ترجمة: ربيع وهبة. مراجعة: خبيب زهير.
موجز الكاتب:
لطالما كانت الدولة عصية على التعريف. إذ تتصف الحدود بينها وبين المجتمع بالمراوغة، والقابلية للاختراق، وعدم الثبات. وإني لا أجد ضرورة للتغلب على هذه المراوغة عبر تعريفات قاطعة، في حين أنه من الممكن استكشافها كمؤشر على طبيعة الدولة. يتضح لنا من خلال تحليل الأدبيات أنه في حالة رفض الدولة مقابل مفاهيم أخرى مثل النظام السياسي، أو في حالة محاولات “استعادة” الدولة، لم تحظ المشكلة الحدودية هذه بمعالجة واضحة. فأصحاب مقاربة الرفض اعتمدوا على الحدود، فيما تجنب أصحاب مقاربة استعادة الدولة الحدود عبر مثالية ضيقة تفسر التمييز بين الدولة – المجتمع بوصفه علاقة خارجية بين كيانين ذاتي وموضوعي. ثمة مقاربة ثالثة، نقدمها هنا، يمكن أن تفسر كلا من أهمية الدولة ومراوغتها. إذ إننا بإعادة تحليل الأدلة التي قدمها المنظرون المعاصرون، تتبين لنا الحدود القائمة بين الدولة والمجتمع في مقام تمييزات وضعت على المستوى الداخلي، كجانب من علاقات قوة أكثر تعقيدًا. ويمكن تعقب ظهور هذه الحدود تاريخيًا إلى الابتكارات التقنية لنظام المجتمع الحديث، حيث نجد أن مناهج التنظيم والسيطرة التي هي داخلية بالنسبة للعمليات الاجتماعية التي تخلق بنية دولة تبدو منفصلة عن تلك العمليات.
الإحالة إلى النص الأصلي:
Mitchell, Timothy. “The Limits of the State: Beyond Statist Approaches and Their Critics.” The American Political Science Review, vol. 85, no. 1, 1991, pp. 77–96.
على الرغم مما جرى حديثًا من انتشار الأدبيات حول هذا الموضوع، يظل من الصعب تفسير ما يعنيه مصطلح الدولة تفسيرًا دقيقًا. وهذا لا يعني أن هناك نقص في التعريفات المتنافسة. لكن أي تعريف للدولة دائمًا ما يعتمد على تمييزها عن المجتمع، رغم أنه من الصعب في الواقع تحديد الخط الفاصل بين الاثنين. فالدولة الحديثة، مثلما يوضح فيليب شميتر (Philippe Schmitter 1985, 33)، تبدو مثل “تركيبة لا شكل لها من هيئات ذات حدود سيئة التحديد، تؤدي تنوعًا هائلًا من وظائف ليست مميزة كثيرًا عن بعضها البعض.”
في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، قدمت العلوم السياسية الأمريكية استجابتين بديلتين ردًا على هذه الصعوبة في رسم حدود الدولة. الاستجابة الأولى هي التخلي عن الدولة كمفهوم شديد الغموض وشديد الضيق كأساس لعلوم سياسية عامة، مع استبداله في أغلب الحالات بمفهوم النظام السياسي. غير أن التغيير في المسميات لم ينجح في حل المشكلة. فقد بات واضحًا أن حدود النظام السياسي، حيث تلتقي حوافه مع حواف الأنظمة الاجتماعية أو أي أنظمة أخرى، هي أكثر مراوغة من حدود الدولة. فضلًا عن ذلك، أبت الدولة نفسها أن تختفي، وبدا أنها تحتفظ بما أسماه نيتل (Nettl 1968, 565-66) “وجودًا مفاهيميًا” بوصفها “ظاهرة ثقافية اجتماعية” لا يمكن تجاهل أهميتها.
أما الاستجابة الثانية، فقد تمثلت منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، في “استعادة الدولة” (Evans, Rueschemeyer, and Skocpol 1985). وقد حدد العمل الجديد على الدولة هذا المصطلح بطرائق متنوعة، معظمها تعامل معها لا كمجرد كيان متميز عن المجتمع، بل على أنها مستقلة عنه جزئيًا أو كليًا. وبدلًا من مواجهة صعوبة تحديد الخط الفاصل المراوغ بين الدولة والمجتمع، تجنبت الأدبيات إلى حد كبير هذه المشكلة. وهذا ما حدث عبر اختزال الدولة إلى نظام ذاتي من صنع القرار، وهو مفهوم يتميز بالإفراط في الضيق، وفي الوقت نفسه، مثلما يمكن إثباته، مثالي في جوهره. وهذا فضلًا عن أن هذا التصور يخفق حتى في ملائمة الأدلة التي قدمها كتابٌ دولتيون.
أقدم هنا مقاربة ثالثة ممكنة تبدأ بافتراض أن مراوغة الحدود بين الدولة والمجتمع تحتاج إلى تعامل جاد، لا بوصفها مشكلة ترتبط بالدقة المفاهيمية، بل كإشارة هادية لطبيعة الظاهرة. وبدلًا من البحث عن تعريف يثبت الحدود، فنحن في حاجة إلى دراسة العمليات السياسية المفصلة التي ينتج من خلالها تمييز مبهم لكنه فعال في الوقت نفسه بين الدولة والمجتمع.
هذا التمييز لا يجب
اعتباره حدودًا بين كيانين منفصلين، بل هو خط مرسوم داخليًا في شبكة الآليات
المؤسسية التي يتم من خلالها تأكيد أي نظام اجتماعي وسياسي. إن القدرة على امتلاك
تمييز داخلي يبدو كما لو كان حدودًا بين الموضوعات المنفصلة هو تكنيك بارز في
النظام السياسي الحديث. وهو، أي هذا التكنيك، يجب اختباره من منظور تاريخي (شيء
أخفقت المقاربات السائدة في عمله)، بوصفه نتاجًا لممارسات جديدة بعينها في العصر
الحديث. ويمكن لهذه المقاربة أن تفسر بروز
ظاهرة الدولة، وفي الوقت نفسه تتجنب عزوها إلى التماسك، والوحدة، والاستقلالية
المطلقة الذي ينتج عن المقاربات النظرية القائمة. وسوف أختتم هذا العرض بطرح خمسة مقترحات
حول دراسة الدولة.
أسباب التخلي عن الدولة: السعي إلى “علم شامل”
طالما كان هناك اختلاف حاد بين المدافعين عن المقاربتين المتلاحقتين في دراسة مشكلة الدولة فيما يتعلق بطبيعة الفارق بينهما. فمن يدافعون عن عودة مفهوم الدولة يميزون عملهم عن مقاربة النظم السياسية بتمييز هذه النظم بأنها تتمركز على المجتمع (Skocpol 1985, 4). رداً على مثل هذا التوصيف، يرى غابريل ألموند (Gabriel Almond 1988) أن الأعمال السابقة لم تحدد موضع التفسيرات وحدها في المجتمع، بل درست تفاعلًا مركبًا بين المجتمع والمؤسسات الحكومية، ومن ثم فإن الكتابات الجديدة عن الدولة لا تقدم في أبهى صورها أي شيء جديد من الناحية المفاهيمية. وعلى أسوأ تقدير، مثلما يحذر ألموند، فإنهم بحديثهم الذي لا أساس له من الصحة عن “التحولات النموذجية paradigmatic shifts” قد شجعوا “جيلًا من الطلاب الخريجين على رفض تاريخهم المعرفي” (853). وهم الآن “يهددوننا بالعودة” بحسب تعبير ديفيد إيستون (David Easton 1981, 322) “…إلى مستنقع مفاهيمي ظننا أننا لم نهرب منه سوى مؤخرا.”
أما عند المدافعين عن المقاربة الدولتية، فيتعلق الخلاف بموضع تركيز التفسير السياسي، هل هو في فعل الدولة أم في المجتمع؛ وفي نظر خصومهم يتعلق الخلاف بإمكانية تحقق وجدوى هذا التمييز. ومثلما سنرى، يعد معارضو هذه المقاربة على صواب في الإشارة إلى الصعوبة التي تواجه منظري الدولتية في تعريف حدود الدولة – المجتمع. ومع ذلك يمكن إثبات أن المشكلة الحدودية نفسها قائمة في مقاربتهم، ولكن ربما بطريقة مختلفة. فالحقيقة أن هذه الحدود نفسها عند منظري النظم السياسية تمتد بلا حدود لتضم المجتمع برمته. ولفهم الطريقة التي حدث بها ذلك سننظر عن كثب في التاريخ المعرفي لمنظري النظم السياسية الذي أصبح الآن مهملًا، وفي الوقت نفسه نستحضر أسباب التخلي أولًا عن لغة الدولة مقابل المجتمع.
عندما أزال إيستون وألموند وآخرون من الأساتذة مصطلح “الدولة” من مفرداتهم السياسية في خمسينيات القرن الماضي، لم يكن ذلك على أساس أن بؤرة تركيز التحليل السياسي ينبغي أن تتحول من الدولة إلى المجتمع، بل أن الكلمة نفسها عانت من نقطتي ضعف مرتبطتين بعضهما ببعض: معناها الغامض، وهو ما يخلق خلافًا حول ما تشير إليه المفردة تحديدًا؛ وحتى في حالة التوصل إلى اتفاق، فإن المصطلح يستبعد جوانب مهمة في العملية السياسية (Easton 1953, 106-15). وقد كرر ألموند هذا المنظور مؤخرًا. “فالميل للتخلي عن مفهوم الدولة وإحلاله بمفاهيم أخرى،” مثلما يجادل “كان منسوبًا إلى الحراك السياسي الهائل الذي وقع في العالم الغربي في القرنين التاسع عشر والعشرين” وكذلك إلى انتشار المؤسسات السياسية شبه الحكومية ومؤسسات خارج الدولة، مثل الأحزاب، وجماعات المصالح، ووسائل الإعلام، التي تقع على حدود غير مؤكدة بين المجتمع والدولة ومن ثم لا تقع بوضوح تحت غطاء المصطلح الأخير (Almond 1988, 855).
غير أن هذه العوامل لا يمكن أن تكون مسؤولة وحدها عن أفول مفهوم الدولة، أو تفسير أسباب توسع الحدود بلا نهاية. فقد وقعت التحولات التي طرأت على الدولة قبل الخمسينيات بفترة ليست قصيرة، مثلما أقر بذلك ألموند نفسه ذات مرة (Almond 1960, 3)، وصاحب ذلك اعتراف بضعف المفهوم (Sabine 1934). ويمكن المحاججة هنا أن أسباب هجر المفهوم لا تكمن في التغيرات التي طرأت على الدول نفسها، بل في العلاقة التي تغيرت بعد الحرب بين العلوم السياسية الأمريكية والقوة السياسية للولايات المتحدة. وهذا ما يمكن استنتاجه عبر إعادة قراءة ما كتب في ذلك الوقت، لا سيما في الوثائق التي تصف رسالة هذا التخصص المعرفي. فحقل السياسة المقارنة ما بعد الحرب، بحسب لوينشتاين Loewenstein ، كان من المفترض أن يتخلى عن اهتمامه الضيق بدراسة الدولة كي تصبح “وسيلة واعية للهندسة الاجتماعية” (1944, 541). وسيلة يفترض استخدامها من أجل “نقل خبرتنا إلى أمم أخرى … دامجة في ذلك بصورة علمية مؤسساتها في نمط عالمي شامل للحكومة” (p. 547). ولتحقيق هذه الغايات، كان على هذا التخصص المعرفي توسيع مجاله الجغرافي والنظري ليصبح ما يسميه لوينشتاين في تقريره علم شامل. “فلم يعد في الإمكان بعد ذلك السماح بوجود بقع بيضاء على خريطة العالم”، هكذا ذكر التقرير، مستخدمًا الاستعارات التي تعكس المناخ الامبريالي للسياسة الأمريكية السائد بعد الحرب. فـ “المواقع الحدودية للحكومة المقارنة يجب أن تتحرك بجرأة،” وذلك كي تشمل العالم، ومن ثم تقوم، عبر التوسع في مجال تخصصات معرفية أخرى (الأنثروبولوجيا، وعلم النفس، والاقتصاد، والإحصاء) بفتح كل بلد على مناهج أكثر تفصيلًا من الملاحظة والتقصي ومن ثم تحقق إمكانية الوصول إلى الصيغة الكلية (Gestalt) من الحضارات السياسية الأجنبية” (p. 541-43).
