون امرأة بالمعنى نفسه. إذا كان الجندر هو التأويل الثقافي المتغير للجنس، فإنه يفتقر إلى سمة الثبات و الانغلاق التي تميز الهوية البسيطة. أن تكون جندرًا، سواء رجلاً أو امرأة أو غير ذلك، هو أن تكون منهمكًا في تأويل ثقافي مستمر للجسد و بالتالي أن تكون متموضعًا بشكل ديناميكي داخل حقل من الإمكانات الثقافية. يجب أن يُفهم الجندر كصيغة لتبنّي أو تحقيق الإمكانات، كعملية تأويل للجسد و منحه شكله الثقافي. بكلمات أخرى، أن تكون امرأة هو أن تصبح امرأة؛ ليست المسألة اذعاناً لحالة أنطولوجية ثابتة يمكن معها أن يولد الفرد امرأة، بل عملية نشطة لتمّلك (appropriating) و تأويل و إعادة تأويل إمكانات ثقافية سائدة.
بالنسبة لسيمون دي بوفوار، يبدو أن الفعل “تصبح” يتضمن تبعيًا معنى ملتبسًا. ليس الجندر مجرد بنية ثقافية مفروضة على الهوية، بل هو بمعنى ما عملية بناء لذواتنا. أن تصبح امرأة يعني مجموعة أفعال هادفة و تملّكية كاكتساب مهارة ما، فهو ’مشروع’ بمعنى سارتري، كما يعني أن تتقمّص نمطًا ودلالة جسدية معينة. حين يُفهم الفعل ’تصبح’ بمعنى ’تتقمّص و تجسّد بشكل عمدي و هادف‘، يبدو أن سيمون دي بوفوار تتوسل إلى وصف اختياري طوعي للجندر. وهكذا، فإذا كان الجندر اختياريًا بمعنى ما، فكيف نفهم الجندر كبنى ثقافية سائدة و مسلّم بها؟ من المعتاد هذه الأيام تصور الجندر كموضوع سلبي تحدده عوامل خارجية، و يتم بناؤه بواسطة نظام مجسّد من البطريركية أو اللغة المتحمورة حول تفضيل الذكر (phallogocentric) والتي بدورها تسبق و تحدد الموضوع ذاته. و حتى إذا أدركنا بحق أن الجندر بنية يتم تركيبها بواسطة هذه الأنظمة ، يبقى من الضروري التحري عن الآليات المحددة لهذه البنية. هل يقوم هذا النظام منفردًا بطبع الجندر على الجسد بحيث يكون الجسد في هذه الحالة مجرد أداة وسيطة، و يكون الفاعل خاضعًا بشكل كامل؟ كيف إذن يمكن أن نفسر الطرق العديدة التي يعاد فيها إنتاج و تشكيل الجندر بشكل فردي؟ ما هو دور الفاعلية الشخصية (agency) في إعادة إنتاج الجندر؟ في هذا السياق، فإن صياغة سيمون دي بوفوار قد تضع مجموعة التحديات التالية أمام نظرية الجندر: إلى أي درجة تعتبر ’بنائية’ الجندر عملية ذاتية الانعكاس (self-reflexive)؟ وبأي معنى نقوم ببناء أنفسنا، و من خلال تلك العملية، نصبح الجندر الخاص بنا؟
فيما يلي، أود أن أوضح كيف تزيل نظرة سيمون دي بوفوار للجندر ’كصيرورة’ التباس المعنى الداخلي للجندر ’كمشروع’ و ’بنية’ في وقت واحد. إن فهم الجندر في ’صيرورته’ كاختيار و تكييف ثقافي معًا يقوض العلاقة التضادية عادة بين هذين المصطلحين. إن بوفوار إذ تحافظ على التأويل المزدوج “للصيرورة”، تصوغ الجندر كموضع جسدي للإمكانات الثقافية، السائد منها و المبتكَر. إن نظرتها للجندر إذن تستتبع إعادة تأويل مذهب الاختيار الوجودي الذي يعتبر ’اختيار’ جندر ما تجسيدًا للإمكانات المتوفرة داخل شبكة من المعايير الثقافية الراسخة بعمق.
أجساد سارترية و أشباح ديكارتية
إن فكرة أننا نختار الجندر الخاص بنا تطرح لغزًا أنطولوجيا. قد يبدو في البداية مستحيلاً أننا قادرون على احتلال موضع خارج الجندر يمكننا انطلاقًا منه العودة للوراء قليلاً و اختيار جندرنا. إذا كنا دائمًا مجندرين بشكل مسبق، و مغموسين في الجندر، فكيف يكون معقولاً أن نقول أننا نختار ما نحن إياه في الأصل؟ إن هذه الفرضية لا تبدو حشوًا وحسب، بل إنها وبالقدر الذي تفترض فيه فاعلاً مختارًا سابقًا لجندره المختار، تتبنى نظرة ديكارتية للذات باعتبارها بنية أنوية (egological) تعيش و تزدهر بشكل سابق للغة و الحياة الثقافية. هذه النظرة للذات تتناقض مع النتائج المعاصرة حول البناء اللغوي للفاعلية الشخصية، كما أنها ذات المشكلة في جميع الآراء الديكارتية حول الأنا، حيث أن المسافة الأنطولوجية التي تفترضها هذه الآراء بين الذات وبين اللغة والحياة الثقافية تبدو معيقة لإمكانية التحقق منها. إذا كان زعم سيمون دي بوفوار قوي الحجة، وإذا كان صحيحًا أننا ’نصبح’ الجندر الخاص بنا من خلال مجموعة أفعال اختيارية و تملّكية، فلا بد أن ما تقصده بوفوار هو شيء آخر غير الفعل الديكارتي منزوع السياق. أن تكون الفاعلية الشخصية متطلبًا منطقيًا لتبنّي جندر ما لا يعني أن هذه الفاعلية متحررة من الجسد؛ فنحن في الحقيقة إنما نصبح الجندر الخاص بنا وليس أجسادنا. إذا أردنا أن نفهم نظرية سيمون دي بوفوار على أنها متحررة من الشبح الديكارتي فعلينا أولا أن نلتفت إلى نظرتها للجسد، وتأملاتها حول إمكانية الروح المنعتقة من الجسد.