وقد بدا فتح هذا المجال الجديد للبحث والتحقيق العلمي أكثر إلحاحًا بحلول الخمسينيات، عندما تحولت النزعة التفاؤلية الأمريكية التي سادت ما بعد الحرب إلى عدم يقين سياسي. وكان ما أسماه إيستون (Easton 1953, 3) بجدية “أزمتنا الاجتماعية الراهنة” – الظهور العالمي للحرب الباردة وما صاحبها من صراع محلي ضد التخريب – هو ما جعل من الحتمي فجأة إزالة الغموض عن المفردات السياسية وبناء قوانين اجتماعية علمية عامة من الاتساع بما يكفي لتشمل جميع الظواهر السياسية ذات الدلالة والأهمية و”تجاوز خبرة … أي ثقافة واحدة” (p. 319).
كانت “استراتيجية البحث” لأوربا الغربية المقترحة في 1955 من لجنة السياسة المقارنة التابعة لمجلس أبحاث العلوم الاجتماعية (SSRC) برئاسة غابريل ألموند، قد انتقدت مرة أخرى “التركيز المفرط على الجوانب الشكلية للمؤسسات والعمليات”، لكنها في هذا المقام تحدثت عن الحاجة إلى إجراء تغيير فيما يتعلق بـ”اعتبارات ملحة وعملية”. ففي بلدان أوروبا الغربية الرئيسة، مثلما أفادت اللجنة، تبدو قطاعات كبيرة من الرأي العام مغتربة عن الغرب، أو متبلدة سياسيًا، أو مجندة بفعالية للشيوعية”. كانت الدولة تمثل بؤرة شديدة الضيق للبحث، لأن مشكلات الولاء المدني والترابط السياسي الأساسية تقع إلى حد كبير خارج الإطار الرسمي للحكومة”. وقد كان البحث مطلوبًا لتعقب درجة الترابط السياسي والولاء للغرب فيما وراء هذا الإطار الرسمي “بالتطرق إلى شبكات التجمعات الاجتماعية، واتجاهات عامة الناس”. فمثل هذا التقصي عن كثب يمكن أن يؤكد ما توقعته اللجنة أنه، في حالات مثل فرنسا، “هناك، على الأقل، إمكانية لكسر سيطرة الحزب الشيوعي على جزء كبير من أتباعه” (Almond, Cole, and Macridis, 1955, 1045).
واستجابة للأزمة السياسية وسع هذا التخصص أيضًا من نطاقه الجغرافي. ففي مقدمة كتابه إغواءات الشيوعية (Appeals of Communism (1954 أشار غابريل ألموند أن الشيوعية بدأت تنتشر حاليًا في مناطق خارج الغرب، محذرًا أن هذا كان “تطورًا مهددًا يستحق انتباهاً من نوع خاص” (Almond 1954, vii). وقد جاء الاهتمام عبر عدد من الدراسات الفردية، مثل تحليل لوسيان باي (Lucian Pye (1956 للتهديد الشيوعي في جنوب شرق آسيا، ودراسة ألموند وكولمان (Almond and Coleman (1960 بعنوان سياسة المناطق النامية The Politics of the Developing Areas ، وهو العمل الذي كان من المفترض أن يعزى فيه التوسع المقترح للعلوم السياسية، ليشمل ما سمي “الأنظمة الخرقاء والغريبة (the uncouth and exotic systems) خارج أوربا الغربية”، إلى هذه “الدوافع السياسية العملية” (p. 10). وكانت المخاوف العالمية نفسها هي الحافز للبحوث التي أجريت في أواخر الخمسينيات ونشرت من ثم تحت عنوان الثقافة المدنية The Civic Culture. جاءت مقدمة الكتاب مكرسة لتناول الحاجة الملحة لتصدير مبادئ العملية السياسة الأنجلو – أمريكية إلى المناطق المستعمرة في العالم، والتي كانت وقتذاك تسعى إلى الاستقلال. ولتحقيق هذا الغرض سعت المقدمة إلى “تقنين” لا مجرد القواعد المؤسسية الشكلية للدولة بل أيضًا “المكونات الخفية والأدق” التي شكلت “شروطها الاجتماعية والسيكولوجية المسبقة” تلك التركيبة من الروح الديمقراطية والاحترام السليم للسلطة التي تم الاحتفاء بها بوصفها “الثقافة المدنية”(Almond and Verba 1963, 5) .
وقد انطوت النغمة العلمية لهذه الأدبيات على وعد بالتغلب على غموض الدولة وحدودها. ولكن، بعيدًا عن حل المشكلة، كان الطموح الشمولي الذي ميز هذه الأدبيات بمثابة مقدمة لإمكانية وجود علم، لم يكن لموضوعه، ألا وهو النظام السياسي، أي حدود ملحوظة. وكان للمعرفة الإمبريقية والنظرية التي لم تتوقف عن التوسع والتي سيتقنها علماء المستقبل في السياسة المقارنة، مثلما حذر ألموند عام 1960، “أن تجعل المخيلة تترنح والإرادة عرجاء”. وواصل ألموند قائلًا أنه على الرغم من الميل إلى “غض الطرف والانسحاب في ألم،” يجب أن لا يكون هناك تردد في جهود مراكمة المعرفة التي سوف “تمكننا من أخذ مكاننا في نظام العلوم بالكرامة المحفوظة لمن يتبع نداءً بلا حدود أو شرط” (1960, 64).
وقد أدرك المدافعون عن التحول من الدراسة الشكلية للدولة إلى الفحص والتحري شديد التدقيق للنظم السياسية أنهم كانوا يطلقون مشروعًا علميًا لا حدود له. لكنهم في ذلك افترضوا أن مفهوم النظام نفسه سوف يحل بطريقة أو بأخرى مسألة الحدود. وكتب إيستون في هذا السياق أنه “بمجرد أن نبدأ في الحديث عن حياة سياسية بوصفها نسقًا من الأنشطة، سرعان ما تظهر نتائج بعينها… توحي فكرة النظام في حد ذاتها بأنه بإمكاننا فصل الحياة السياسية عن بقية النشاط الاجتماعي، على الأقل لأغراض تحليلية، وتحليله كما لو كان ولو للحظة كيانًا قائمًا بذاته محاطًا بالبيئة أو المحيط الذي يعمل فيها، ومتميزًا في الوقت نفسه عنها.” (1957, 384). وهنا تشير لغة إيستون بالفعل إلى المشكلات المتضمنة. فمثلها مثل المقاربة الدولتية، تعتمد نظرية النظم على أن تكون متميزة سياسيًا بوضوح عن البيئة الاجتماعية. ولكن، بدلًا من وجود تميز فعلي، فإننا نعلم أن الأمر يبدو كما لو كان هناك تميزًا قائمًا، للحظة، لكنه في الواقع مجرد نتاج للتحدث عن السياسة بوصفها نظامًا. والمعتقد الأساسي لنظرية النظم، أي أن العالم السياسي متفرد ومن ثم يمكن تعريفه كنظام، إنما يعكس ظاهرة مؤقتة لا تظهر إلا من “فكرة النظام نفسها.”
لقد شكلت مسألة الحدود صعوبة للتعريف الذي قدمه ألموند. فمفهوم النظام السياسي، مثلما ذكر، كان القصد من وراءه “فصل البنى التي تؤدي وظائف سياسية في جميع المجتمعات فصلًا تحليليًا” ومن ثم فقد انطوى على “وجود حدود”- مواقع “حيث يبدأ النظام السياسي عند انتهاء نظم أخرى”. ولقد اقتضت الحدود “تعريفًا حادً”، من دونه “سنجد أنفسنا نضمن في النظام السياسي الكنائس، والاقتصادات، والمدارس، والقرابة، وجماعات النسب، والفئات العمرية، وما شابه” (1960, 5, 7-8). ولكن هذا تحديدًا ما حدث. فالحد القاطع للنظام تبين أنه يتالف لا من خط فاصل حاد، بل من روابط عديدة متحولة “تدير حدود النظام السياسي” (p. 9). وكانت هياكل “التعبير عن المصلحة” “Interest articulation” structures ، مثلما أسماها ألموند، في نهاية المطاف لا حدود لها، حيث قيل أنها تشمل كل شكل يمكن تصوره من التعبير الجماعي عن المطالب، بداية من الجماعات “المؤسسية” مثل المشرعين، والكنائس، والجيش، إلى مجموعات “ترابطية” مثل منظمات العمل أو التجارة، ومجموعات “غير ترابطية” مثل النسب أو الجماعات العرقية، وجماعات “شاذة anomic” مثل جماعات الشغب والمظاهرات (p. 33) .
وعوضًا عن حل مشكلة الحدود الغامضة بين الدولة والمجتمع بإحلال الحواف المحددة بصورة فضفاضة ولكن بحدة بنظام قائم بذاته، فإن مقاربة النظم قد تكشفت عن المساحة نفسها للحدود في أرض بلا حدود ولا تحديد.
عودة الدولة
حتى لو ثبت أن حدود النظام السياسي بالمرواغة نفسها التي تتميز بها الدولة، فإن مفهوم الدولة يعاني من نقطة ضعف إضافية في رأي منظري النظم. فالدولة في نظر إيستون (Easton (1953, 111-12 “أداة تحليلية أقل من كونها رمز أو وحدة … إنها أسطورة”. فهي مثلت شيئًا “متعاليًا” (Transcendental) يرمز لوحدة لا يمكن الفكاك منها لشعب واحد على أرض واحدة. وقد كان افتقاد الدقة الذي تسبب في عدم ملائمة المصطلح كأداة تحليلية هو مصدر قوته السياسية بوصفه مركب أسطوري وأيديولوجي.
ولكن لهذا السبب نفسه، وبرغم عدم ملائمة مصطلح الدولة لبناء علوم سياسية كونية، فإنه أبى أن يختفي. فبحلول عام 1968، أشار نيتل (Nettl) أن المفهوم برغم أنه كان خارج الموضة في العلوم الاجتماعية، “ظل يحتفظ بوجود هزيل وشبحي، لا يمكن لأي قدر من إعادة البناء المفاهيمي أن يبدده” (1968, 559). وكتب نيتل أن الدولة “هي في الأساس ظاهرة اجتماعية ثقافية” تحدث بسبب “النزعة الثقافية” وسط الناس للاعتراف بـ” الوجود المفاهيمي” للدولة (pp. 565-66). ومن ثم فقد أصبحت المفاهيم عن الدولة، مثلما جادل نيتل، “مندمجة في تفكير المواطنين الأفراد وأفعالهم” (p. 577)، وأن من الممكن إظهار أن مدى هذا المتغير المفاهيمي متوافق مع الفروق الإمبريقية بين المجتمعات، مثل الفروق في البنية التشريعية أو نظام الأحزاب (pp. 579-92).
أرى أن أهمية الدولة بوصفها مركب أيديولوجي وثقافي مشترك ينبغي أن تكون سبباً لا لرفض الظاهرة من أجل مفهوم ما يفترض أن يكون أكثر حيادية ودقة (مثل النظام السياسي)، بل لأخذها على محمل الجد. فالسياسة، على أية حال، عملية مبنية من خلال مثل تلك البنى المشتركة. ولكن تقديم نيتل لهذه البنية بوصفها نزعة ذاتية يمكنها أن ترتبط بظاهرة أكثر موضوعية وإمبريقية هو تقديم مضلل. فبنية مثل الدولة لا تحدث كمجرد معتقد ذاتي، مندمج في تفكير الأفراد وأفعالهم. إنها تتمثل ويعاد إنتاجها في أشكال يومية ظاهرة للعيان، مثل لغة الممارسة القانونية، أو عمارة المباني العامة، أو ارتداء الزي العسكري، أو وضع الحدود وحراستها. أما الأشكال الثقافية للدولة فهي ظاهرة إمبريقية صلبة ويمكن تمييزها مثل البنية القانونية أو النظام الحزبي. أو بالأحرى، أرى أن التمييز بين مجال مفاهيمي وآخر إمبريقي يحتاج إلى بحث وتساؤل إذا أردنا أن نفهم طبيعة ظاهرة مثل الدولة.
للأسف، مثل هذه الأسئلة لم تطرح. فالحقيقة أن التمييز المفاهيمي – الإمبريقي أصبح الأساس غير المدروس لأدبيات جديدة. فبعد عقد من نشر مقالة نيتل، بدأت الدولة في الظهور مجدداً بوصفها همًا تحليليًا محوريًا للعلوم السياسية الأمريكية. “فالخطوط بين الدولة والمجتمع أصبحت غائمة”، هكذا حذر ستيفن كراسنر Stephen Krasner، الذي كان كتابه “دفاعًا عن المصلحة الوطنية” (Defending the National Interest 1978, xi)، واحدًا من الإسهامات المبكرة المهمة في عودة ظهور الدولة. وكان “الافتراض التحليلي الأساسي” الذي دافعت عنه المقاربة الجديدة “هو أن هناك تمييز بين الدولة والمجتمع” (p. 5). أما المقاربة الدولتية فقد قدمت هذا التمييز الأساسي والإشكالي في الوقت نفسه، مثلما ورد في مقالة نيتل، في ضوء تمييز أساسي بين عالم مفاهيمي (الدولة) وعالم إمبريقي (المجتمع). يبدو أن مثل هذه المقاربة يمكنها التغلب على المشكلة التي اشتكى منظروا النظم السياسية منها وأعادوا مواجهتها، وهي كيف نميز الحدود بين الدولة والمجتمع: سيتم استيعابها ضمن التمييز الذي يبدو واضحاً بين المفاهيمي والإمبريقي، بين نظام ذاتي وآخر موضوعي. ولكن، مثلما سنرى، يعتمد هذا على تضييق هائل لظاهرة الدولة وكذلك قبول غير نقدي لهذا التمييز.
إن المقاربات الدولتية للتفسير السياسي تقدم الدولة بوصفها كيانًا مستقلًا لا يمكن اختزال أفعالها إلى قوى معينة في المجتمع أو تحديدها بهذه القوى. تقديم الدولة بهذه الطريقة لا يتطلب قدرًا كبيرًا من تحويل بؤرة التركيز، من المجتمع إلى الدولة ثانية، بل إرساء حدود واضحة بين الاثنين بطريقة ما. فكيف يمكن لحدود مليئة بالثقوب، تمتزج فيها الممارسة الرسمية مع شبه الرسمية وشبه الرسمية مع غير الرسمية، أن تتحول إلى خطوط فاصلة، بحيث يمكن للدولة الوقوف بصورة مستقبل ككائن متميز ذاتي التوجيه؟ هنا لا يعد التعريف الفيبري Weberian العرفي للدولة، بوصفها تنظيم يسعى لاحتكار شرعية استخدام العنف داخل إقليم محدد، مجرد توصيف مترسب. فهو لا يخبرنا كيف يمكن رسم هذه الملامح الفعلية التي تميز هذا التنظيم الذي لا شكل له.
لم يستوف المدافعون الجدد عن المقاربة الدولتية البحث في الملامح التنظيمية للدولة. لقد ارتّدوا إلى التعريفات الأضيق، التي تفهم الدولة عادة بوصفها نظامًا لصنع القرار. وهذه التركيز الأضيق يضع جوهر الدولة لا في التنظيم الاحتكاري لعملية القسر (Coercion)، ولا، على سبيل المثال، في بنى نظام قانوني وأيديولوجي، ولا في آليات تجد بواسطتها المصالح الاجتماعية تمثيلًا سياسيًا، ولا في ترتيبات تحافظ على علاقة معينة بين منتجي رأس المال وملاكه، بل في شكل وتعبير عن مقاصد تسلطية (Authoritative intentions). وبتفسيرها كآلية للمقاصد – عادة ما يصطلح عليها بـ”وضع القواعد”(Rule making) أو “صنع القرار” (Decision making) أو صنع السياسات” (Policy making)– تصبح الدولة في الأساس مجالًا ذاتيًا من الخطط أو البرامج أو الأفكار. ترسم هذه البنية الذاتية خريطة للتمييز الإشكالي بين الدولة والمجتمع على أساس التمييز، الذي يبدو أكثر وضوحًا، والذي نفرق به بين الذاتي والموضوعي، أو حتى بين المعنى والواقع. وهنا تظهر الدولة منفصلة عن المجتمع بطريقة غير إشكالية تعتبر فيها المقاصد أو الأفكار مستقلة عن العالم الخارجي الذي تشير إليه.
البداية على المستوى الذاتي
يمكننا توضيح منطق المقاربة الدولتية من كتابات أي من مناصريها الرئيسيين تقريبًا. وسوف أستخدم ثلاثة أمثلة كدليل على ذلك: عمل إريك نوردلينغر Eric Nordlinger، وستيفن كراسنر، وثيدا سكوتشبول Theda Skocpol. وسأبدأ بمقاربة نوردلينغر وكراسنر، ثم ننظر لاحقًا في مقاربة سكوتشبول التي تعتبر مختلفة نوعًا ما.
يرى نوردلينغر (Nordlinger 1988, 881) أن جوهر المنظور الدولتي هو أن نبدأ بـ”تشكيل الموظفين العموميين لتفضيلات سياسية خاصة بهم”. وبالانطلاق من هذه الاختيارات الذهنية ذات الطابع الفردي، يصبح أول سؤال ينبغي طرحه هو: “هل الدولة – في صورتها الأكثر وضوحًا متمثلة في الموظفين العموميين – تتصرف على أساس تفضيلاتها السياسية، مترجمة إياها إلى سياسات عامة…؟” (Nordlinger 1987, 353). يتم الدفاع عن “التركيز على الأفراد” (p. 362) بدلاً من البنى المؤسسية في دراسة الدولة بحجة أن المؤسسات نفسها ليس لديها تفضيلات تتصرف على أساسها، إنما تؤثر فقط على الطريقة التي يفعل بها الموظفون الأفراد ذلك. فضلًا عن ذلك، وبالنظر إلى تفاوت هذا التأثير بين الدول المختلفة، فإن هذا التأثير لا يمكن تضمينه في تعريف للدولة (1981, 9; 1987, 362-63). وحتى لو قبل المرء بصواب هذا الرأي، فإنها تعتمد كلها على القرار الأولي بجعل التفضيلات (Preferences) جوهرًا للدولة.
وقرار نوردلينغر أن “يبدأ بالمستوى الذاتي” لا تفسير له على أسس نظرية. فهو ببساطة يخبرنا أن ثمة “تحليل لاستقلالية الدولة قد يبدأ على نحو مثمر” من تلك النقطة (1987, 371). ومع ذلك فإن اختيار نقطة البداية هو ما يخلق تأثير أي دولة مستقلة. فنقطة البداية تحدد طبيعة الدولة ككيان ذاتي في المقام الأول مؤلف من تفضيلات فردية، وأفكار، وقرارات، وظاهرة فكرية أخرى – كشخص في صورة أوضح. وفي فهمنا المعتاد للشخصية، فإنها امتلاك أفكار وتفضيلات تجعل الإنسان الفرد يظهر على أنه وحدة متشكلة ذاتيًا ومستقلة عن محيطها. ومثل هذه الذاتية هي أساس الانفصال الأساسي الذي نمر به بين الذات والعالم الاجتماعي. وفي فكر التنوير السياسي الحديث، يحدد هذا الانفصال الشخصية كشرط الحرية أو الاستقلالية، وذلك في تعارض مع القوى الاجتماعية الخارجية وخارج نطاق تحديدها. وفي نقطة انطلاقه الذاتية فإن نوردلينغر يعزو تلقائيًا هذه الأصالة نفسها، والانفصال والاستقلالية، إلى الدولة.
واعتماد هذه النوع من استقلال الدولة على المنطلقات الذاتية تؤكده الطريقة التي تنهار بها بمجرد أن يبتعد المرء عن هذه المنطلقات. وفي هذا يرجئ نوردلينغر الانهيار بإصراره أن العوامل المجتمعية يتم تمثيلها في المقام الأول وبقدر الإمكان كمتغيرات ذاتية في أذهان موظفي الدولة. فاستقلال الدولة يتأثر بعوامل من نوعية “درجة تأثر الموظفين العموميين بالتعبيرات عن المصالح المجتمعية” وكذلك “الأهمية التي يعزونها للدعم المجتمعي الفعال” (1987, 372). وبهذا النوع من الصياغة، تتحول الضغوط الاجتماعية التي تحدد فعل الدولة ولو بصورة جزئية إلى سمات مستقلة للدولة، وذلك باستبدال الضغوط ذاتها بإدراك الموظفين العموميين. ويبرر هذا الاستبدال بحجة أنه “لا ينبغي اللجوء للتفسيرات المجتمعية … حتى يتضح أن التفسيرات الدولتية غير كافية” (1987, 360)، بغض النظر عن مدى قوة العوامل المجتمعية – وفي ذلك إشارة للتهديد الذي تشكله هذه العوامل ضد أدلة استقلالية الدولة.
ويقر نوردلينغر أن هذا النوع من التفسير لا يرقى إلى تفسيرعميق لاستقلالية الدولة. فنجده ينتقل بعد ذلك إلى عدة “سمات هيكلية للدولة” – سمات رفضها في الأصل بوصفها جوانب لتعريف الدولة – يمكن أن تؤثر تلك السمات في الكيفية التي يصنع بها المسؤولون القرارات (1987, 372). وتتضمن هذه السمات: المواءمة (Malleability)، والانعزال (Insulation)، والصمود (Resilience)، وهشاشة تنظيمات الدولة (Vulnerability). حتى على هذا المستوى لم يتم صياغة الحجة بناء على مدى اعتماد نقاط القوة والضعف لأي منظمة على علاقاتها بالقوى الاجتماعية الأوسع بل في ضوء إدراكاتها الذاتية (Subjective perceptions). فالدولة الهشة، على سبيل المثال، “تثني نفسها” عن التصرف على أساس تفضيلاتها لأنها تخاف أن هذه التفضيلات “قد لا تتحقق” عادةً لأن أدوات التنفيذ “ترى كما لو كانت” غير عملية أو “ملوثة بسجل حافل من المشكلات” (p. 383).
وأخيرًا، يعترف نوردلينغر بالحاجة إلى توغل أعمق في البحث، وإثارة السؤال حول كيفية تحديد السمات الهيكلية للدولة، مع الوضع في الاعتبار التفسيرات المرتكزة على المجتمع. وهو يقول في هذا السياق إن “مسألة التميز عند الدولتية ستترك برمتها بلا حسم”. إذ إن المنظور الدولتي أصبح مهجورًا بوصفه لا يتعدى “طرف اليابسة الذي يتم من خلاله الاستكشاف ومن ثم التحرك إلى داخل المجتمع” (pp. 385-87) وذلك على الرغم من إننا ما زلنا لا نمتلك سُبل معرفة أين ينتهي طرف اليابسة ومن أين تبدأ دواخل المجتمع.
وقد تبين أن المقاربة الدولتية عند نوردلينغر، لا تحدد موقع التفسيرات في الدولة عوضاً عن المجتمع. وهي ما زالت قاصرة في إرساء حدود واضحة بين الاثنين. فنجدها ببساطة تبدأ من مقاصد الدولة، وهي بذلك تنسب للدولة انفصالًا واضحًا واستقلالية وتمضي من ثم بلا أسئلة. وعلى الرغم من أن هذه البداية مبررة بجدواها، فهي في حقيقة الأمر لها محصلة أكثر تحديدًا. فالمقاربة الدولتية تخلق دولة ليست ببساطة مستقلة عن المجتمع، بل هي تعمل لأجل “المصلحة الوطنية”. وهنا يشكو نوردلينغر من الهجمات العاتية التي تعرض لها هذا المفهوم” في السنوات الأخيرة. فهو يدافع عن فكرة المصلحة الوطنية بوصفها شيئًا حقيقيًا، وذلك لأن النظرة المستقلة للمسؤولين ورغباتهم في الاحتفاظ بصورة ذاتية محترمة تقودهم لإبداء تصريحات عن المصلحة العامة بما يخولهم جني الدعم الشعبي ودرء الضغوطات الخاصة”. ومن ثم فهم يتبنون “سياسات طويلة المدى واسعة النطاق” تهدف إلى تحقيق نتائج مثل “الحفاظ على النظام السياسي والاقتصادي” (1988, 882). ويعتبر هذا مؤشراً على تحيز التحليل، حيث يُعتبر الحفاظ على الوضع السياسي والاقتصادي الراهن (Status quo) دليلًا لا مراء فيه على المصلحة الوطنية الحقيقية.