سواء ما إذا كان بالإمكان القول بأن الوعي يسبق الجسد، أو أن له مكانة أنطولوجية بمعزل عن الجسد، فهذه ادعاءات تم تأكيدها ونفيها بالتناوب في كتاب سارتر الوجود والعدم، وهذا التردد تجاه ثنائية العقل/الجسد الديكارتية يعاود الظهور ، وإن بشكل أقل جدية، في كتاب سيمون دي بوفوار الجنس الآخر. يمكننا في الحقيقة أن نرى في الجنس الآخر جهدًا لجعل المشروع السارتري لتأسيس مفهوم مجسد للحرية، أكثر راديكالية. إن فصل “الجسد” في الوجود والعدم يردد صدى ديكارتية تطارد تفكير سارتر، كما يعكس محاولته لتحرير نفسه من هذا الشبح الديكارتي. على الرغم من أن سارتر يجادل بأن الجسد والهوية الشخصية متطابقان دلاليًا (“أنا جسدي”)[2]، فإنه يقترح أيضًا أن الوعي متجاوز للجسد بمعنى ما، (“جسدي نقطة انطلاق هي أنا و هي في نفس الوقت نقطة أتجاوزها…”)[3]. بدلًا من نفي الديكارتية، فإن نظرية سارتر تسعى لفهم العلاقة بين التحرر من الجسد أو السمة المتعالية للهوية الشخصية وبين التجسد باعتبارها علاقة متناقضة لكنها جوهرية. إن ثنائية الوعي (كتعالٍ) والجسد متأصلة في الواقع الإنساني، و إن أي محاولة لتحديد الهوية الشخصية في جانب دون الآخر حصرًا، هو مشروع تدليسي وفقًا لسارتر.
على الرغم من أن إشارة سارتر “لتجاوز” الجسد قد تفهم باعتبارها تفترض ثناية عقل/جسد، إلا أننا نحتاج فقط أن نفهم فكرة تجاوز الذات في حد ذاتها كتحرك جسدي مقصده نفي هذا الافتراض. إن الجسد ليس ظاهرة ثابتة، و لكن نمطًا معينا من القصدية، و هو نمط و قوة اتجاهية من الرغبة. إن الجسد، باعتباره شرط وصول للعالم، كيان منسجم مع ماوراء ذاته، يحافظ على مرجعية ضرورية للعالم، وبالتالي، فهو لا يكون أبدًا كياناً طبيعيًا ذاتي المماهاة والتعريف. إن الجسد إنما يُعاش ويُختبر كسياق و وسيط لكل المساعي الإنسانية. و لأن البشر بالنسبة لسارتر يسعون لإمكانات إما أن تكون غير محققة أو غير ممكنة التحقق من حيث المبدأ، فإن البشر بهذا المعنى وبذات القدر ’ماوراء’ أنفسهم. مع ذلك، فإن هذا الواقع التخارجي (ek-static) للبشر هو تجربة جسدية، و الجسد ليس حقيقة وجودية مفتقرة للحياة بل نمطًا للصيرورة. بالفعل، إن الجسد الطبيعي بالنسبة لسارتر يوجد فقط في الصيغة التي يكون فيها متجاوَزًا، ذلك أن الجسد دائم الانشغال بالسعي الإنساني لتحقيق الإمكانات: “إننا لا نستطيع إدراك هذا الإمكان العرضي كما هو عليه بقدر ما يكون جسدنا لنا؛ لأننا اختيار، و لأن الوجود بالنسبة لنا هو أن نختار أنفسنا… إن هذا الجسد غير القابل للإدراك هو بالتحديد ما يستوجب أن يكون هنالك اختيار، وأن لا أكون كل شيء في آن معًا.”[4]
إن سيمون دي بوفوار لا تدحض رؤية سارتر بقدر ما تحمله على تأويل لا ديكارتي لآرائه.[5] لقد كتب سارتر في الوجود والعدم أنه “وباستعمال ’يوجد’ كفعل متعد، فإنه من الأفضل القول بأن الوعي يوجِد جسده…”[6] إن الصيغة المتعدية للفعل “يوجد” ليست بعيدة عن استخدام سيمون دي بوفوار الأخاذ لفعل الصيرورة ’يصبح ’، كما أن صياغتها للجندر كصيرورة تبدو إضافة و تجسيدًا حقيقيًا للصياغة السارترية. و في التحوّل من تعريف الوجود المادي و الصيرورة إلى مشهد الجنس والجندر، فإن سيمون تستقي الضرورة الانطولوجية لمفهوم المفارقة (paradox)، إلا أن التوتر في نظريتها ليس بين الوجود ’في’ و ’ما وراء’ الجسد، بل في الانتقال من الجسد الطبيعي إلى الجسد المكيّف ثقافيًا. إن عبارة ’أن الواحدة لا تولد امرأة بل تصبح كذلك’ لا تعني أن هذه الصيرورة تقطع الطريق من الحرية المجردة إلى التجسد الثقافي. بالفعل، إن الواحدة هي جسدها من البداية، و بعد ذلك فقط تصبح جندرها. إن الانتقال من الجنس إلى الجندر داخلي بالنسبة للحياة المتجسّدة، أي أنه انتقال من نوع ما من التجسد إلى نوع آخر. وكي ندمج الصياغة السارترية مع صياغة سيمون دي بوفوار، فإنه بإمكاننا القول بأن ’إيجاد’ أحدهم لجسده بصورة ملموسة ثقافيًا يعني، على الأقل جزئيًا، أن يصبح جندرَه.