هذا ويمكن التقدم في إظهار اعتماد المقاربة الدولتية على منطلقات ذاتوية (Subjectivist) من خلال الانتقال إلى حالتنا الثانية، وهي أعمال ستيفن كراسنر (Stephen Krasner (1978. فهو مثله مثل نوردلينغر يبدأ من فرضية قوامها أن الدولة ينبغي أن تفهم أساسًا بوصفها عملية ذاتية لصنع السياسات. ودراسته للعلاقة بين استثمار الشركات عابرة البحار في المواد الخام وبين السياسة الأمريكية “تقوم على أساس الرؤية الفكرية التي ترى الدولة تصوغ بصورة مستقلة أهدافًا ثم تسعى لتطبيقها ضد مقاومة الفاعلين الدوليين والمحليين” (p. 10). وهذه الدولة المستقلة تُفسر بطريقة ربما أكثر ضيقًا من تفسير نوردلينغر “الموظفيين العموميين كأوضح صورة للدولة” وذلك لأن معناها محدود في الأساس باثنين فقط من الموظفين التنفيذيين، الرئاسة، ووزارة الخارجية، التي يقال أنها تتمتع “بدرجة عالية من الانعزال عن ضغوط مجتمعية محددة” (p. 11). ولا يستبعد كراسنر إمكانية أن تكون وزارات أخرى مثل البنتاغون أو المالية أو التجارة، أو المخابرات المركزية (CIA) “محل اعتقاد أنها جزء من الدولة” لكنه يقرر استبعادها بحجة أن “سلوكياتهم متغيرة. ففي بعض الأحيان تصرفوا لتعزيز أهداف جماعية، وفي أحيان أخرى لتعزيز مصالح مجتمعية وبيروقراطية معينة” (p. 11). فالمؤلف يدعم رؤيته الفكرية عن الدولة على أنها مروج مستقل لأهداف جماعية عبر استبعاد أجهزة الدولة التي تخفق أحيانًا في أن تكون على قدر هذه الرؤية.
يحلل الكتاب سياسات الحكومة الأمريكية نحو السيطرة على المواد الخام الأجنبية عبر الشركات الأمريكية متعددة القوميات. ويسعى لإظهار أن الدولة مستقلة عن هذه المصالح المجتمعية، عبر إثبات أن السياسات الأمريكية تشكلت لا عبر المصالح الاستراتيجية أو الاقتصادية (وهو ما قد يدل على قدر من تأثير الشركات) بل عبر أيديولوجيا مستمرة ومتسقة. فالمصالح الاستراتيجية مستبعدة كتفسير للسياسات الأمريكية وذلك ببساطة بتعريف ما هو استراتيجي بأنه يعني فقط الحالات التي تكون فيها سلامة أراضي الولايات المتحدة أو سياستها مهددة تهديدًا مباشرًا (pp. 313-14). وفي ظل هذا التعريف، يقال أن الجهود الأمريكية لحماية المصالح النفطية في الخليج الفارسي، على سبيل المثال، لم تكن دوافعها استراتيجية وذلك لأن البقاء المادي للولايات المتحدة أو نظامها السياسي لم يكن على المحك.
كذلك تُستبعد المصالح الاقتصادية كتفسير بحجة أن أي تفسير في إطار اقتصادي “لا يحسب حسابًا للاستجابة الأمريكية السلبية نسبيًا على المخاطر التي تشكلها القومية الاقتصادية” (p. 316). ولعل أهم دليل ساقه كراسنر على السلبية المزعومة، هو رد الفعل الأمريكي على تأميم محمد مصدق لشركة النفط الأمريكية الإنجليزية (Anglo Iranian Oil Company) في 1951-1953. ومع ذلك عند تفحص الأمر بعناية، سنجد أن هذه الحالة (التي كانت ضحيتها شركة بريطانية وليست أمريكية) لا تقدم دعمًا لهذه الأطروحة. فصحيح أن الولايات المتحدة كانت مبدئيًا أقل عدائية من بريطانيا العظمى تجاه زعيم قومي محافظ شرق أوسطي مثل مصدق، لا سيما أن دعم مثل هذه القومية يمكن الولايات المتحدة من تحدي وضع بريطانيا المهيمن في المنطقة. لكن الرد الأمريكي السلبي تألف أولًا من المساعدة في إنفاذ الحظر بقيادة بريطانية على النفط الإيراني، ومن ثم، عندما فشل ما نتج عن ذلك من انهيار الاقتصاد الإيراني في تغيير سياسات مصدق وشحذت من راديكالية مؤيديه، عملت الولايات المتحدة على تنظيم إنقلاب للإطاحة بالحكومة المنتخبة واستعادة سلطة الشاه الاستبدادية (Gasiorowski 1987).
ويبني كراسنر حجته المتمثلة في أن سياسات الولايات المتحدة “لا يمكن تفسيرها بسهولة في ضوء مصالح الشركات” على حقيقة أن الولايات المتحدة مبدئيًا لم تضغط على مصدق كي يسمح للشركات عابرة القوميات بالوصول إلى النفط الإيراني (1987, 127). ولكن مصالح شركات النفط لم تكن كامنة في الحصول على إمكانية الوصول هذه. بل كانت تكمن أولًا في منع الإيرانيين من تسويق نفطهم بأنفسهم عبر تجار مستقلين، وهو ما كان له أن يكسر الاحتكار العالمي لكبرى شركات النفط ونظام تثبيت الأسعار غير القانوني والذي يعتمد على هذا الاحتكار، وثانيًا في وقف التحقيق الجنائي لوزارة العدل الأمريكية في تثبيت الأسعار. وقد تجاوبت الحكومة الأمريكية مع هذه الرغبات، وعلاوة على ذلك أجبرت الإيرانيين على السماح للشركات الأمريكية بالمشاركة في السيطرة على نفطهم.
وفيما يبدو كدحض للتفسيرات الاقتصادية والاستراتيجية لسياسات الولايات المتحدة تجاه الاستثمارات في المواد الخام الأجنبية، يقدم كراسنر محاجته حول الأيديولوجيا باعتبارها الدافع التفسيري. ودليله القاطع هنا لا يتمثل في أي من قضايا المواد الخام التي حللها في الكتاب، بل بالأحرى في حرب فيتنام. وهو في هذا يقر بأن التبريرات الأيديولوجية الأمريكية لاستثمارها في فيتنام لم تكن منطقية ولا متسقة (pp. 321-22). وهذا ما قد يوحي بأن التبريرات الأيديولوجية تم تعديلها وفقًا للحاجة السياسية أو كانت انعكاسًا لصراعات داخل الإدارة، أو ببساطة كانت محاولة مشوشة للدفاع عن حرب لم يعد حتى المسؤولون عنها يؤمنون بها. ولا يأخذ كراسنر أي من هذه الاحتمالات بعين الاعتبار، لكنه يعلن بدلًا من ذلك أن غياب الاتساق والعقلانية هو “السمة المميزة لسياسة أجنبية أيديولوجية”.
واحتمالية أن تكون المصالح الاقتصادية قد لعبت دورًا ما بجوار الدوافع الأيديولوحية في إطالة الحرب، نظرًا للأرباح الكبيرة التي حققتها شركات الأسلحة، هو أمر مستبعد وذلك مع ملاحظة أنه كان من الأسهل دعم الإنفاقات العسكرية المرتفعة “عبر تصوير الاتحاد السوفييتي والصين كأعداء ألداء عوضاً عن الانخراط في حرب برية في جنوب شرق آسيا” (p. 324). حتى لو اتفق المرء جدلًا مع هذا الزعم غير المثبت، فلن يظهر هذا أن مصالح الشركات لم تلعب دورًا في استمرار الحرب؛ لكن الكتاب في كامل حجته عن استقلالية الدولة يستند إلى هذا التأكيد بمفرده. وهو ما يمكن كراسنر من استنتاج أن أي “نفور من الشيوعية” يمكن عزوه إلى “السيطرة الحصرية لليبرالية اللوكية [1] في الولايات المتحدة” والتي تحدد سياساتها في السيطرة على المواد الخام لدول أجنبية، ومن ثم لا يمكن تفسير سياسات الدولة بالاستناد إلى المصالح المجتمعية.
إن استقلالية الدولة المزعومة لدى كل من كراسنر ونوردلينغر قد نتجت إلى حد كبير من تعريفهم للدولة. فموضوع التحليل الذي لا شكل له يختزل هنا إلى شيء ما يسمى سياسات (Policy)، والتي تعني مقاصد ورغبات بعض مسؤولي الدولة. تصبح الدولة هذه فكرة مثالية غير مجسدة، توصف بأنها المصلحة الوطنية ولا تُدرس كتأثير بلاغي بل كمثالية حاكمة تتولد ذاتيًا. والكتابات من هذا النوع لا ينبغي النظر فيها وفقًا لمزاعمها العلمية الخاصة. ومثلما تبين الأمثلة التي ساقها كراسنر، فإن دراسات الحالة (Case Studies) التي تدعم زعم استقلالية الدولة مختصرة وتقدم قراءة غير مقنعة لأحداث سياسية معقدة. وتتجنب مقالات نوردلينغر الحديثة هذه المشكلة بالإحجام كلية عن تقديم دراسات حالة. وقد أشار ألموند (Almond 1987, 476) إلى أن نتيجة قدر كبير من هذه الأدبيات هو “إعادة إضفاء الغموض على مفهوم الدولة” وإذا كان الأمر كذلك، ينبغي إذًا النظر إلى كتابات من هذا النوع كجزء من عملية اجتماعية أوسع لتوليد التأثير الغامض للدولة، بوصفها كيانًا منفصلًا ذاتي الإرادة.
الدولة بوصفها “تنظيمًا فعليًا”
تظهر إسهامات ثيدا سكوتشبول في المقاربة الدولتية لتقدم شيئًا مختلفًا تمامًا عما قدمه كراسنر ونوردلينغر. فكلا عمليها عن سياسة الصفقة الجديدة [2] (The New Deal) ودراستها المقارنة المبكرة عن الثورات الاجتماعية تقوم على قراءات مستفيضة لدراسات حالة مفسرة بعناية. وهي فضلًا عن ذلك، ترفض بوضوح أي مقاربة “إرادية” (Voluntarist) لدراسة الدولة. في كتابها الدول والثورات الاجتماعية (States and Social Revolutions (1979، تنفي سكوتشبول إمكانية تفسير حدوث الثورات الكبرى ومآلاتها وفقاً للرؤى الأيديولوجية للزعماء الثوريين أو قادة الدول. وبدلًا من ذلك يقترح الكتاب مقاربة “تنظيمية ” (Organizational approach) يتم فيها تفسير الانهيار الثوري وبناء دول جديدة عن طريق نقاط الضعف والقوة البنيوية للدول نفسها.
ولكن، على الرغم من هذه الاختلافات، يمكن إظهار أن حجة سكوتشبول حول استقلالية الدولة تظل تفسيرًا إراديًا أيديولوجيًا. ومرة أخرى تعتمد الحدود الواضحة بين الدولة والمجتمع، والتي تُبنى عليها حجة الاستقلالية، على ذاتية جوهرية (Essential subjectivity) بوصفها الأساس لتميز الدولة. وسنرى أن سكوتشبول تنتقل لاحقًا إلى ما وراء هذه الذاتية. ولكن بمجرد انتقالها هذا، تختفي الحدود بين الدولة والمجتمع والدليل على الاستقلالية.
تركز سكوتشبول في تفسيرها للثورات الفرنسية والروسية والصينية على انهيار الدولة المستقلة (Autonomous state)، التي يتم برهنة استقلاليتها بإظهار أن الانهيار يأتي كنتيجة لسياسات الدولة المعيبة والروابط المؤسسية مع المجتمع وليس لأي صراع أكبر بين الطبقات الاجتماعية المسيطرة (p. 48). ومثلما هو الحال مع منظري الدولة الآخرين، فإن أول خطوة في الحجة هي تضييق تعريف الدولة لضمان استبعاد الأجهزة التي قد تخترقها العناصر “التي لا تمثل الدولة” (Nonstate). ولتحقيق هذه الغاية، تميز سكوتشبول تنظيمات الدولة “الأساسية” عن “النظام السياسي” الأوسع. وتكتب في هذا الصدد أن “الدولة، في التصور الملائم” تتألف من “مجموعة من التنظيمات الإدارية والشرطية والعسكرية يرأسها، وتنسق بينها جيداً سلطة تنفيذية”. ومثل هذه التنظيمات لا تمثل سوى جزءًا من “نظم سياسية شاملة” قد تشمل أيضًا “مؤسسات يتم عبرها تمثيل المصالح الاجتماعية في صنع سياسات الدولة، فضلًا عن مؤسسات يتم من خلالها تعبئة الفاعلين ممن لا ينتمون للدولة للمشاركة في تطبيق السياسات” (p. 29). ويعد هذا التمييز بين التصور الملائم للدولة والنظام السياسي، كما هو واضح، تمييزًا ضرورياً بالنسبة لحجة استقلالية الدولة، وذلك رغم أنه لم يقدم إلا عرضًا في ظل افتقادنا لأي وسيلة لمعرفة إذا كانت أي من المؤسسات تنتمي إلى النظام السياسي فحسب أم إلى الدولة. في الممارسة، يتم اجتياز هذه الصعوبة عبر إحلال العبارة الأخيرة محل مصطلحات أضيق، وهي في معظم الحالات الملكية (Monarchy).
بتضييق معنى الدولة على هذا النحو، تصبح المرحلة التالية في التفسير هي تقديم مصلحة أو سياسة للدولة تتسبب في الأزمة الثورية حيث ترى سكوتشبول في حجتها أنه في المجتمعات الثورية الثلاثة “كان الملوك مهتمين بالاستيلاء على الموارد المتزايدة من المجتمع وتصريفها بكفاءة في التوسع العسكري أو التنمية الاقتصادية تحت رعاية الدولة وسيطرتها المركزية” (p. 49). ومثلما كان الحال عند كراسنر ونرودلينغر، فإن مصحلة الدولة هذه يفترض أن تكون الأساس لاستقلاليتها. ولا يجب تفسيرها بربطها بأي مصالح تجارية أو سياسية أوسع، بل بوصفها الرغبة المستقلة للدولة.
في فرنسا، على سبيل المثال، كان سبب الانهيار الثوري تورط الدولة المكلف في حروب أجنبية، وذلك في تنافسها على الأسواق وطرق التجارة، والمستعمرات. وتفسر سكوتشبول هذا التورط من ناحية أيديولوجية، على أنه شيء “ضروري للدفاع عن الشرف الفرنسي على الساحة الدولية،” مضيفة إلى ذلك، في الغالب كنوع من الاستدراك، “ناهيك عن حماية التجارة البحرية” (p. 60). وفي حين أن فرنسا يطلق عليها “قوة تجارية” فإننا لا يصل إلى علمنا شيئ حول طبيعة هذه التجارة أو الأنواع الأوسع من المصالح السياسية أوالاقتصادية المتضمنة (شركات التجارة، والسلع التي يتم الإتجار فيها ومنتجيها، والصناعات التي تخدمها هذه التجارة، أو دور بيوت المال، وصناعة الشحن وشركات الاستعمار). تستبعد سكوتشبول، كما يبدو، احتمالية أن المصالح من هذا النوع قد تكون على الأقل من الأهمية ما يجعلها عاملاً في سياسات الدولة مثلها مثل أيديولوجية الشرف الفرنسي، وذلك أنها تذكر في الصفحة التالية أن تورط الدولة لاحقًا في “حروب عامة مطولة ومتكررة” يعزى إلى عدم استعداد الملكية التخلي عن “طموحاتها العسكرية،” وبعد عدة صفحات، تذكر سكوتشبول أن ما “قاد أسرة بربون (Bourbon) الملكية إلى أزمة مالية حادة” كان “ولعها الجامح بالحرب” (pp. 61-64). ومن ثم فإن الأزمة الأولية للدولة اختزلت في مسألة أيديولوجية وهي المصلحة في “الدفاع عن الشرف الفرنسي”، وتتبع “الطموحات العسكرية”، أو “الولع بالحرب” الذي لا يمكن اختزاله. تصبح المصلحة الملكية، والتي يبدو أنها تشكلت تشكلًا ذاتيًا، هي العنصر الذي لا يمكن اختزاله في تفسير سلوك الدولة.
غير أن هذه الصورة الذاتية (Subjectivist) الضيقة للدولة، تتعارض في حالة سكوتشبول مع تفسيرها الإضافي للثورة. ففي الاستجابة للأزمة التي تسببت فيها الهزائم في الحرب أو تهديدات خارجية أخرى، توضح الكاتبة أن الدولة مقيدة بعلاقاتها المؤسسية مع الطبقات العليا الإقطاعية (Landed upper classes). وتقدم سكوتشبول شرحاً مفصلاً لهذه العلاقات لكل من دراسات الحالة الثلاث التي قدمتها، التي يتضح معها أن الدولة ما قبل الثورة هي شيء أكبر وأكثر غموضًا بكثير من مجرد العاهل أو الملك. وعلى الرغم من أن المقاربة “التنظيمية” في دراسة الدولة تصر أن الدول هي “تنظيمات فعلية” تتميز حدودها عن المجتمع (p. 31)، فإن التفسير النير عند سكوتشبول لهذه التنظيمات في فرنسا وروسيا والصين يبين أن من المستحيل رسم الحدود في الواقع. ففي الحالات الثلاث، لا يمكن فصل القوة الإقليمية والمحلية للدولة عن القوة السياسية لطبقات ملاك الأراضي.
في فرنسا، لا تُوصف بنية الدولة على أنها تنظيم فعلي بل كشبكة “بالغة التعقيد … ومتعددة المستويات” من المقاطعات الإقطاعية، والمؤسسات البلدية ، والمجالس الإقليمية، تتم المحافظة عليها من خلال نظام شراء المناصب” حيث تُجمع الإيرادات من خلال بيع مناصب الدولة، التي أصبحت ممتلكات فردية يمكن تأجيرها، أو إعادة بيعها، أو توريثها (pp. 52-53). وفي هذا السياق، تقدم روسيا والصين صوراً مشابهة، ولكن في الحالة الأخيرة تُسقط سكوتشبول التمييز المُحرج بين الدولة والمجتمع مدخلة الاستعارة المائعة عن “عالمين،” عالم مكون من اقتصاد زراعي ومجتمع وعالم آخر من جهاز للإدارة الامبريالية. وقد كان ترابط هذين العالمين مكثفًا، كما تخبرنا سكوتشبول، إلى درجة أن الفصل بينهما لا يكون سوى لأغراض تحليلية (p. 68). ومن ثم فإن وجود الدولة بوصفها تنظيمًا فعليًا يختفي كلية. وتقر سكوتشبول في نهاية المطاف باستحالة تمييز الدولة والمجتمع بالجمع بين المصطلحين في عبارة واحدة والإشارة إلى البلدان الثلاثة بوصفها مجتمعات دولتية (Statist societies) (p. 167).
ثمة مشكلات شبيهة تظهر في النصف الثاني من كتاب الدول والثورات الاجتماعية، حيث ينتقل التحليل من أسباب الانهيار الثوري إلى أسباب ظهور دول مركزية قوية بعد الثورة. ومرة أخرى يقلل التفسير من دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية ويشدد على دور الأيديولوجيا -لا المضمون المحدد للأيديولوجيات الثورية، بل حقيقة أن القادة الجدد كانوا رجالًا “موجهين نحو” بناء الدولة (pp. 164-68). ولكن مرة أخرى، تأتي دراسات الحالة لهذه العملية في فرنسا وروسيا والصين لتعيد تقديم تفسير اقتصادي- اجتماعي أوسع، مفسراً اتجاه ومراحل بناء الدولة إلى حد كبير في ضوء قواعد الدعم الاجتماعية المختلفة لكل نظام.
ومن ثم فإن الحجج التي قدمها نوردلينغر وكراسنر وسكوتشبول في صالح مقاربة دولتية للتحليل السياسي تواجه مشكلة مشتركة وتقدم إجابات متشابهة. تكمن المشكلة، مثلما يقر بها كل منهم بصورة أو بأخرى، في أن حدود الدولة غير واضحة؛ يبدو أن العناصر المجتمعية تخترقها من جميع النواحي، وما ينتج من حدود بين الدولة والمجتمع يصعب تحديده. يواجه هؤلاء الكتاب هذه المشكلة بمنح الدولة تعريفًا ضيقًا مجسدًا إياها كشخص صانع للسياسات. والدولتية مثلها مثل الشخصانية يتم تصورها من ناحية مثالية في الأساس. فالدولة تقف منفصلة عن المجتمع بوصفها مجموعة من النوايا أو التفضيلات الأصلية، تمامًا مثل الأشخاص الذين يتم التفكير فيهم كوحدات من الوعي المستقل والرغبة متميزة عن عالمهم المادي والاجتماعي. ومهما كان مدى غموض حدودها، فإنها، أي الدولة، مثل الشخص تمثل وحدة جوهرية.
يتم الحفاظ على هذه الصورة عن الوحدة حتى في التحليلات التي تقدم عنصر الصراع بين أجزاء جهاز الدولة المختلفة. مثل هذا الصراع يعد مؤشرًا مهمًا لنفاذية حدود الدولة لأنه يمكننا من تعقب الكيفية التي تمكن الاختلافات الاجتماعية الأوسع من إعادة انتاج نفسها في عمليات الدولة. ولكن لا يوجد في الأدبيات الدولتية تحليل لمثل هذه الروابط الواسعة. فالوحدة الجوهرية للدولة يتم التعامل معها كمعطى من المعطيات، كما تعالج الصراعات كظاهرة ثانوية داخلية بالنسبة لهذه الوحدة الأكبر. بالتأكيد، إن أثر مثل هذه الصراعات الداخلية على صنع السياسات يتحول إلى جزء من الدليل على استقلال الدولة عن المجتمع.
في عملها حول الصفقة الجديدة (New Deal)، على سبيل المثال، تجادل سكوتشبول بأن تنظيمات الدولة والحزب ينبغي أن تعامل بوصفها مسببات مستقلة” للنتائج للمحصلات السياسية (1981, 156)، وذلك لأن لديها “هياكلها وتاريخها الخاص بها، والتي بدورها لها أثرها الخاص على المجتمع” (p. 200). وحجتها هنا تقوم على فشل فرانكلين دلانو روزفلت Franklin Delano Roosevelt والديمقراطيين الليبراليين أثناء المرحلة الإصلاحية للصفقة الجديدة (1935-1938) في تحويل الحكومة الفيدرالية إلى دولة ديمقراطية اجتماعية متدخلة في كل شيء (pp. 191-99). وقد كان السبب الرئيسي في هذا الفشل هو أن الدعم الشعبي لبرنامج روزفلت الإصلاحي لم يكن منعكسًا في الكونغرس، حيث كانت مصالح المحافظين مترسخة بقوة. كان سبب هذا الترسخ تأثير الديمقراطيين الجنوبيين (وهو ما يعكس بالطبع الترتيبات السياسية والاقتصادية في الجنوب استبعدت السود من المشاركة) وسببه أيضًا عمومًا السيطرة المحلية على انتخابات الكونغرس بواسطة “الماكينات أو التكتلات الخاصة للمصالح المنظمة” (p. 195). فقد أوقف المحافظون في الكونغرس الإنفاق على برامج الفقراء، وقادوا المعارضة لإصلاحات إدارية خوفًا من أنهم “سوف يكدرون صفو العلاقات التكافلية القائمة بين الكونغرس والبيروقراطيين وجماعات المصالح المنظمة في المجتمع عمومًا” (p. 194). وعلى الرغم من انتخاب رئيس ذو برنامج للإصلاح الشعبي، فإن قوة المحافظين وغيرهم من المصالح المنظمة في المجتمع كانت ممثلة بدرجة كافية في الدولة لتعطيل الإصلاحات. وتفسر سكوتشبول هذا كدليل على حجة أن مؤسسات الدولة هي في الأساس مسببات مستقلة للنتائج السياسية. والحقيقة أن هذه الحالة تقدم مثالًا ممتازًا عن الكيفية التي عكست بها الصراعات داخل الدولة اختراق القوى الاجتماعية الأوسع لها.