إن تعليق سارتر على الجسد الطبيعي بوصفه “غير قابل للإدراك” يجد مثيله في رفض سيمون دي بوفوار أن تعتبر الجندر طبيعيًا. إننا لا نختبر أو نَعرف أنفسنا كجسد بحت و بسيط، أي كجنس ، لأننا لا نعرف جنسنا خارج تعبيره عن ذاته كجندر. إن الجنس المُعاش أو المختبر هو دائمًا مجندر بشكل مسبق. إننا نصبح جندرنا، لكننا نصبحه من مكان لا يمكن إيجاده، و بدقيق العبارة، لا يمكن القول بوجوده. بالنسبة لسارتر فإن الجسد الطبيعي غير قابل للإدراك و بالتالي فهو نقطة بداية خيالية لتفسير الجسد باعتباره معاشًا. وبالمثل، بالنسبة لسيمون دي بوفوار، فإن افتراض الجنس كحدس عملي متخيل يسمح لنا أن نرى أن الجندر غير طبيعي، أي أنه جانب من الوجود منوط الإمكان بالثقافة. و هكذا، فإننا لا نصبح جندرنا من مكان سابق للثقافة أو الحياة المتجسدة، بل وفقًا لشروطهما بشكل أساسي. بالنسبة لسيمون دي بوفوار على الأقل، فإن الشبح الديكارتي قد تمت تسوية أمره و الانتهاء منه.
على الرغم من أننا نصبح جندرنا، فإن الحركة الزمانية لهذه الصيرورة لا تتبع تقدمًا خطّيًا. إن أصل الجندر ليس متميزًا زمانيًا لأن الجندر لا ينشأ في نقطة زمنية ما بحيث يكون بعدها ثابت الشكل. كما أننا، وبشكل هام، لا نستطيع تتبع أصل محدد بدقة للجندر لأنه في ذاته نشاط إنشائي يحدث بلا انقطاع. إن الجندر، بالتوقف عن فهمه كمنتَج لعلاقات ثقافية و نفسية قديمة، لهو طريقة معاصرة لتنظيم معايير ثقافية ماضية ومستقبلية، طريقة لتحديد علاقتنا بهذه المعايير، و هو نمط فاعل لعيش الجسد في العالم.
الجندر بصفته اختيارًا
إن الإنسان يختار جندره، لكنه لا يختاره من مسافة بعيدة تشير إلى مفترق أنطولوجي بين الفاعل المختار و الجندر الذي اختاره. إن المساحة الديكارتية ’للمُختار’ المتعمِّد غير حقيقية، ولكن يبقى السؤال: إذا كنا متوحلين بالجندر منذ البداية، فكيف يمكن أن نفهم الجندر كنوع من الاختيار؟ إن نظرة سيمون دي بوفوار للجندر كمشروع مستمر، وكفعل يومي من إعادة البناء و التأويل، تستقي من مذهب سارتر في الاختيار التلقائي السابق للتأمل (prereflective) و تمنح تلك البنية المعرفية الصعبة معنى ثقافيًا عينيًا وملموسًا. إن الاختيار السابق للتأمل فعل عفوي و مضمَر، وهو ما يطلق عليه سارتر ”شبه معرفة.” وهذه المعرفة ليست واعية بالكامل، و لكن مع ذلك بإمكان الوعي الوصول إليها، إنها النوع من الاختيار الذي نتخذه ثم ندرك لاحقًا فقط أننا اخترناه. يبدو أن سيمون دي بوفوار تعتمد هذا المفهوم للاختيار في إشارتها إلى الفعل الطوعي الذي من خلاله يُتقمّص الجندر. إن اتخاذ جندر ما ليس ممكنًا بشكل فوري، لكنه مشروع استراتيجي و خفي لا يتكشّف للفهم التأملي إلا نادرًا. أن تصبح جندرًا هي عملية تأويل عفوية ولكن واعية للواقع الثقافي المحمل بالتصديقات و المحرمات و التوجيهات. إن اختيارك تقمّص نوع معين من الجسد، أن تعيش أو ترتدي جسدك بطريقة معينة، يعني عالمًا من الأنماط الجسدية المعترف بها. أن تختار جندرًا يعني تأويل المعايير الجندرية السائدة بطريقة تعيد تنظيمها بشكل جديد. عوضًا عن كونه فعل خلق جذري، فإن الجندر مشروع ضمني لتجديد المرء تاريخه الثقافي وفقًا لشروطه الخاصة. و هذه ليست مهمة إلزامية من واجبنا أن نسعى لتحقيقها بل هي مهمة لطالما كنا في سعي متصل لها على الدوام.
لقد انتقدت ميشيل لو دوف[7] و آخرون هيمنة الإطار الوجودي، إذ تعيد هذه الهيمنة إحياء “شكل كلاسيكي من الطوعية” من شأنه أن يلوم بخبث ضحايا الاضطهاد ’لاختيارهم’ الحال التي هم فيها. حين يُستعمل مذهب الاختيار الوجودي في هذا السياق، فهو بالتأكيد يبدو خبيثًا، ولكن هذا الاستعمال في ذاته استعمال خاطئ يحرف الانتباه عن الاحتمالات التمكينية للمذهب. إن فينومينولوجيا الضحية التي تشرحها سيمون دي بوفوار في الجنس الآخر تكشف أن الاضطهاد، برغم ظهور و ثقل حتميته، إلا أنه مشروط الإمكان. علاوة على ذلك، فإنها تخرج خطاب المضطهِد والمضطهَد من مجال التشيؤ (reification)، مذكرة إيانا بأن المعايير الجندرية القمعية والظالمة إنما تدوم بقدر ما يتبناها الناس ويمنحونها الحياة مرة تلو الأخرى. هذا لا يعني أن سيمون دي بوفوار تقول بأن الاضطهاد ينشئ من خلال سلسلة من الاختيارات البشرية. إن جهودها في الأنثروبولوجيا و التاريخ تؤكد وعيها بأن لأنظمة الاضطهاد جذورًا مادية معقدة. بل إن ما تقصده هو أن هذه الأنظمة تستمر فقط بالقدر الذي يتم فيه تبني المعايير الجندرية في الحاضر بشكل ضمني ولكن بإصرار، من خلال استراتيجيات فردية أقل أو أكثر تخفّيًا. و بدلاً من رأي أقل تعقيدًا حول ’التنشئة الاجتماعية’ (socialization)، فإنها تستعمل المنظومة الوجودية لفهم لحظة التملّك التي تحدث التنشئة الاجتماعية من خلالها. من خلال هذا التأكيد على التملّك، فإنها تقدم بديلاً لنماذج التفسير الأبوية للتكييف الثقافي والتي تعامل البشر باعتبارهم منتجات للمسببات السابقة فحسب، و باعتبارهم محدَّدين ثقافيًا بالمعنى الدقيق للكلمة؛ هذه النماذج من شأنها، تبعيًا، ألا تترك مجالاً لإمكانيات التغيير التي تتيحها الفاعلية الشخصية.