مقاربة بديلة
دائمًا ما تبدأ المقاربة الدولتية من افتراض أن الدولة كيان متميز، معارض لكيان أكبر ومستقل عنه هو المجتمع. والحجج في هذا الصدد نجدها مقتصرة على تقدير مدى الاستقلال الذي يتمتع به كيان عن الآخر. ولقد رأينا في حقيقة الأمر أن الخط الفاصل بين الكيانين غالبًا ما يكون مبهماً. ومثلهم مثل من سبقوهم من منظري النظم، فإن المدافعين عن المقاربة الدولتية لم يتمكنوا من تثبيت الحدود المرواغة بين النظام السياسي أو الدولة، والمجتمع. ومن ثم يجب لأي مقاربة بديلة للدولة أن تبدأ من هذه الحدود غير الواضحة. في أي مجال من مجالات الممارسة، كيف جعل التأثير جوانباً معينة تختص بالمجتمع، بينما تظهر جوانب أخرى مستقلة بوصفها الدولة؟ والأهم، ما دلالة إحداث هذا التمييز؟
حالة أرامكو
لتقديم مثل هذه المقاربة البديلة، يمكننا البدء بحالة وردت مناقشتها في دراسة كراسنر للسياسة الخارجية الأمريكية: العلاقة بين الحكومة الأمريكية وشركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) (Arabian American Oil Company – Aramco)، وهي مجموعة شركات الزيت الأمريكية الرئيسية التي تمتلك الحقوق الحصرية للنفط السعودي (1978, 205-12). توضح الحالة كلًا من نفاذية[4] حدود الدولة- المجتمع وكذلك الأهمية السياسية للإبقاء على تلك الحدود. فبعد الحرب العالمية الثانية، طالب السعوديون بأن تزيد مدفعوات حق الملكية من أرامكو من 12% إلى 50% من الأرباح. ولعدم استعدادها تخفيض أرباحها أو رفع سعر النفط، رتبت أرامكو للزيادة في حق الملكية على ألا تكون من الشركة بل من دافعي الضرائب الأمريكيين. وقد ساعدت الخارجية الأمريكية، التي كانت حريصة على دعم النظام الملكي السعودي المؤيد لأمريكا، في ترتيب استفادة أرامكو من ثغرة في قانون الضرائب الأمريكي، حيث اعتبرت حقوق الملكية كما لو كانت ضرائب أجنبية مباشرة، لا تدفع من أرباح الشركة، بل من الضرائب التي تدين بها للخزانة الأمريكية. وهذا التواطؤ بين الحكومة وشركات النفط، والذي أجبر المواطنين الأمريكيين على الإسهام دون وعي في خزينة نظام ملكي شرق أوسطي قمعي وكذلك أرصدة البنوك لبعض من أكثر الشركات متعددة الجنسيات ربحية في العالم، لا يقدم كثير من الدعم لصورة التمييز الدقيق بين الدولة والمجتمع.
ويحاول كراسنر التعامل مع هذا التعقيد بالمجادلة أن شركات النفط كانت آلية مؤسسية استخدمها صناع القرار المركزيون لتحقيق أهداف بعينها في السياسة الخارجية؛ وهي في هذه الحالة الدعم السري لنظام عربي محافظ. والسياسات التي ربما عارضها الكونغرس أو الحلفاء الأجانب كان من الممكن السعي لتحقيقها عبر مثل هذه الآليات وذلك “من ناحية جزئية لأن المؤسسات الخاصة كانت خارج النظام السياسي الرسمي” (pp. 212-13). وهذا التفسير لا يعرض إلا جانب واحد للصورة: فالشركات نفسها أيضًا استخدمت الحكومة الأمريكية لدعم أهدافها الخاصة، مثلما توضح حالة أرامكو ومثلما أظهرت بالتفصيل دراسات عديدة لصناعة النفط (I. Anderson 1981, Blair 1976, Miller 1980). ولكن على الرغم من فشله في تصوير تعقيد مثل هذه العلاقات بين الدولة – المجتمع، فإن كراسنر يشير دون قصد إلى ما هو مهم للغاية في تلك العلاقات. فحالة أرامكو توضح كيف أن الآليات المؤسسية لنظام سياسي حديث لم تكن قط حبيسة حدود ما يسمى الدولة (أو في هذه الحالة، وبما يكفي من فضول، “النظام السياسي الرسمي”). وهذا ليس بقصد القول بباسطة إن الدولة هي شيء محاط بمؤسسات شبه دولة أو تابعة للمصالح الخاصة، تدعم سلطتها وتمدها. بل القصد هو المحاجة بأن حدود الدولة (أو النظام السياسي) لا تشير قط لوجود جدار حقيقي. فالخط الفاصل بين الدولة والمجتمع ليس محيطًا لكيان حقيقي يمكن تصوره كجسم أو فاعل مستقل بذاته. إنه خط مرسوم داخليًا، داخل إطار من الآليات المؤسسية الذي يتم من خلالها الحفاظ على نظام اجتماعي وسياسي معين.
ومسألة أن حدود الدولة لا تميز قط مظهراً خارجياً حقيقاً (Exterior) توحي بأسباب ما تبدو عليه معظم الوقت من مراوغة وعدم ثبات. لكن هذا لا يعني أن الخط الفاصل خط وهميً. على العكس تمامًا، فمثلما تبيَن حالة أرامكو، إن إنتاج التمييز بين الدولة والمجتمع والمحافظة عليه هو في حد ذاته آلية تولد موارد للنفوذ. فحقيقة أن أرامكو يمكن أن تقع خارج النظام السياسي الرسمي، وتخفي بذلك دورها في السياسة الدولية، هو أمر جوهري لقوتها كجزء من نظام سياسي أكبر.
يمكن استكشاف الكثير من الأمثلة الشبيهة، مثل العلاقة بين الدولة والمؤسسات الخاصة في القطاع المالي، أو في قطاع المدارس والبحث العلمي، أو في الرعاية الصحية والممارسة الطبية. وفي كل حالة من هذه الحالات يمكن إظهار أن تقسيمة الدولة – المجتمع ليست مجرد حد فاصل بسيط بين الكيانين أو المجالين القائمين بذاتهما، بل هو تمييز معقد داخلي بالنسبة لهذه العوالم العملية. ولنأخذ مثال القطاع المصرفي: العلاقة بين مجموعات الشركات المصرفية الكبرى، البنوك المركزية شبه العامة، أو أنظمة الاحتياطي (Reserve systems)، وخزانة الدولة، وهيئات تأمين الودائع ومصارف التصدير والاستيراد، والهيئات متعددة القوميات مثل البنك الدولي، كلها تمثل شبكة متشابكة من القوة المالية والسلطة التنظيمية. لا يوجد خط بسيط يمكن أن يقسم هذه الشبكة إلى عالم خاص وآخر عام، أو إلى دولة ومجتمع. وفي الوقت نفسه، تُؤسسس المصارف وتقدم نفسها كمؤسسات خاصة منفصلة بوضوح عن الدولة. والمظهر الذي يوحي بأن الدولة والمجتمع شيئان منفصلان هو جزء من الطريقة التي يتم بها المحافظة على نظام مالي واقتصادي معين. وهذا يصدق بالمثل على النظام الاجتماعي والسياسي الأوسع. فسلطة التنظيم والتحكم ليست ببساطة قدرة كامنة في الدولة، تمتد منها إلى المجتمع. إن الحدود الظاهرة للدولة لا تميز حدود عمليات التنظيم. إنها نفسها نتاج لتلك العمليات.
ومقاربة الدولة محل المناصرة هنا لا تعني صورة تجمع الدولة والمؤسسات الخاصة كبنية فردية شمولية للقوة أو السلطة. على العكس تمامًا، هناك دائمًا صراعات بين بعضها البعض، مثلما توجد صراعات بين الهيئات الحكومية المختلفة، وبين الشركات، وفي داخل كل منها. وهذا يعني أننا لا ينبغي أن نقع في تضليل يقودنا للقبول بفكرة الدولة ككيان متماسك منفصل بوضوح عن المجتمع بالدرجة نفسها التي ينبغي ألا نضل ويقودنا تعقيد هذه الظواهر لرفض فكرة الدولة كلياً.
وفق هذا التصور، لا يمكن أن نستمر في اعتبار الدولة فاعلاً جوهرياً تتمتع بالتماسك (Coherence) والفاعلية (Agency) والذاتية (Subjectivity) التي يحملها هذا المصطلح. ولا ينبغي لنا أن نسأل “من هي الدولة؟” أو “من يملي سياساتها؟” مثل هذه الأسئلة تفترض ما تزعم إجاباتها إثباته: أن ذاتاً سياسية معينة، أو شخص ما يوجد مسبقًا ويحدد تلك الترتيبات المتعددة التي نسميها الدولة. إن الترتيبات التي تنتج الانفصال الظاهر للدولة هي ما يخلق التأثير المجرد للفاعلية (Agency)، مع تبعات ملموسة. ومع ذلك فإن مثل هذه الفاعلية دائمًا ما ستكون متوقفة على إنتاج الفرق (The production of difference) أي على تلك الممارسات التي تخلق الحدود الظاهرية بين الدولة والمجتمع. ومع ذلك، قد تكون هذه الترتيبات مؤثرة، بما يجعل الأشياء تبدو على عكس ذلك. وتبدو الدولة كنقطة انطلاق ذاتية، مثل فاعل يتدخل في المجتمع. والمقاربات الدولتية في التحليل السياسي تأخذ هذا الانعكاس على أنه حقيقة.
ما نقترحه هنا في المقابل هو مقاربة للدولة ترفض القبول ببديهية هذا الفرق، وفي الوقت نفسه، تسعى لتفسير أسباب ظهور الواقع الاجتماعي والسياسي في هذه الصورة الثنائية. لا يكفي ببساطة نقد الظهور المجرد والمثالي الذي تضطلع به الدولة في كتابات منظري المقاربة الدولتية. فعلى سبيل المثال، يشتكي ألموند Almond (1987, 476) أن مفهوم الدولة المستخدم في كثير من الأدبيات الجديدة “يبدو أن له إيحاءات ميتافيزيقية”، فيما يجادل إيستون (Easton (1981, 316، أن أحد الكتاب صور الدولة بوصفها “شبح في الماكينة” لا تُعرف إلا عبر تجلياتها المتغيرة.” ومثل هذه الانتقادات تتجاهل حقيقة أن هذه هي الكيفية التي تظهر بها الدولة أغلب الوقت على أرض الواقع. ومن ثم فإن مهمة أي نقد للدولة لا تتمثل في مجرد رفض مثل هذه الميتافيزيقا، بل تفسير كيف كان من الممكن إنتاج هذا التأثير العملي والشبحي (Ghost-like) في آن واحد. ما الذي يمتاز به المجتمع الحديث، كنظام اجتماعي واقتصادي ذو شكل خاص ، والذي جعل من الممكن تحقيق استقلالية الدولة الظاهرة بوصفها كياناً قائمًا بذاته؟ لماذا يعتبر هذا النوع من الأجهزة [5] (Apparatus) المبني عادةً على منظومة مجردة من القانون، والمرتبط بشكل متعال (Transcendental) مع الأمة كمجتمع سياسي أصيل أساسي (انظر، على سبيل المثال: B. Anderson 1983) هو الترتيب السياسي المميز للعصر الحديث؟ تُهمل هذه الأسئلة العملية التاريخية من قبل منظري النظم السياسية الذين يرغبون في التخلص من مفهوم الدولة برمته وإعادة إرساء مفردات أكثر “علمية”.
كما تجاهل منظرو الدولة
أيضًا هذه الأسئلة التاريخية. ففي نظر بعض المؤلفين، مثل نوردلينغر، يرجع ذلك،
مثلما هو الحال عند منظري النظم، إلى أنهم يسعون لتفسيرات في هيئة مقولات قابلة
للتعميم، ومنطبقة على كل نظام سياسي. وهذا بالضرورة يستبعد تفسيرًا خاصاً وتاريخياً
لطبيعة الدول الحديثة. ولكن
حتى منظرو الدولة ممن يتبنون منظورًا تاريخيًا، مثل سكوتشبول، غير قادرين على تقديم تفسير تاريخي لمظهر الدولة الحديثة. ونظراً لالتزمها
بمقاربة تُعامل الدولة كسبب
مستقل، لا تستطيع سكوتشبول أن تفسر قدرة الدولة على الظهور ككيان منفصل عن المجتمع
وفق عوامل خارجية عن الدولة. فالدولة يجب أن تكون سببًا مستقلًا للأحداث، حتى
عندما تكون هذه الأحداث تتضمن الميلاد الفعلي لدولة حديثة تبدو في ظاهرها مستقلة،
مثلما رأينا في حالة فرنسا الثورية.