من خلال فحصها لآلية الفاعلية والتملّك، فإن بوفوار تحاول، كما أعتقد، أن تبث في التحليل إمكانية تحررية. إن الاضطهاد ليس نظامًا ذاتي الاكتفاء إما أن يواجه الأفراد كموضوع نظري أو أن ينتجهم كبيادق ثقافية له. إنه قوة جدلية تتطلب مشاركة فردية على نطاق واسع من أجل أن يحافظ على حياته السرطانية.
إن سيمون دي بوفوار لا تعالج بشكل مباشر عبء الحرية[8] الذي تطرحه مسألة الجندر، ولكننا نستطيع أن نستنتج من رأيها كيف تقمع المعايير التقييدية ممارسة الحرية الجندرية. إن القيود الاجتماعية المفروضة على الامتثال والانحراف الجندري كبيرة جدًا بحيث أن معظم الناس يشعرون بجرح عميق إذا قيل لهم بأنهم ليسوا رجالاً أو نساءًا بشكل كاف، و أنهم قد فشلوا في أداء رجولتهم أو أنوثتهم كما ينبغي. بالفعل، بالقدر الذي يتطلب فيه الوجود الاجتماعي تجانسًا جندريًا واضحًا، فإنه ليس من الممكن الوجود اجتماعيًا بشكل ذو معنى خارج المعايير الجندرية المعترف بها. إن الخروج عن حدود الجندر المعترف بها يدشن إحساسًا جذريًا بالانسلاخ يمكن أن يحمل دلالة ميتافيزيقية ما. إذا كان الوجود دائمًا وجودًا مجندرًا، فإن الحيد عن الجندر المعترف به هو بمعنى ما تشكيك في وجود المرء. في لحظات الانسلاخ الجندري هذه والتي ندرك فيها أن كوننا الجندر الذي أصبحناه بالكاد يكون ضروريًا، فإننا نواجه عبء الاختيار الكامن في الحياة كرجل أو امرأة أو أي هوية جندرية آخرى، وهي حرية تجعلها القيود الاجتماعية مرهقة .
إن عذاب و رعب مغادرة جندر مفروض أو التعدي على إقليم جندر آخر يشهد على صرامة القيود الاجتماعية المفروضة على تأويل الجندر، كما يشهد على ضرورة أن يكون هنالك تأويل، أي على الحرية الضرورية المتوفرة في أصل الجندر. وبالمثل، فإن الصعوبة الشائعة في تقبّل الأمومة، على سبيل المثال، كواقع مؤسساتي بدلا من غريزي يعبر عن ذات التفاعل بين القيد والحرية. إن رأي سيمون دي بوفوار حول غريزة الأمومة كخيال ثقافي عادة ما يقابل بالحجة القائلة بأن الرغبة حين تكون شديدة الشيوع و حين تُستشعر بشكل شديد الالحاح فإن عليها ولذات السبب أن تعتبر عضوية و كونية. هذه الاستجابة تسعى لتعميم رأي ثقافي، و للادعاء بأنه ليس اختيار المرء ولكن نتيجة ضرورة عضوية يخضع لها. في الجهد الساعي إلى تعميم و تطبيع مؤسسة الأمومة، يبدو أن الصفة الاختيارية للأمومة يتم إنكارها، و في الواقع، فإن الأمومة يتم الترويج لها على أنها الخيار الأوحد، أي كمؤسسة اجتماعية إجبارية. إن الرغبة في تأويل مشاعر الأمومة كضرورات عضوية يكشف رغبة أعمق في إخفاء الخيار الذي يتخذه المرء. فإذا أصبحت الأمومة اختيارًا، فماذا غير ذلك يصبح ممكنًا أيضًا؟ هذا النوع من المساءلة عادة ما يولد دوارًا و رعبًا إزاء احتمال خسارة بعض الاعترافات الاجتماعية، و ترك مركز و مكان اجتماعي راسخ. إن كون هذا الرعب معروف جدًا ربما يمنح أفضل تصديق لفكرة أن الهوية الجندرية تتأثر بالقاعدة المتزعزعة للاختراع البشري الذي تتكئ عليه.