ظهور الهيكل
لتوضيح نوع التفسير الذي قد يكون ممكنًا، يمكننا العودة إلى معالجة سكوتشبول للحالة الفرنسية. فهي تصف فرنسا الثورية كمجتمع دولتي (Statist society)، مما يعني مجتمعًا كانت فيه قوة ملاك الأراضي النبلاء وإدارة الدولة المركزية مرتبطة بعضهما ببعض ارتباطًا لا فكاك منه. ويمكننا الآن وصف هذا الوضع بطريقة أخرى، كمجتمع تجعل فيها هذه التقنيات (Techniques) الحديثة الدولة تظهر على أنها كيان منفصل تقع بطريقة ما خارج مجتمع لم يتم مأسسته بعد. فالفترة الثورية تشير لاستحكام مثل هذه التكنيكات الحديثة. وتصف سكوتشبول التحول الثوري للدولة الفرنسية على أنه تحول في الأساس في الجيش والبيروقراطية، الذين أصبحا تنظيمات محترفة دائمة انفصل موظفوها للمرة الأولى عن الأنشطة التجارية والاجتماعية الأخرى، و تم زيادة حجمهم وفعاليتهم إلى حد كبير. وهذه التغيرات في نظر سكوتشبول ينبغي فهمها كنتيجة لدولة مستقلة، أراد رغب موظفوها الشروع في توسيع وتكثيف القوة المركزية. ومن ثم فإننا ليس لدينا سوى تفاصيل قليلة حول الآليات التي بنيت عليها مثل هذه التحولات الثورية.
كيف أصبح من الممكن في ذلك الحين تجميع جيش دائم قوامه ثلاثة أرباع مليون رجلًا، وتحويل اقتصاد بأكمله إلى إنتاج من أجل الحرب، والحفاظ على السلطة والانضباط بهذا القدر، ومن ثم “فصل” هذه الآلة العسكرية عن المجتع بما يخلق إمكانية التغلب على المشكلة التقليدية المتمثلة في الفرار من الجندية؟ وبأي وسائل موازية تمت السيطرة على أنواع الفساد وتسربات الإدارة المالية؟ وماذا كانت طبيعة “الكفاءة الميكانيكية والإفصاح” (Mechanical efficiency and Articulation) طبقًا للعبارة المقتبسة من بوشر J.F. Bosher (Skocpol 1979, 200)، والتي تمكن في كل مجال من تحقيق “فضائل التنظيم لجبر رذائل الرجال الأفراد”؟ وما هو نوع التعبير، بعبارة أخرى، الذي يمكن أن يبدو أنه يفصل ميكانيكيًا أي تنظيم عن الرجال الأفراد المكونين له؟ بدلًا من عزو مثل هذه التحولات إلى سياسات دولة مستقلة، سيكون من الأدق أن نتعقب من خلال هذه التقنيات الجديدة في التنظيم والتعبير الإمكانية الفعلية لجهاز دولة مستقل ومنفصل عن المجتمع.
أي تفسير لهذه الأسئلة يجب أن يبدأ بالاعتراف بالأهمية الهائلة لهذه المناهج الحديثة الميكروفيزيائية للنظام، والتي يسميها ميشيل فوكو Michel Foucault الأنظمة الانضباطية (Disciplines) (Foucault 1977). فقد تأسست القوة البيروقراطية والعسكرية الجديدة للدولة الفرنسية على القوى التي تولدت من التنظيم شديد التدقيق للمكان (Space) والحركة (Movement) والتسلسل (Sequence) والوضع (Position). فقوة الجيش الجديدة، على سبيل المثال، كانت تقوم على تدابير مثل بناء ثكنات كمواقع لحبس دائم منفصل عن العالم الاجتماعي، وإدخال تفتيش وتدريب يومي، متكرر في مناورات تنقسم إلى تسلسلات ومجموعات بمواقيت دقيقة، وبلورة تراتبيات معقدة للقيادة، فضلًا عن الترتيبات المكانية، والمراقبة. وبهذه التكنيكات يمكن للجيش أن يتحول إلى “ماكينة صناعية” ، كما وصفه دليل عسكري معاصر، ومن ثم فإن جيوشاً أخرى تبدو هنا مثل تجمعات من “رجال كسالى عاطلين (Fuller 1955, 196) .
لم يظهر أي من هذه المناهج بين عشية وضحاها. فالإصلاحات العسكرية الفرنسية في 1791، على سبيل المثال، تطورت من إصلاحات سابقة في بروسيا (Prussia)، وكانت لها سوابق في أماكن أخرى من أوروبا. ولم يكن الأمر كذلك مقتصرًا على الجيش. مثلما بين فوكو، فإن أساليب شبيهة من إحاطة المساحة وتجزئتها، ومنهجة المراقبة والتفتيش، وتقسيم المهام المعقدة إلى حركات يتم التدريب عليها بعناية، والتنسيق بين وظائف منفصلة في تركيبات أوسع، كل هذا تطور في الفترة الزمنية نفسها في المصانع والمدارس والسجون والمستشفيات والمؤسسات التجارية والهيئات الحكومية. وقد مثل انتشار هذه الأساليب من مجال إلى آخر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تكنولوجيا جديدة للقوة (Technology of power)، تتصف بالمحلية لكنها في الوقت نفسه واسعة الإنتاج.
وللمناهج الانضباطية للسلطة (Disciplinary methods of power) نتيجتين مهمتين لفهم الدولة الحديثة والتي حلل فوكو أولهما. فنحن في المقام الأول يمكننا الانتقال إلى ما وراء صورة السلطة بوصفها نظامًا للأوامر السلطوية أو السياسات المدعومة بالقوة. وكما رأينا، فإن هذه المقاربة القانونية تم تبنيها من جميع منظري الدولة ممن تمت مناقشتهم هنا. وهي تتصور سلطة الدولة في صورة شخص (فرد أو جهة صنع قرارات جماعية)، تُشكل قراراته نسقًا من الأوامر والنواهي توجه الفعل الاجتماعي وتقيده. أما السلطة فتُفهم على أنها مقيد خارجي: مصدرها سلطة سيادية فوق المجتمع وخارجه، وهي تعمل عبر وضع حدود خارجية على السلوك، مكرسة نواهي سلبية وواضعة قنوات للسلوك القويم.
في المقابل، لا تعمل السلطة الانضباطية (Disciplinary power) من الخارج بل من الداخل، ولا تعمل على مستوى مجتمع بأكمله، بل على مستوى تفصيلي، ولا بتقييد الأفراد واتجاهاتهم بل بإنتاجهم. تفسح السلطة الخارجية السلبية الطريق لسلطة داخلية إنتاجية. فالأنظمة الانضباطية تعمل في المجالات والمؤسسات المحلية، وتدلف إلى عمليات اجتماعية معينة، مقسمة إياها إلى وظائف منفصلة، ومعيدة ترتيب الأجزاء، رافعة بذك كفائتها ودقتها، وفي الوقت نفسه تعيد تجميعها في تركيبات أكثر إنتاجية وقوة. وهذه الأساليب إنما تنتج القوة المنظمة للجيوش، والمدارس والمصانع وغيرها من المؤسسات التي تميز الدول القومية أو دولة الأمة الحديثة (Modern Nation State). كما تنتج أيضًا، داخل هذه المؤسسات، الفرد الحديث (The modern individual)، الذي يتم بناءه كذات سياسية مثابرة، منعزلة ومتلقية ومنضبطة. لا تواجه علاقات القوة هذا الفرد كمجرد مجموعة من الأوامر والنواهي الخارجية. فردية الشخص نفسها، والتي تُشكل داخل هذه المؤسسات، هي بالفعل نتاج هذه العلاقات.
لا ينبغي لنا المبالغة في تقدير تماسك هذه التكنولوجيات، مثلما يفعل فوكو في بعض الأحيان. فالأنظمة العقابية أو الانضباطية (Disciplines) يمكن أن تتعطل، و تجابه أو تتجاوز بعضها البعض. وهي تقدم مساحات للمناورة والمقاومة، ويمكن في حقيقة الأمر أن يتم تحويلها إلى أغراض مقاومة الهيمنة، فحركات المقاومة غالبًا ما تشتق أشكالها التنظيمية من الجيش وطرقه في الانضباط، وتأخذ التلقين من النظام المدرسي، وفي واقع الأمر غالبًا ما تولد هذه الحركات في إطار الثكنات، أو الحرم الجامعي أو أي من مؤسسات الدولة. وفي الوقت نفسه، فإن الأمر يستتبع أننا مثلما يجب أن نتخلى عن صورة الدولة بوصفها فاعلًا قائمًا بذاته يصدر الأوامر، نحتاج أيضًا أن نشكك في الصورة التقليدية للمقاومة بوصفها ذات تقف خارج الدولة ترفض أوامرها. فالذوات السياسية وأساليب مقاومتهم تتشكل إلى حد كبير داخل المجال التنظيمي الذي نسميه الدولة، وليس في مساحة اجتماعية خارجية كلياً (انظر على سبيل المثال: Mitchell 1990).
النتيجة الثانية للسلطة الانضاطية (Disciplinary power)، والتي لا يناقشها فوكو لكنها أكثر أهمية لفهم غرابة ظاهرة الدولة، هي أن علاقات القوة في الوقت نفسه الذي تصبح فيه داخلية على هذا النحو، وبالطرق نفسها، تظهر بعد ذلك لتأخذ الصورة المبتدعة كبنى خارجية. ومثلما حاججتُ في كتابات أخرى (Mitchell 1988; N.d.)، فإن تميز الدولة الحديثة، والتي تظهر كجهاز يقف مستقلًا عن بقية العالم الاجتماعي، يجب البحث عنه في هذا التأثير البنيوي المبتدع. فهذا التأثير هو النظير لإنتاج الفردانية الحديثة. على سبيل المثال، إن الأساليب العسكرية الجديدة أواخر القرن الثامن عشر أنتجت الجندي الفرد المنضبط، كما انتجت في الوقت نفسه التأثير الجديد لوحدة عسكرية بوصفها آلة اصطناعية. وقد ظهر هذا الجهاز العسكري أكبر نوعًا ما من مجموع أجزاءه، برغم أنه كان عبارة عن بنية ذات وجود مستقل عن الرجال المكونين لها. وفي مقارنة مع جيوش أخرى، التي تبدو الآن كتجمعات لا شكل لها من الرجال الكسالى العاطلين، فإن الجيش الجديد بدا بشكل أو بأخر ذا بعدين. فقد بدا من ناحية أنه يتألف من جنود أفراد، ومن ناحية أخرى كآلة يسكنها هؤلاء الأفراد. وهذا الجهاز بالطبع ليس له وجود مستقل. إنه تأثير أنتجته التجزئة المنظمة للمساحة، والتوزيع المنتظم للأجساد، والتوقيت الدقيق، وتنسيق الحركة، وتركيب العناصر، والتكرار الذي لا ينتهي، وكلها تعد ممارسات محددة. ولم يكن هناك في القوة الجديدة للجيش سوى هذا التوزيع والترتيب والتحريك. ولكن ما يميز مثل تلك العمليات من نظام ودقة هو ما خلق تأثيراً لهذا الجهاز بمعزل عن الرجال أنفسهم، والذي يتولى هيكله إصدار الأوامر لهم واحتوائهم والتحكم بهم.
ويمكن
رؤية تأثير ثنائي الأبعاد مشابه في حالة عمل وتأثير في مؤسسات أخرى ضمن دولة
الأمة الحديثة. فالتخصيص الدقيق للمساحة والوظيفة التي تتصف بها المؤسسات الحديثة،
والتنسيق بين هذه الوظائف في ترتيبات تراتبية (Hierarchical)، وتنظيم الإشراف
والمراقبة، وتنظيم الوقت في جداول وبرامج، كل هذا يسهم في بناء عالم يظهر كأنه
متألف لا من تركيبة معقدة من الممارسات الاجتماعية، بل من نظام ثنائي: الأفراد
وأنشطتهم من جهة، ومن جهة أخرى البنية الجامدة التي تقف بطريقة ما بمعزل عن
الأفراد وتسبقهم وتحتويهم وتمنحهم إطارًا لحياتهم. والحقيقة أن مفهوم المؤسسة (Institution) نفسه، كإطار مجرد
منفصل عما بداخله من ممارسات بعينها، يمكن أن ننظر إليه بوصفه نتاجًا لهذه الأساليب؛
فقد تسببت مثل تلك الأساليب في ظهور العالم الغريب المزدوج (Binary) الذي
نعيش فيه، حيث يبدو الواقع متخذًا شكلاً ثنائي الأبعاد يظهر فيه الفرد مقابل الجهاز،
والممارسة مقابل المؤسسة، والحياة اجتماعية وبنيتها أو المجتمع مقابل الدولة.