الاستقلال و الاغتراب
إنه لزعم وصفي أن يصبح المرء جندرًا ما، فهو يؤكد فقط حقيقة أن الجندر إنما يكون بالتبني، لكنه لا يقول ما إذا كان على المرء أن يتبناه بطريقة معينة. إن منهج سيمون دي بوفوار التوجيهي في الجنس الآخر أقل وضوحًا من منهجها الوصفي، لكن مقاصدها التوجيهية مع ذلك سهلة التمييز. في كشفها أن النساء قد أصبحن “ آخرًا” يبدو أنها تشير أيضًا إلى درب من التعافي الذاتي. ففي نقدها للتحليل النفسي تعلّق بأن:
المرأة مغررة بنمطين من الاغتراب. من الجليّ أن لعبها دور الرجل سيكون مصدر إحباط لها؛ لكن لعبها دور المرأة نوع من الوهم: أن تكون امرأة من شأنه أن يعني أن تكون ذاتًا مفعولاً بها، أن تكون أخرى ، وإن الأخرى برغم ذلك تبقى فاعلاً في وسط استسلامها… إن المشكلة الحقيقية للمرأة هي أن ترفض الهروب من الواقع و أن تسعى لتحقيق الذات من خلال التعالي.[٥٧]
إن لغة ”التعالي” تقترح من جهة أن سيمون دي بوفوار تقرّ نموذجًا من الحرية متحررًا من الجندر باعتباره المثال و النموذج المعياري لما ينبغي أن تكون عليه طموحات المرأة. يبدو أن بوفوار تُلزِم بالتغلب على الجندر بشكل كامل، خاصة للنساء، واللاتي يعني ’أن يصبح المرء جندرًا’ بالنسبة لهن التضحية بالاستقلال و القدرة على التعالي. من جهة أخرى، و بالقدر الذي يبدو فيه التعالي مشروعًا مذكرًا على وجه الخصوص، فإن إلزامها يبدو حثًا للنساء بأن يتقمصوا نموذج الحرية الذي يجسده حاليًا جندر المذكر. بكلمات أخرى، لأن النساء لطالما تم تعريفهن من خلال تشريحهن البيولوجي ، و لأن هذا التعريف قد استخدم لاضطهادهن ، فينبغي عليهن الآن التماهي مع “الوعي” ، ذلك النشاط المتعالي غير المقيد بالجسد. لو كان هذا رأيها، لكانت تقدم للنساء فرصة لأن يصبحوا رجالاً، و تروّج للإلزام بأن نموذج الحرية الحالي والذي ينظم السلوك المذكر ينبغي أن يصبح النموذج الذي تصوغ النساء أنفسهن وفقًا له.
و لكن يبدو أن سيمون دي بوفوار تقول أكثر مما يقترحه أحد البديلين المتقدمين. ليس المشكوك فيه وحسب ما إذا كانت تقبل رأيًا حول الوعي أو الحرية متجاوزًا لما بعد الجسد (فهي تحيي التحليل النفسي لإظهاره أخيرًا أن “الجسد إنما هو الموجود”)،(١٠، ٣٨) و لكن نقاشها حول الآخر يسمح بقراءة شديدة النقد لمشروع الانعتاق المذكر. في التحليل التالي، أود أن أقرأ نقاشها حول الذات والآخر كإعادة صياغة لجدلية هيغل الخاصة بالسيد و العبد، وذلك كي أبرز كيف أن مشروع الانعتاق المذكّر بالنسبة لسيمون دي بوفوار ذاتي التضليل و غير مُرضٍ في النهاية.
إن ’الرجل’ المؤكد لذاته والذي يتطلب تعريفه لنفسه مقابلة هرمية مع “آخر”، لا يوفر نموذج استقلال حقيقي، حيث تشير بوفوار إلى تدليس مقاصده، “فالآخر”، في جميع الحالات، هو بالنسبة لهذا الرجل ذاته المغتربة. هذه الحقيقة الهيغلية، و التي تستقيها عبر مصفاة سارترية، تؤسس علاقة الاعتماد المتبادل الأساسية بين ’الرجل’ المنعتق و ’المرأة’ المحددة جسديًا. إن انعتاقه ممكن فقط بشرط أن تحتل النساء أجسادهن كهويات جوهرانية و استعبادية. إذا كانت النساء أجسادهن (وهذا مختلف عن أن ’يوجدن’ أجسادهن والذي يعني أن يعيش المرء جسده كمشروع و كحامل للمعاني التي يخلقها لهذا الجسد)، إذا كانت النساء أجسادهن فحسب، و إذا كان وعيهن و حريتهن ليسا سوى الكثير من التباديل المتخفية المكوَّنة من الحاجة الجسدية و الضرورة، فإن النساء، في الواقع يكنّ قد احتكرن المجال الجسدي بشكل حصري. بتعريف المرأة “كآخر”، فإن ’الرجال’ قادرون من خلال الاختصار الذي يتيحه التعريف على التخلص من أجسادهم، و جعل أنفسهم ما سوى أجسادهم، و جعل أجسادهم ما سوى أنفسهم. هذا ’الرجل’ الديكارتي مختلف عن الرجل ذو الصفات التشريحية المميزة، و بالقدر الذي يكون فيه ’الرجل’ صفاته التشريحية، فهو يشارك في مجال أنثوي بامتياز. إن الجانب المتجسّد لوجوده ليس ملكه في الواقع، و بالتالي فهو في الواقع ليس جنسًا، بل هو متجاوز للجنس. هذا الجنس الذي هو متجاوز للجنس عليه أن يشرع في إسقاط انشطاري و اجتماعي كي يتجنب معرفة هويته المتناقضة.
إن تقديم الجسد باعتباره “آخرًا” إنما يتماشى مع منطق غريب يعتمد على اعتقادات و استنتاجات تجميعية تتحدى قوانين التبادلية، أكثر مما يعتمد على منطق سليم. إن ’الأنا’ المتحررة هذه تعرف نفسها من خلال واقع غير جسدي (الروح، الوعي، التعالي)، و من تلك اللحظة فإن جسده يصبح آخرًا. إلى الحد الذي يستوطن فيه ذلك الجسد وهو مقتنع طوال تلك المدة بأنه ليس الجسد الذي يستوطنه، فإن جسده يظهر له كغريب حتمًا، كدخيل، و كجسد مغترب، جسد ليس له. من هذا الإيمان بأن الجسد آخر، فإنه ليس من الصعب القفز إلى الاستنتاج بأن الآخرين هم أجسادهم، بينما ’الأنا’ المذكرة ظاهرة غير جسدية. إن الجسد الذي تم جعله آخرًا – الجسد المقموع و المستنكر ثم المسقط- يعاود الظهور بالنسبة لهذه الأنا على هيئة رأي بأن الآخرين هم أجسادهم بشكل جوهراني. وبالتالي، فإن النساء يصبحن الآخر، و يتجسدن الجسدية ذاتها. هذا الاطناب يصبح جوهرهم و يصبح الوجود كامرأة ما أطلق عليه هيغل “حشوًا جامدًا.”
إن استخدام سيمون دي بوفوار لجدلية الذات و الآخر الهيغلية يستشكل حدود النسخة الديكارتية للحرية الانعتاقية و ينتقد ضمنيًا نموذج الاستقلال الذي تكرسه معايير الجندر المذكر. إن السعي المذكر للتحرر من الجسد مخدوع بالضرورة إذ لا يمكن في الحقيقة أن يتم إنكار الجسد أبدًا؛ إن إنكاره يصبح شرط إعادة ظهوره على هيئة غريب. إن الانعتاق يصبح طريقة عيش أو ’وجود’ للجسد في وضع الإنكار. وإن إنكار الجسد، كما في جدلية السيد والعبد الهيغلية، يكشف عن ذاته باعتباره تجسيدًا للإنكار ولا شيء غير ذلك.
الجسد بصفته حالة أو موقفًا
بغض النظر عن إشارات سيمون دي بوفوار المتقطعة للتشريح كتعالٍ، فإن تعليقاتها حول الجسد “كمنظور” و “وضع”(٣٨) لا يمكن تجاوزهما تشير إلى أن التعالي، كما عند سارتر، يجب أن يفهم وفقًا لشروط جسدية. في توضيح مفهوم الجسد “كوضع”، فإنها تقترح بديلاً للقطبية الجندرية لانعتاق المذكر و عبودية المؤنث للجسد.
للجسد كوضع معنى ذو شقين على الأقل. بصفته محلًا للتأويلات الثقافية، فإن الجسد واقع مادي قد سبق تعريفه و تحديد موقعه داخل سياق اجتماعي. وهو أيضًا الوضع الذي يكون واجبًا فيه تبني و تأويل تلك المجموعة من التأويلات السائدة. و بالتوقف عن فهمه بمعناه الفلسفي التقليدي ’للحد’ أو ’الجوهر’، فإن الجسد حقل من الإمكانات التأويلية، و محل لعملية جدلية من تجديد التأويل لمجموعة تاريخية من التأويلات التي أصبحت مطبوعة في الجسد. إن الجسد يصبح رابطة فريدة من الثقافة والاختيار، كما يصبح “إيجاد” المرء جسده طريقة شخصية لتبني و إعادة تأويل المعايير الجندرية السائدة. و بالقدر الذي تعمل فيه المعايير الجندرية تحت رعاية القيود الاجتماعية، فإن إعادة تأويل تلك المعايير من خلال تكاثر و تفاوت الأنماط الجسدية يصبح طريقة ملموسة و متاحة لتسييس الحياة الشخصية.
إذا فهمنا الجسد كوضع ثقافي، فإن مفهوم الجسد الطبيعي و الجنس الطبيعي سيكون عرضة للتشكيك بشكل متزايد. إن حدود الجندر، و مساحة الإمكانيات لتأويل معاش لتشريح جنسي متمايز تبدو أقل تقييدًا بواسطة علم التشريح نفسه مما هي مقيدة بواسطة ثقل المؤسسات الثقافية التي أوّلت التشريح بشكل تقليدي. بالفعل، حين يأخذ المرء صياغة سيمون دي بوفوار لنتائجها غير المعلنة، يصبح من غير الواضح ما إذا كان على الجندر أن يرتبط بالجنس بأي شكل، أو ما إذا كان هذا الربط التقليدي ذاته ملزمًا ثقافيًا. إذا كان الجندر طريقة “لوجود” المرء جسده، و إذا كان جسد المرء “وضعًا”، و حقلاً من الإمكانات الثقافية السائدة و معادة التأويل، فإن الجندر يبدو إذن شأنًا ثقافيًا بالكامل. أن يصبح المرء جندره إذن يبدو أن يعني أكثر من التفريق بين الجنس و الجندر. ليس الأمر أن التشريح لم يعد يملي الجندر وحسب، بل لا يبدو أن التشريح يشكل أية حدود ضرورية لإمكانيات الجندر.
على الرغم من أن سيمون دي بوفوار تضيف أحيانًا معانٍ أنطولوجية للتمييز الجنسي التشريحي، فإن تعليقاتها تقترح في كثير من الأحيان بأن التشريح وحده ليس ذو أهمية كامنة. في فصل “بيانات البيولوجيا” تفرق بوفوار بين الحقائق الطبيعية و دلالتها، و تجادل بأن الحقائق الطبيعية تكتسب دلالتها فقط من خلال إخضاعها لأنطمة غير طبيعية من التأويل. تكتب دي بوفوار: “كما عبر ميرلو بونتي محقًا، إن الرجل ليس نوعًا طبيعيًا، بل هو فكرة تاريخية. و المرأة ليست حقيقة مكتملة، بل صيرورة، و إنها لفي صيرورتها هذه يفترض أن تقارن بالرجال، بمعنى أن إمكانياتها يجب أن تُعرّف باعتبار هذه الصيرورة (٤٠)”.
إن الجسد كحقيقة طبيعية لا يوجد في الواقع أبدًا ضمن التجربة الانسانية، بل يكتسب معناه فقط باعتباره حالة قد تم التغلب عليها. إن الجسد يشكل حدثًا بالنسبة للمعنى، كما أنه غياب دال و متواصل يُعرَف فقط من خلال دلالاته: “ في الحقيقة، فإن المجتمع ليس نوعًا، إذ أن المجتمع هو الحيز الذي يحقق فيه النوع مرتبة الوجود -مجاوزًا ذاته نحو الوجود و نحو المستقبل. إن الأفراد … خاضعون للطبيعة الثانية التي تمثلها الأعراف، و التي تنعكس فيها الرغبات والمخاوف التي تعبر عن طبيعتهم الجوهرية” (٤٠).