الدولة كتأثير بنيوي
ثمة حاجة لتحليل الدولة بوصفها تأثيراً بنيوياً، وهذا يقتضي دراستها لا كبنية فعلية، بل بوصفها التأثير الميتافيزيقي القوي لممارسات تجعل هذه البنية تبدو موجودة. في الحقيقة، يمكن القول أن دولة الأمة (Nation State) هي التأثير البنيوي الأسمى للعالم الاجتماعي الحديث. وهي تشمل داخلها الكثير من المؤسسات المحددة التي ناقشناها بالفعل، مثل الجيوش والمدارس والأجهزة البيروقراطية. وفيما وراء ذلك، فإن الوجود الأكبر للدولة في طرق عديدة، يأخذ شكل إطار يظهر قائمًا بصورة مستقلة عن العالم الاجتماعي مقدمًا بنيةً خارجية. ومن بين السمات التي تميز الدولة الحديثة، على سبيل المثال، الحدود. فعبر إرساء حدود إقليمية وممارسة السيطرة المطلقة على الحركة عبرها، فإن ممارسات الدولة تساعد في تشكيل كيان قومي. فوضع الحدود وممارسة النشاط الشرطي عليه يتضمن ضروباً من الممارسات الاجتماعية التي تعد إلى حد كبير حديثة، مثل إقامة أسوار بأسلاك شائكة، وجوازات السفر، وقوانين الهجرة، والتفتيش، والتحكم في العملة، وغيرها من الممارسات. وهذه الترتبيات الدنيوية (Mundane)، التي لم يكن معظمها معروف من قرنين أو حتى من قرن مضى، تساعد في إنتاج كيان شبه متعالٍ وهو دولة الأمة. ومن ثم يصبح هذا الكيان ماثلًا في الأنظار على أنه شيء أكثر بكثير من مجموع الأنشطة اليومية التي تشكله، فيبدو مثل بنية تحتوي وتعطي نظامًا ومعنى لحياة الناس. والمثال الشبيه هنا هو القانون. إذ يمكننا مرة أخرى تحليل كيفية ترتيب التفاصيل الدنيوية للعملية القانونية، التي هي جميعها ممارسات اجتماعية محددة، كي تنتج التأثير الذي يوجده “القانون” كنوع من الإطار الرسمي المجرد، والمفروض فوق الممارسة الاجتماعية. وما نسميه دولة، ونعتقد أنه كيان حقيقي موجود بمعزل عن المجتمع، هو محصلة هذه التأثيرات البنيوية.
إن مقاربة الدولة كمجموعة من التأثيرات البنيوية (The State as a structural effect) أمر مختلف تمامًا عن المقاربة البنيوية (Structural Approach) (Poulantzas 1974; 1978). فالبنيوية (Structuralism) تسلم بفكرة البنية ـ كإطار فعلي يقع بشكل ما بمعزل عن الواقع الحسي كبعده النظامي (Dimension of order) ـ ولا تسأل البنيوية كيف لهذا الفصل الذي يبدو ميتافيزيقيا أن يتحقق. وهي من ثم تشارك فكرة ازدواجية المثالية- المادية (The ideal-material dualism) الخاصة بالمقاربات الدولتية التي ناقشناها في هذه المقالة. وبمقاربة الدولة كتأثير، يمكن للمرء أن يقر بقوة الترتيبات السياسية التي نسميها الدولة، وفي الوقت ذاته يفسر مراوغتها. ويمكن للمرء دراسة كيف تبدو الدولة منفصلة عن المجتمع بالرغم من اعتبار هذا التمييز ترتيبًا داخليًا. فحدود الدولة هي مجرد تأثير لمثل هذه الترتيبات ولا تدل على حد فاصل حقيقي. فهو ليس حدًا لشيء فعلي.
ولاختتام هذا النقد، يمكن تلخيص الحجة الساعية لمقاربة جديدة للدولة ومسألة حدودها في قائمة من خمس مقترحات:
- لا ينبغي التعامل مع الدولة على أنها كيان قائم بذاته، سواء كفاعل، أو كأداة، أو منظمة أو بنية، واقعة بمعزل عن وفي مقابل كيان آخر يسمى المجتمع.
- على الرغم من ذلك ينبغي التعامل مع التمييز بين الدولة والمجتمع على محمل الجد، بوصفه السمة التعريفية للنظام السياسي الحديث. فلا يمكن رفض الدولة كتجريد (Abstraction) أو بنية أيديولوجية وتجاوزها من أجل واقعيات أكثر واقعية ومادية. في الحقيقة، إن هذا التمييز بين ما هو مفاهيمي وما هو مادي، وبين ما هو مجرد وما هو واقعي، يحتاج أن يطرح كسؤال تاريخي إذا كنا نسعى لفهم كيفية ظهور الدولة الحديثة.
- للسبب نفسه، فإن النظرة الذاتية السائدة عن الدولة بوصفها في الأساس ظاهرة لصنع القرار أو السياسات هي نظرة غير ملائمة. فتركيزها على جانب واحد غير متجسد لظاهرة الدولة يذيب تمييز الدولة- المجتمع للتعارض الإشكالي المماثل بين المفاهيمي والمادي.
- يتبغي التعامل مع الدولة كتأثير لعمليات مفصلة من التنظيم المكاني، والترتيب الزمني، والتخصيص الوظيفي، والإشراف والمراقبة، وهو ما يخلق مظهرًا لعالم مقسم في الأساس لدولة ومجتمع. إن جوهر السياسة الحديثة لا يتمثل في سياسات تشكلت في جانب واحد من هذا التقسيم، يتم تطبيقها على أو صياغتها وفقاً للجانب الآخر، بل في إنتاج وإعادة إنتاج خط الاختلاف.
- تخلق هذه العمليات تأثير الدولة، لا ككيان منفصل عن المجتمع، بل كبعد مميز للبنية، وإطار وتقنين وتخطيط وقصدية. فالدولة تظهر كتجريد في علاقتها بمحسوسية المجتمعي، وكمثالية ذاتية في علاقتها بواقعية العالم المادي. والتمييز بين المجرد والملموس، والمثالي والمادي، والذاتي والموضوعي، الذي ينبني عليه معظم التنظير السياسي، هو في حد ذاته مبني جزئياً في تلك العمليات الاجتماعية الدنيوية التي نميزها ونسميها الدولة.
الهوامش
[1] نسبة إلى جون لوك [المترجم].
[2] مجموعة من البرامج الاقتصادية أطلقت في الولايات المتحدة بين عامي 1933 و1936، تضمنت مراسيم رئاسية وقوانين أعدها الكونغرس الأمريكي أثناء الفترة الرئاسية الأولى لروزفلت، وجاءت استجابة للكساد الكبير وتركزت على ما يسميه المؤرخون الألفات الثلاث: “الإغاثة والإنعاش والإصلاح”. لمزيد من المعلومات والتحليلات التاريخية والمراجع يمكن الرجوع إلى صفحة ويكيبيديا باستخدام العبارة الإنجليزية [المترجم].
[4] أي قابلية الدولة للاختراق أو خضوعها لتأثير مختلف القوى الاجتماعية (Permeability)[المترجم].
[5] الترتيبات المؤسسية التي تميز الدولة الحديثة
[المترجم].
المراجع
Almond, Gabriel A. 1954. The Appeals of Communism. Princeton: Princeton University Press
Almond, Gabriel A. 1960. “A Functional Approach to Comparative Politics.” In The Politics of the Developing Areas, eds. Gabriel A. Almond and James S. Coleman. Princeton: Princeton University Press.
Almond, Gabriel A. 1987. “The Development of Political Development.” In Understanding Political Development, eds. Myron Weiner and Samuel Huntington. Boston: Little Brown. Almond, Gabriel A. 1988. “The Return to the State.” American Political Science Review 82:853-74.
Almond, Gabriel A., Taylor Cole, and Roy C. Macridis. 1955. “A Suggested Research Strategy in Western European Government and Politics.” American Political Science Review 49:1042-44.
Almond, Gabriel A., and James S. Coleman. 1960. The Politics of the Developing Areas. Princeton: Princeton University Press. Almond, Gabriel A., and Sidney Verba. 1963. The Civic Culture: Political Attitudes and Democ- racy in Five Nations. Princeton: Princeton Uni- versity Press.
Anderson, Benedict. 1983. Imagined Communities: Reflections on the Origins and Spread of Nationalism. London: Verso.
Anderson, Irving H. 1981. Aramco, the United States, and Saudi Arabia: A Study of the Dynamics of Foreign Oil Policy. Princeton: Princeton University Press.
Blair, John M. 1976. The Control of Oil. New York: Pantheon. Easton, David. 1953. The Political System: An Inquiry into the State of Political Science. New York: Knopf.
Easton, David. 1957.”An Approach to the Analysis of Political Systems.” World Politics 9:383-400.
Easton, David. 1981. “The Political System Besieged by the State.” Political Theory 9:303-25.
Evans, Peter, Dietrich Rueschemeyer, and Theda Skocpol, eds. 1985. Bringing the State Back In. Cambridge: Cambridge University Press.
Foucault, Michel. 1977. Discipline and Punish: The Birth of the Prison. New York: Pantheon.
Fuller, J. F. C. 1955. The Decisive Battles of the Western World and Their Influence Upon History, 3 vols. London: Eyre and Spottiswoode.
Gasiorowski, Mark. 1987. “The 1953 Coup d’Etat in Iran.” International Journal of Middle East Studies 19:261-79.
Krasner, Stephen D. 1978. Defending the National Interest: Raw Materials Investments and U.S. Foreign Policy. Princeton: Princeton University Press.
Loewenstein, Karl. 1944. “Report on the Research Panel on Comparative Government.” American Political Science Review 38:540-48.
Miller, Aaron David. 1980. Search for Security: Saudi Arabian Oil and American Foreign Policy, 1939-1949. Chapel Hill: University of North Carolina Press.
Mitchell, Timothy. 1988. Colonising Egypt. Cam-bridge: Cambridge University Press.
Mitchell, Timothy. 1990. “Everyday Metaphors of Power.” Theory and Society 19:545-77.
Mitchell, Timothy. N.d. “The Effect of the State.” Journal of Historical Sociology. Forthcoming.
Nettl, J. P. 1968. “The State as a Conceptual Variable.” World Politics 20:559-92. Nordlinger, Eric. 1981. On the Autonomy of the Democratic State. Cambridge: Harvard University Press.
Nordlinger, Eric. 1987. “Taking the State Seriously.” In Understanding Political Development, eds. Myron Weiner and Samuel Huntington. Boston: Little Brown.
Nordlinger, Eric.’ 1988. “The Return to the State: Critiques.” American Political Science Review 82:875-85.
Poulantzas, Nicos. 1974. Political Power and Social Classes. London: New Left Books. Poulantzas, Nicos. 1978. State, Power, Socialism. London: New Left Books.
Pye, Lucian. 1956. Guerrilla Communism in Malaya: Its Social and Political Meaning. Princeton: Princeton University Press.
Sabine, George. 1934. “The State.” Encyclopedia of the Social Sciences. New York: Macmillan.
Schmitter, Philippe. 1985. “Neo-Corporatism and the State.” In The Political Economy of Corporatism, ed. Wyn Grant. New York: St. Martin’s.
Skocpol, Theda. 1979. States and Social Revolutions: A Comparative Analysis of France, Russia, and China. Cambridge: Cambridge University Press.
Skocpol, Theda. 1981. “Political Response to Capitalist Crisis: Neo /Marxist Theories of the State and the Case of the New Deal.” Politics and Society 10:155-201.
Skocpol, Theda. 1985. “Bringing the State Back In.” In Bringing the State Back In, eds. Peter Evans, Dietrich Rueschemeyer, and Theda Skocpol. Cambridge: Cambridge University Press.