إن الجسد لا يمكن أبدًا أن يكون ظاهرة مطابقة لذاتها (ما عدا في الموت، و في التبديل المتخيل للنساء إلى آخر، و في أشكال أخرى من التحيز المعرفي). إن أي جهد للتوثق من الجسد ’الطبيعي’ قبل ولوجه الثقافة مستحيل بالتعريف ليس فقط لأن الملاحظ الذي يبحث هذه الظاهرة هو ذاته أو هي ذاتها مترسخة في لغة ثفافية معينة، بل لأن الجسد أيضًا راسخ فيها كذلك. في الحقيقة، لايكون الجسد ظاهرة طبيعية أبدًا: “إن الفاعل يكون واعيًا بذاته و يستكمل نفسه لا بصفته مجرد جسد، بل بصفته جسدًا خاضعًا للمحرمات والقوانين – إنه يقيم ذاته بالإحالة لقيم معينة. ومرة أخرى، فليست الفسيولوجيا هي ما يحدد القيم، بل إن حقائق البيولوجيا تكتسب القيم التي يضفيها عليها الإنسان” (٤٠).
إن مفهمة الجسد بصفته غير طبيعي لا تؤكد الاختلاف المطلق بين الجنس والنوع فحسب، بل تشكك في جدوى أي ربط للجندر بالجنس. هنا يبدو أن الجندر أحد استعمالات التشريح الممكنة أكثر مما يبدو أحد وظائفه. “ … إن جسد المرأة أحد العناصر الأساسية التي تحدد وضعها في العالم. لكن هذا الجسد ليس كاف لتعريفها كمرأة، إذ ليس ثمة واقع حقيقي له سوى ما يظهره الفرد الواعي عبر أنشطة معينة و في كنف مجتمع ما”. (٤١).
الجسد السياسي (الأمّة)
إذا كان من غير الممكن إيجاد الجسد المحض ، وإذا كان كل ما يمكن إيجاده هو الجسد المتموضع، بصفته محلاً للتأويلات الثقافية، فيبدو أن نظرية سيمون دي بوفوار إذن تسأل ضمنيًا ما إذا كان الجنس هو الجندر نفسه طوال الوقت. لا تتابع سيمون دي بوفوار ذاتها البحث في نتائج هذه النظرة حول الجسد، لكننا نستطيع أن نرى تجذيرًا لنظرتها في عمل كل من مونيك فيتيغ و ميشيل فوكو: تقوم الأولى بتوسيع مذهب سيمون دي بوفوار بشكل واعٍ في “لا يولد الإنسان امرأة”[9]، أما الآخر فرغم أنه غير مدين لسيمون دي بوفوار (وإن كان تلميذًا لميرلو بونتي) إلا أنه مع ذلك يروج تاريخية الجسد و اعتبار ’الجنس’ الطبيعي خرافة بصورة أكثر اكتمالاً[10]. وعلى الرغم من أنهما يكتبان في سياقين خطابيين مختلفين جدًا، إلا أن فيتيغ و فوكو يتحديان مفهوم الجنس الطبيعي و يكشفان الاستخدامات السياسية للتمييز الجائر بناء على البيولوجيا في تأسيس نظام إجباري ثنائي الجندر. بالنسبة لكلا المنظرَين، فإن التفريق الجنسي ذاته يحدث داخل سياق ثقافي يتطلب أن يبقى الجنس ثنائيًا. إن رسم حدود الاختلاف التشريحي لا يسبق التأويل الثقافي لهذا الاختلاف، ولكنه في ذاته فعل تأويلي محمل بافتراضات معيارية . تشير فيتيغ إلى أن تقسيم الأطفال عند ولادتهم بحسب الجنس يخدم الأغراض الاجتماعية للإنجاب، إلا أنه من الممكن تفريقهم بحسب شكل شحمة الأذن، أو بشكل أفضل، ألا يتم تفريقهم بناء على التشريح إطلاقًا. إننا في تحديدنا “الجنس” بصفته جنسًا نقوم بتشكيل معايير محددة للتفريق والممايزة. و في هذا الاهتمام الذي يغذي عملية التحديد يكمن برنامج سياسي بالفعل. يقوم فيتيغ و فوكو في مساءلتهما القيود الثنائية المفروضة على تعريف الجندر بتحرير الجندر من الجنس بطرق لم يكن لسيمون دي بوفوار تصورها. و مع ذلك، فإن نظرتها للجسد “كوضع” ترسي الأرضية لمثل هذه النظريات دون شك.
إذا كان ’وجود’ المرء جندره يعني أن الفرد يقبل ضمنيًا أو يعيد صياغة المعايير الثقافية الحاكمة لتأويل جسده، فإذن يمكن للجندر أيضًا أن يكون مكانًا يتم فيه تقويض النظام الثنائي الذي يقيد الجندر ذاته. إن الطرق السائدة لاستقطاب الجندر تزداد اختلاطًا من خلال صياغات جديدة للجندر و من خلال طرق جديدة لدمج و تخريب تقابلية ’المذكر’ و ’المؤنث’، كما يصبح التقابل الثنائي عندها مناقضًا لذاته. إن التقابلات الثنائية تفقد وضوحها و قوتها من خلال التجسيد المقصود والهادف للغموض،كما يفقد ’المذكر’ و ’المؤنث’ فائدتهما كعبارتين وصفيتين. و بقدر ما يمكن للغموض الجندري أن يأخذ أشكالاً كثيرة، فإن الجندر يعِد إذن بالتكاثر كظاهرة متعددة يجب إيجاد مصطلحات جديدة لها.
إن سيمون دي بوفوار لا تقترح إمكانية وجود أنواع أخرى إلى جانب ’الرجل’ و ’المرأة’، لكن إصرارها على كونهما بنيتين تاريخيتين يجب على الأفراد في كل مرة أن يقوموا بتملكّهما يقترح أن النظام ثنائي الجندر لا يتمتع بضرورة أنطولوجية. قد يرد أحدهم بأن هناك و ببساطة عدة طرق ليكون المرء ’رجلاً’ أو ’امرأة’، لكن هذا الرأي يولي الجندر أنطولوجيا جوهرانية تنافي مقصد بوفوار: إن ’الرجل’ و ’المرأة’ هي طرق وجود سابقة بالفعل، هي أنماط وجود جسدي، كما أنها لا تظهر بصفتها كيانات جوهرية إلا لمنظور متحير. قد يتساءل المرء أيضًا فيما إذا كان ثمة أمر في البنية ازدواجية الشكل (dymorphic) للتشريح البشري يستوجب ترتيبات جندرية ثنائية عبر الثقافات؟ إن الاكتشافات الأنثروبولوجية للنوع الثالث و أنظمة الجندر المتعدد تقترح أن ازدواجية الشكل البيولوجي ذاتها تكتسب دلالتها بحسب ما تتطلبه المصالح الثقافية، و أن الجندر عادة ما يعتمد على متطلبات القرابة أكثر من اعتماده على الضرورات التشريحية.
إن إطار سيمون دي بوفوار الوجودي قد يبدو من ناحية أنثروبولوجية ساذجًا، ملائمًا فقط لقلة قليلة من المفكرين مابعد الحداثيين الذين يحاولون التعدي علي حدود الجنس المقبول. لكن قوة رؤيتها تكمن في التحدي الجذري الذي تفرضه على الوضع الثقافي الراهن أكثر مما تكمن في مخاطبتها للحس السائد. لهذا السبب، فإن إمكانات التغيير الجندري ليست متاحة فقط للضليعين بالمناطق الأكثر غموضًا للوجودية الهيغلية، بل هي كامنة في الطقوس اليومية للحياة الجسدية. إن مفهمتها للجسد باعتباره رابطة من التأويلات، و بصفته “منظورًا” و “وضعًا” في آن معًا، يكشف الجندر كمشهد من المعاني المترسبة ثقافيًا و كنمط من الابتكارية. أن تصبح جندرًا يعني في آن معًا أن تخضع لوضع ثقافي و أن تخلق واحدًا، و هذه النظرة للجندر باعتباره جدلية من الاستعادة و الابتكار تضمن إمكانية الاستقلال داخل الحياة الجسدية التي قلما وجد لها مثيل في نظرية الجندر.
لقد وسّعت سيمون دي بوفوار من خلال جعلها الجسد نمطًا تأويليًا، مذاهب التجسيد و الاختيار ما قبل التأملي التي ميزت أعمال سارتر بدءًا من الوجود والعدم، و مرورًا بالقديس جينيه: الممثل و الشهيد ، و حتى دراسته الأخيرة لسيرة فلوبير الذاتية. و كما أن سارتر راجع في ذلك العمل الضخم الأخير افتراضاته الوجودية، ليأخذ بعين الاعتبار الحقائق المادية المكونة للهوية، فإن سيمون دي بوفوار قد سعت قبله بوقت طويل و بنتائج أعظم إلى تطهير مذهب سارتر من شبحه الديكارتي. إنها تمنح الاختيار السارتري شكلاً متجسدًا و تضعه في عالم ممتلئ بالتقاليد. إن اختيار جندر ما في هذا السياق لا يعني أن تنتقل إلى الجندر من موقع متحرر من الجسد، بل أن تؤول التاريخ الثقافي الذي يرتديه هذا الجسد بالفعل. هنا يصبح الجسد اختيارًا، و نمطًا لتفعيل و إعادة تفعيل المعايير الجندرية السائدة والتي تظهر على هيئة أنماط كثيرة للجسم.
إن تضمين العالم الثقافي مهمة مؤداة بشكل متصل و نشط، و مشروع مفعّل بسهولة و استمرار إلى درجة أنه يبدو حقيقة طبيعية. إن سيمون دي بوفوار في كشفها الجسد باعتباره مكسوًا بالفعل، و في كشفها ظاهر الطبيعة باعتباره ابتكارًا ثقافيًا، تمنحنا فهمًا جذريًا محتملاً للجندر. كما أن رؤيتها للجسد كحقل من الإمكانيات الثقافية تجعل بعض العمل على إعادة تشكيل الثقافة عملاً طبيعيًا يشبه في طبيعيته ذواتنا الجسدية.
[1] Simone de Beauvoir, The Second Sex (New York: Vintage Books, 1973), 301. Henceforth, references will be given in the text.
[2] Jean-Paul Sartre, Being and Nothingness: An Essay in Phenomenological Ontology, trans. Hazel E. Barnes (New York: Philosophical Library, 1947), 329.
[3] Ibid.
[4] Ibid., 328.
[5] إن دفاع سيمون دي بوفوار عن الشخصية غير الديكارتية في رؤية سارتر للجسد يمكن العثور عليه هنا:
“Merleau-Ponty et le Pseudo-Sartrisme,” Les Temps Modernes, 10:2, 1955.
و لمقال عام يتتبع تغلب سارتر التدريجي على ميوله الديكارتية، انظري:
Thoman W. Busch, “Beyond the Cogito: The Question of the Continuity of Sartre’s Thought,” The Modern Schoolman 60 (March 1983).
[6] Being and Nothingness, 329.
[7] Michele Le Doeuff, “Simone de Beauvoir and Existentialism,” Feminist Studies 6, no. 2 [1980):278
[8] يستخدم سارتر هذه العبارة عادة ليصف تجربة الحاجة للاختيار في عالم مجرد من الحقائق الأخلاقية الموضوعية
[9] Monique Wittig, “One is Not Born a Woman,”Feminist Issues, 1, no. 2 (198 1) and Wittig, “The Category of Sex,” Feminist Issues, 2, no. 2 (1982).
[10] انظر/انظري مقدمة فوكو للكتاب الذي حرره
Herculine Barbin, Being Recently Discovered Memoirs of a Nineteenth Century Hermaphrodite, trans. Richard McDougall (New York: Pantheon, 1980). Also, Foucault, The History of Sexuality, vol. 1, (New York: Bantam, 1979).